يعتبر محمد الهرادي واحدا من الكتاب المغاربة الذين ساهموا في إثراء المشهد القصصي والروائي بإسهاماتهم المتفردة. صدرت للهرادي مجموعة من الأعمال، من بينها «اللوز المر»، و «دانتي» و «أحلام بقرة» وغيرها. وتنتمي مجمل أعماله إلى ما يسمى بجماليات التجريب التي انتشرت في المغرب خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. ويعتبر التجريب أفقا إبداعيا جديدا كان يراهن على تجديد شكل الكتابة السردية عن طريق خوض مغامرات إبداعية جديدة. وقد انخرط في هذا الأفق العديد من الأدباء أمثال أحمد المديني والميلودي شغموم ومحمد عزالدين التازي ومحمد برادة وغيرهم.
رواية «معزوفة الأرنب» الصادرة سنة 2022 عن دار المتوسط، هي الرواية الأخيرة لهذا الكاتب. وقد اختار لها شخصية تراوح بين الجنون والعقل،الحقيقة والوهم، الواقع والخيال لذلك بدأ يتوهم أنه واحد من أعضاء الأسرة الملكية التي حكمت روسيا القيصرية قبل الثورة، خاصة بعد أن نظر إلى وجهه في المرآة واعتقد، بسبب خبله، أن هناك شبها بينه وبين القيصر الروسي «نيقولا الثاني». هذا الاعتقاد جعله يلقب نفسه ب «صاحب السمو»، فأضحى يعيش بين عالمين وفضاءين: فضاء حقيقي هو المغرب وعالم متخيل وهو روسيا بماضيها وأدبائها وقادتها وتاريخها. وهذه البنية المنشطرة والمتشظية هي التي طبعت الرواية من بدايتها إلى نهايتها.
يشتغل إدريس في مصلحة الأرشيف، وهي مصلحة تحوي الكثير من الأسرار والوثائق ذات الصلة بالماضي والحاضر في نفس الآن. عاش طفولة قاسية بعد أن فقد والده في ظروف الاقتتال الدموي الذي عاشه المغرب بعد الاستقلال، خاصة بين فصيليه الأساسيين: حزب الاستقلال وحزب الشورى، وهي الأحداث التي كان إدريس شاهدا على فظاعاتها وآلامها إذ ظلت العديد من مشاهد القتل والحرق والسحل ماثلة أمام عينيه، تقض مضجعه وتربك حياته فيحاول درء قساوتها عن طريق الإغراق في الكحول والتماهي مع شخصيات روسية كطريقة منه للهروب من ماض يطفح بالجثث والدماء والألم ، بما فيها دماء والده. يقول السارد في هذا الصدد: «حين كان يستلقي أحيانا على الكنبة في ركن من الأستوديو الصغير الذي أجّره وسط العاصمة الرباط منذ كان طالبا في شعبة الفلسفة، وهو محاط بركام الكتب التي تملأ المساحة الضيقة، ويواجه صورة والده المعلقة على الجدار، يشعر أن دمه الذي كان يجري راكضا بخفة في شرايينه أخذ ينزف بشكل لا يمكن توقيفه. يتصور أن قطرات حمراء تتسرب من بين أصابعه، وهي تسقط، تشكل خطا أحمر متقطعا خلال سيره، ويتبعه ذلك الخط القرمزي إلى كل مكان.» (ص5)
سعاد، صديقة إدريس، هي الأخرى تجرعت اليتم منذ كانت صغيرة وتعهدها والدها الذي رفض الزواج كي يتفرغ لها. فهي مثلها مثل إدريس الروسي تدمن قراءة الكتب كما أنها هي الأخرى تشعر أنها قرينة جدتها من والدها التي تحمل اسمها (السعدية) وتحمل أيضا الكثير من مواصفاتها.
وجد كل واحد منهما ضالته في الآخر، خاصة أنهما معا كانا متحررين من الكثير من المواضعات الاجتماعية، إذ كانا معا يلجان حانات الرباط دون حرج، كما أن علاقة سعاد بسي موح وبالكاموني في ما بعد لم تكن تثير غيرة إدريس الروسي، فكلاهما كان ينطوي على جراح وندوب يحاول درءها والانتصار عليها عن طريق علاقته بالآخر.
إن تماهي إدريس مع العالم الروسي جعله يصنع دمى في بيته ،ويطلق عليها أسماء روسية ويكلمها كأنها شخصيات حقيقية. أما العجوز الروسية التي كان يصادفها بين الحين والآخر في طريقه. فقد أصبح يتهيأ له أنها جدته المنشفية محاولا التقرب منها . صورة هذه المرأة لم تكن تفارق خياله كما أنه كان يجري معها حوارات وهمية ويفكر في قتلها كما قتل بطل دوستويفسكي راسكولينيكوف تللك العجوز المرابية.
أصبح إدريس الروسي، بسبب خبله وشذوذه، يعيش هوية ممزقة، هوية تتراوح بين المغرب، بلده الأصلي، إذ أنه ولد ونشأ بإحدى مدن الشمال وتابع دراسته بالرباط تخصص الفلسفة، وبين روسيا البلد الذي يتوهم أنه البلد الذي طردت منه أسرته القيصرية بعد أن قام البلاشفة بثورتهم الشهيرة.
يحضر المحكي الروسي في الرواية بكثرة، سواء من خلال الأحداث الكبرى التي عاشها هذا البلد، أو من خلال بعض رموزه وأعلامه الثقافية والسياسية. وقد تماهى إدريس مع هذه العوالم إلى درجة أنه أصبح يخرج بعض الوثائق الروسية من مصلحة الأرشيف ويأخذها معه إلى بيته، وينكب على قراءتها والاطلاع عليها كي يبقى على صلة بالعالم الذي يتوهم أنه انحدر منه.
شغفه بالعالم الروسي دفع به إلى الشروع في تعلم اللغة الروسية حتى يتأتى له التقرب من بعض الروس الذين يقطنون مدينة الرباط. وستتوثق علاقته في ما بعد ببعض العائلات الروسية الذين زودهم ببعض الوثائق السرية المرتبطة بمدى حضورالجالية الروسية في المغرب. اختفاء هذه الوثائق سيعرضه للاعتقال والتعذيب لمدة شهرين مما زاد في معاناته النفسية، فأضحت آلام الحاضر تتصادى مع آلام الماضي الذي لم تفارقه جثته المبقورة والمحروقة حتى أصبح يردد «أنه لا يوجد شيء اسمه العالم الحقيقي»(ص55) هكذا أصبحت تتراءى له « وجوه لا يراها بوضوح حين تتلبسها صور خلفية غائمة: أنصاف وجوه وأطفال يركضون وقطع أطراف بشرية وجثث. أشلاء بطون مبقورة وعفن راكد له رائحة الموت. خلفية مقيتة. حفلة دم سادية بين أنصار حزبين متنافسين: الاستقلال والشورى» (ص61).
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن أحداث الرواية ليست كلها مستوحاة من صميم الواقع، بل هناك عناصر غرائبية ترخي بظلالها على النص مثل صورة محمد الخامس التي كانت محاطة بهالة أسطورية خرافية من قبيل الزعم بأنه كان محروسا من طرف ملاك ذي جناحين عندما كان في المنفى، بالإضافة إلى حكاية الطفلتين الروسيتين اللتين توفيتا منذ سنوات إلا أن إدريس يؤكد أنه رآهما في الحديقة تلعبان مع أرنب أبيض. حضور هذا البعد في النص جعله ينوس بين ما هو واقعي وما هو مفارق للواقع. وقد ساهمت الذاكرة المتعبة لـ»صاحب السمو» في هذا النوسان وهذه المراوحة.
بهذا الصهر والتوليف بين عوالم متباينة، أصبحت الرواية عبارة عن فسيفساء من المحكيات والأحداث والعلامات، منها ما له صلة بالتاريخ ومنها ما له صلة بالأدب أو السياسة أو غيرها من مجالات الحياة. وفي هذا السياق وردت مجموعة من أسماء الأعلام مثل: لينين، ستالين، تروتسكي، مايكوفسكي، نيقولا الثاني، نابليون، ليوطي، بارت، محمد الخامس…وأسماء أخرى كثيرة.
غير أن المحكي الأكثر حضورا والأكثر إيلاما لإدريس هو المحكي التاريخي المرتبط بما عاشه المغرب في فجر الاستقلال ، والذي كان إدريس شاهدا على فظاعاته وهو في ميعة الصبا. يقول السارد: « التفت ورأى حشدا من المسلحين بالسكاكين والسواطير والعصي وقد خرجوا من جنبات الساحة، ومن خلف جدار مكتب المراقب المدني. شعب مخفي من صغار القتلة نهض من الشقوق وركام الأتربة ونشر أغنية موت في الساحة»(ص73).
حاولت رواية «معزوفة الأرنب» استعادة الذاكرة المحلية وجزءا من الذاكرة الإنسانية مركزة بشكل خاص على ما سماه الأستاذ محمد برادة في الكلمة المثبتة على ظهر غلافها ب «الداء الوطني». يقول :»لن يفلت القارئ من سحرها قبل أن يستوعب دلالاتها ورموزها التي تستوحي مشاهد الطفولة الملتحمة بتاريخ المغرب قبيل الاستقلال ثم بعده، كما سيتوقف عند شخصيتي إدريس الذي لقب نفسه ب»صاحب السمو» وسعاد التي درست الأدب الإنجليزي، وواجهت تجربة تحقيق الذات، من خلال علاقة ملتبسة مع إدريس المفتون بتاريخ روسيا وأبطال ثورتها وروايات كتابها وسمفونيات موسيقييها….»
سؤال الهوية والتباساتها في النص لم يبق محصورا في شخص إدريس الممزق بين روسيا والمغرب، بل مس أيضا شخصيات ومعالم ومظاهر أخرى في الرواية كسعاد الممزقة بين أناها وأنا جدتها، وكذا البنية الاجتماعية المغربية التي عرفت تحولات في فجر الاستقلال برحيل عدد من اليهود المغاربة الذين كانوا يشكلون جزءا من هوية المغرب. أما الدفاع عن هوية المعمار وأصالته من طرف الكاموني فلم يكن مستساغا من طرف إدريس الذي يرى في هذه الهوية الكاذبة «مذبحة للهندسة المعمارية» على حد تعبيره.
وختاما ف «معزوفة الأرنب» لمحمد الهرادي شذت عن البناء التقليدي والكلاسيكي لبناء الرواية، فالحكاية فيها شبه منتفية وبنية الزمن متشظية ولا تخضع للتسلسل المعتاد، والشخصيات تشوبها الكثير من الالتباسات. لهذا سيجد القارئ صعوبة في الولوج إلى عوالمها بيسر لأن الأمر سيتطلب منه بذل بعض الجهد والتحرر من عاداته التقليدية في القراءة.
لقد ساهمت هذه الرواية في إماطة اللثام على مرحلة مظلمة من تاريخ المغرب، وهي مرحلة فجر الاستقلال وهذا يبين أن التاريخ لا يزال مادة خاما للروائيين لنسج عوالمهم وبناء حكاياتهم.