التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 21- الكرامة الخارقة للعادة، الرأسمال الرمزي للحاج علي الدرقاوي الإلغي 1

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

 

تدخل الكرامة (لا تقدم المعاجم توضيحا لغويا لمفهوم الكرامة، فابن منظور انتهى إلى القول بأن الكريم من أسمائه تعالى، وأن الكرامة تعني : “الطبق الذي يوضع على رأسه الحب والقدر”: ابن منظور جمال الدين، لسان العرب، مادة كرم ،المجلد12، ص: 515.أما الكرامة في المعجم الصوفي فلها دلالة غير ما شرحه بها ابن منظور فهي تعني وقوع خوارق العادات على يد الأولياء الذين خرقوا عادة الخلق في مخالفة النفوس والتقرب إلى الله تعالى، وقد جمع “النبهاني” ما مجموعه مائة حديث نبوي للبرهنة على جواز وقوعها وذكر أربعة وخمسين وليا من أولياء الصحابة : محمد حلمي عبد الوهاب، ولاة وأولياء السلطة والمتصوفة في إسلام العصر الوسيط، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت،2009، ص:103.) في سياق أدب المناقب الذي أولى أهمية كبيرة لدراستها وقد ابرز هذا التخصص تعارض فيما بين أراء المؤرخين، ما بين مرتقيا بها إلى مستوى الحدث التاريخ وملغيا لها معتبرا إياها من الزوائد التي تشوش على القضايا المهمة في النص المنقبي ( الاجتماعية والسياسية والاقتصادية)، وهناك من اعتمدها لدراسة ” تاريخ المتخيل الجماعي والعلاقة بين المتخيل والممارسة الاجتماعية” فكرامات الحاج علي الإلغي التي أرخ لها ابنه المختار السوسي والتي انتقاها من أفواه مريدي الشيخ تدخل في إطار ما يصطلح عليه في الأدبيات الصوفية ب “خرق العادة” وقد تطرق رواد التصوف الأول- وفي مقدمتهم الشهرستاني- إلى أهمية الكرامة وفكروا في المشككين في حقيقتها ، فأجابوهم بكون الكرامة ما هي إلا نسخ لمعجزة نبوية، إذا ما كان الولي تابعا للنبي في معاملاته. وبخصوص النموذج الصوفي الذي نعتمده في هذه المساهمة سيتضح أن كرامات الحاج علي الإلغي أسست لمشروعيته الدينية من جهة، لتنمية رأسماله الرمزي، من جهة أخرى فإذا كان الشيخ قد أثبتها لمريديه ومعاصريه من الشيوخ، فإن الابن المختار السوسي أعاد إنتاجها ودافع عنها وأحاطها بهالة من القدسية، فهي ليست حدثا اعتباطيا في نظره بل مكافأة لأبيه على “مجاهدته”، وقد دافع المختار السوسي عن الكرامات المنسوبة لأبيه في زمن عرف هجوما فكريا على متصوفة المغرب من طرف التيار السلفي ورجالات الحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
تستمد ولاية الشيخ علي الإلغي مشروعيتها من سلطة الكرامة المؤسسة لمشروعه الروحي والصوفي، فقد تواتر عنه –حسب ابنه المختار السوسي- ما يزيد عن خمسين كرامة وصل بعضها إلى درجة خرق العادة والوصول إلى مكاشفة الذات الإلهية ومكالمتها، ويعتبر هذا الشيخ حالة استثنائية مقارنة مع شيوخ المنطقة الذين عاصروه كما هو الحال بالنسبة “للحاج الحسين الإفراني” ، فقد سمح له رصيده الرمزي أن يعلن عن مجالسته للرسول(ص) مرات عديدة مع تأكيد وإلحاح ابنه المختار السوسي على أن المجالسة تمت يقظة لا نوما مبررا طرحه هذا بقرائن تثبت ذلك كرؤية أبيه الشيخ للرسول وهو على وضوء، مما يعني إسقاط إمكانية رؤيته في المنام التي نجدها قاعدة لإثبات الولاية عند بعض متصوفة الجنوب المغربي. كما أبهرنا الشيخ وأدهشنا لما أكد على أن الله كلمه باللسان الامازيغي بعبارة ” تحرك إلى الأمام، فالقمح سيزداد ” (سمع الشيخ هذه العبارة باللسان الأمازيغي : ” زد هان إردن ران إدزيادن ” لما كان بمنطقة إنشادن ويصر الشيخ إلى أن مصدر العبارة من الله مادام كان مستغرقا في حضرته . وقبل أن يأذن له الله على أخذ ورد الطريقة فقد سبقه إذن شيخه سنة 1299ه/1881. أنظر بخصوص هذه النقطة، السوسي محمد المختار، المعسول ، ج1، ص : 225.)وهو ما لم يحدث مع أحد من الشيوخ المتصوفة، على حد علمنا اللهم إذا استثنينا حالة كليم الله، موسى عليه السلام. وبالمقابل أعلن الشيخ مرات عديدة وفي عدة مناسبات أنه رفض إجازة الطريقة والإذن له بها من شيخه “المعدري” لما أرسله إلى الصويرة سنة 1299/1881، مبررا ذلك بكون الإذن في الطريقة و المشيخة لا يأتي إلا من ثلاثة، (الشيخ والرسول (ص) ثم الله عز وجل)، وهذا إن كان يدل على شيء فإنما يدل على أن الشيخ تجاوز ذلك التقليد الكلاسيكي في إثبات مشروعية الولاية والتي لا تمنح شرعيتها إلا بالانتماء إلى الأسرة النبوية والحصول على النسب الشريف أو نيل الإذن من الشيخ، فمجالسة الرسول والتكلم مع الله فيه نوع من المبالغة لكن قبوله والتسليم به يساعدنا في فهم ذهنيات المجتمع السوسي خلال تلك الحقبة التي أنتجت خلالها الكرامة.


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 19/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *