طفلٌ مثلُ جيك (A Kid Like Jake) 2018 فيلم عائلي موضوعه أسرة أمريكية تتكوّن من غريغ الأب وأليكس الأم وطفلهما جيك البالغ من العمر 4 سنوات. رغمَ أنّ جيك صغير إلا أنه يعبّر عن ميوله الجنسية من خلال ولعه بارتداء الفساتين، حبّه لقصص أميرات ديزني (مثل سندريلا والحوريّة الصغيرة)، رسوماته ومحاولاتها المتكررة لإخفاء عضوه الذكري أثناء الاستحمام. لا تتقبّل الأم حقيقة أنّ طفلها مختلف عن باقي الأطفال وتواجه الأمر بالإنكار والغضب إلا أنها تتمكّن في نهاية الفيلم وبعدَ صراعٍ طويلٍ من تقبّل طفلها كما هو/ هي. الفيلم مأخوذ عن مسرحية تحملُ نفسَ العنوان للكاتب دانيل بيرل Daniel Pearle ويطرح مواضيع عديدة تتعلّق بالهويّة الجنسيّةsexual identity ، التوجّه الجنسي sexual orientation والأدوار الجندرية gender roles . يدور الصراع بين أم لا تريد تسمية الأشياء بمسمّياتها ولا تعترف بوجود علامات تشكّل الهويّة الجنسيّة لدى طفلها وبين أب مُنفتح ومُتقبّل لهويّة طفله العابر للجندر. يُسلّط الفيلم الضوء على دور كل من العائلة والمدرسة والمجتمع في نشر التوعية بخصوص هذه القضايا الإنسانية المُلحّة، كيفية التعامل معها وضرورة احتضان كل إنسان بحسب اختلافه وتميّزه لأنّ كل منّا جزء من طيف جنسي ملوَّن ومتنوّع. بمعنى آخر يضعنا الفيلم أمام حقيقة واقع يتوجّب علينا التعامل معه بمسؤوليّة ووعي بدلاً من الإنكار والتهميش ورشق الاتهامات التي لا جدوى منها.
جيك لا مكان له في النظام الجندري الثنائي الذي يختزلنا إلى إناث وذكور. “فالجندر مفهوم يختلف عن الجنس sex باعتباره مُعطى بيولوجياً، ويعني الأدوار والاختلافات التي تقرّرها وتبيّنها المجتمعات لكل من الرجل والمرأة” (رجاء بن سلامه 119). خرجَ جيك بطبيعته المختلفة عن هذه الثنائيات القاتلة والمشوّهة لإنسانيتنا ولتنوّعنا البيولوجي، فهو لا يلعب كسائر الأولاد ويفضّل ارتداء اللون الزهري بدلاً من الأزرق. اعتادت معظم العائلات على فرض الحدود الجندرية على أطفالها؛ فعلى سبيل المثال، الأولاد يلعبون بالمسدسات والدبابات لا بدُمى الباربي وأدوات المطبخ. هذا الفصل الجندري هو بمثابة حجاب لا بُدّ من خرقه لاكتشاف عمق التجربة الإنسانية بألوانها وميولها الجنسية والعاطفية والفكرية المتنوّعة. لم يواجه الطفل جيك هذه العقبة في بادئ الأمر حيث كانت والدته أليكس قد قلبت الأدوار الجندرية رأساً على عقب فكانت تروي له قصص الأميرات وتُحضر له الفساتين أيضا،ً ولكن عندما تبيّنَ لها أنّ هويّة جيك لا ذكر ولا أنثى بل مُحيّرة أو ربّما عابرة للجندر انتابها الخوف وشعرت بالذنب لما فعلت. إنّ “تمرّد” أليكس على الأدوار الجندرية لم يكن حقيقياً بل كانَ ضرباً من اللهو وفيه شيء من التشييء objectification والتملّك لطفلها. فعندما جدَّ الجدّ كما نقول أسدَلتْ حجاب الفصل الخاص بالنظام الثنائي الجندري لتفرضَ هويّة مُعيّنة على جيك وهنا اشتدّ الصراع بين الأم وطفلها وبين الأم والأب. لم تكن أليكس تلك الأم الحداثوية التي يمكن أن تقول لطفلها: “الإنسان في أي مكان يولدُ فيكون أنثى أو ذكراً أو غير ذلك” (رجاء بن سلامه 141). كانَ لا بدَّ لها أن تتجاوزَ صراعاتها الداخليّة أولاً والأحكام المُسبقة والتربية التقليدية التي نشأت عليها قبل أن تُنشئ طفلاً مثل جيك، فالإنسان في أي مكان لا يولد ذكراً أو أنثى بل يولدُ متغاير الجنس heterosexual، أو مِثليّا homosexual، أو مزدوج الجنس bisexual ، أو عابرا للجندر transgender ، بينجنسي intersex وغيرها. يُعزى هذا التنوّع إلى الهرمونات التي ساهمت في تشكيل الجنين فيصبح لكل منّا بصمته المخّية أو المعرفيّة الخاصة – وتُعرف أيضاً بالعارف المتموضعSituated Knower – التي لا يستطيع أحد تغييرها (عماد فوزي شعيبي 8). إنّ لكلّ منّا هويّة مُتموضعة تُحدّدُ مُسبقاً بصمتنا العاطفية أو ذكاءنا الوجداني وبصمتنا الجنسيّة أو توجّهنا وميلنا الجنسي.
يعرضُ الفيلم عدّة ثنائيات يهدفُ من خلالها إلى المساءلة وتسليط الضوء على نسبيّة “الحقيقة”: الثنائية الأولى هي أليكس وغريغ، الثنائية الثانية أمل وصديقها، والثالثة جودي ولين. إنّ الفيلم غير نمطي وجدَلي حيثُ يدعونا إلى خلخلة الثنائية النمطيّة التي اختزلت إنسانيتنا بالمعادلة الزوجيّة ذكر-أنثى من خلال عرضه لثنائيّة أنثى-أنثى (لازبيان) وهذه الأخيرة ليست جديدة بل قديمة قدم التاريخ (بن سلامه 18). إنّ علاقة أليكس وغريغ تمثّلُ الجدال الرّاهن الذي يضعُ المجتمعات الإنسانية بين كفتيّ البطريركية وما بعد البطريركية وإنّ هذا العبور لن يتمّ سوى بتحمّل المسؤوليّة تجاه التنوّع الجنسي والإعتراف به. كان على أليكس وغريغ أن يخوضا رحلة مؤلمة ليصلا إلى التناغم والوعي المطلوبين لاستيعاب حالة طفل مثل جيك. أما بالنسبة للثنائي الثاني فإنّ صديق أمل يعاني من رُهاب المثليّة ومن التعصّب الجنسي ضد المرأة أي أنه يمثّل النظام البطريركي بسلطته الأحادية وصورته النمطيّة عن المرأة ومجتمع الميم (LGBTQ). بينما يشكّل الثنائي الثالث والمفاجئ في الفيلم صوتاً آخر خارجَ صندوق الأدوار الجندرية النمطيّة. إنّ هذا الثنائي (جودي ولين) هو الورقة الأخيرة في اللعبة والتي يسعى الكاتب من خلالها إلى مساءلة المعتقدات الخاصة بالهُويّة، الزواج، والإنجاب. لا نعلمُ شيئاً عن حياة جودي الخاصّة سوى أنّها مديرة مدرسة وصديقة العائلة. جودي، المديرة في مدرسة جيك، هي التي تراقب سلوك جيك اللانمطي وتنصحُ وتُرشدُ أليكس وغريغ بخصوص المِنح الدراسية المتاحة أمام جيك وكيفية التعامل معه. لقد أخفى الكاتب حقيقة هويّة جودي المثليّة حتى نهاية الفيلم لئلّا نحكمَ على دعمها لجيك بناءً على بنيتها البيولوجية التكوينية. وبهذه الحركة ربّما أرادَ أن يقول أيضاً إنّه يتوجّبُ علينا النظر إلى الإنسان كإنسان بعيداً عن التسميات لأنّ بصمتنا المخيّة ليست من اختيارنا. كان على أليكس أن تُحطّمَ القوالبَ الجاهزة التي تحدُّ من تشكّل هويّتنا بشكل طبيعي وصحّي وأن تتجاوزها لتصلَ أخيراً إلى الثنائي (جودي ولين). إنّ هذا الثنائي الليزبياني ليس ثنائيا بديلا لكنه واحدٌ من بين ثنائيات كثيرة في الطيف الجنسي (وفي بعض الأحيان يتجاوز الثنائيات إلى الثلاثيات أو أكثر). الحل إذاً يكمن في التنوّع بدلاً من الاختزال، في الإنفتاح بدلاً من التقوقع، في السعي نحو بناء ثقافة جديدة تقوم على الاحتفاء بالآخر بدلاً من شيطنته وتجريمه.
يُظهرُ الفيلم إنّ التغيير في المجتمعات الغربيّة هو تغيير تدريجي يجب أن يشمل جميع قطاعات المجتمع لكي يكون له أثر فعّال وحقيقي. إنّ دعم قضية مثل قضية الهويّة الجنسيّة أمر غير منفصل عن تطوّر البحث العلمي في مجال الطبّ البشري والنفسي وفي المجال التربوي والتعليمي والأكاديمي. فعندما كانَ الوالدان يشعران بالعجز والضياع حيالَ وضع طفلهما جيك، قدّمت المدرسة لهما النصيحة والإرشاد اللازم وأخيراً كانَ لابدّ أن يتوجّها إلى الطبيب النفسي لفحص جيك وقبوله كما هو/ هي. نعم كان على الأم النمطيّة أن تتبّدل بدلاً من أن تغيّرَ طفلها حسبَ أهوائها وهذا ما حدث. وهنا يأتي السؤال الأكثر أهميّة: ماذا عنكم؟ كيفَ ستتعاملون مع أبنائكم فيما لو كانوا مِثليين أو مزودجي أو متعددي الميول الجنسية؟ بالنسبة للمشاهد العربي – وهنا لا أعمّم لأنّ التعميم خطأ – إنّ هذا الفيلم العائلي صادِم وغير مألوف بل لا أتوقّع من عائلاتنا مشاهدته أو مناقشته لأنه يتناول قضايا تُعتبر إلى يومنا هذا من التابوهات إلا أنّي أرى في الفيلم مادة دسمة ولطيفة للتربية الجنسية. لا يمكن للناقد إلا أن يتفحّص حال الأسرة الأمريكية كما عرضها الفيلم والتي كان عليها أن تعيش صراعا ثقافيا بالدرجة الأولى بين الماضي الغارق في الإثم والشيطنة والحاضر المُنفتح على الآخر، بين واقع التنمير والرفض الذي واجهه جيك وضرورة قبوله واحتضانه بدلاً من اتهامه بالشذوذ. أرى في هذا الفيلم حاجة مُلحّة إلى تغيير المناهج المدرسيّة والجامعيّة في العالم العربي، إلى التجديد ونشر الوعي، إلى إقامة برامج توعية بالتوجّه الجنسي والصّحة الجنسيّة، وحاجة أيضاً إلى تحديث القوانين. بدأ بالفعل هذا التغيير يحدثُ تدريجياً من خلال الكتابات الأكاديمية (وهنا أودّ أن أذكر بعضاً من المفكّرين البارزين في هذا السياق مثلَ رجاء بن سلامة، ألفة يوسف، عبد الصمد الديالمي، عماد فوزي شعيبي، جمانة حداد) ومن خلال العديد من البرامج الإعلامية (للإعلامي طوني خليفة، جعفر عبد الكريم، تمّام بليق وغيرهم) وعبر أغاني الفرقة الموسيقية اللبنانية مشروع ليلى. لا يمكننا أن نغلقَ أعيننا عن حقيقة ما يحدثُ حولنا من “خرق” بالمعنى الإيجابي للكلمة لمنظومة النظام الجندري الثنائي على جميع المستويات وأوّلها الفردي ومن ثمّ المؤسساتي. وبفضل هذه “الثغرات” سنتمكّن من السباحة شاقولياً بدلاً من العَوم في مستنقعٍ من المُغالطات الدينية إلى فضاءٍ رحب يُزيّنه قوسُ قزح (عَلَم وعلامة مجتمع الميم) كما كانَ وعدُ الله لسيّدنا نوح بعدَ أن أنقذه من الطوفان. أرى هذا الصراع الثقافي الذي كان على الأسرة الأمريكية أن تتجاوزه وتفكَّ شيفراته قابعًا في قلبِ كلٍ منّا مثلَ وحشٍ يرفضُ أن يرحل ما لم نجتثَّ جذوره الضّاربة في عمق التفاسير الدينية السائدة.
المراجع
بن سلامه، رجاء: بنيان الفحولة، أبحاث في المذكر والمؤنث، بترا: دمشق، 2005.
شعيبي، عماد فوزي: كيف تفكر الأنثى، بيسان، بيروت، 2017.