الثقافة السينمائية، مدخل السينيفيليا

 

ماهي السينيفيليا؟
-هل يمكن أن نعتبر الإقبال على مشاهدة كم هائل من الافلام سينيفيليا؟
– هل السينيفيليا هي إعادة إنتاج فعل مشاهدة الأفلام في سلوك اجتماعي، أو في خطاب حول السينما أيا كان شكله ووسائطه، أو في شكل انتاج سينمائي يحيل على ما سبقه بلعبة الاستلهام والاشارة، والإحالة، والتناص، خالقا بذلك حوارا بين أفلام من أزمنة ومدارس سينمائية مختلفة، وينتقل بالسينما من التراكم الرقمي إلى التراكم الكيفي في خط يتبلور معه مفهوم تاريخ السينما أو تاريخ السينمات الوطنية، أم أن السينيفيليا تتوقف عند المشاهدة والتمتع بالفيلم، ومعرفة تواريخ إنتاج الأفلام، وأسماء مخرجيها، ونجومها، وطرائف مرتبطة بتصويرها، وقصص الحب التي عاشها أبطالها على هامش التصوير؟
ماذا نعني بالسينيفيليا؟
يبدو الجواب بديهيا، لكنه ربما ليس كذلك. فكلمة السينيفيليا ليس لها نفس المعنى في المغرب أو العالم العربي وأوروبا مثلا. نعتبر، في المغرب، أن السينيفيلي هو «عاشق السينما»، لكن ليس أية سينما؛ فمثلا إن عاشق أفلام فنون الحرب أو أفلام استوديو مارفيل أو أفلام بوليود الهندية، عموما السينما التجارية، لا يعتبر من طرف المهتمين في المغرب سينيفيليا، مع أنه ليس هناك، في باقي دول العالم، أي تمييز بين السينما التجارية، وسينما المؤلف فيما يخص السينيفيليا.
إذا بحثنا في التاريخ، فسنجد أن السينيفيليا هي ظاهرة طارئة لا يتعدى عمرها في نظري الستين سنة، حيث إن تعميم وانتشار ظاهرة النادي السينمائي، وارتياد الخزانات السينمائية، لمشاهدة أفلام من تاريخ السينما أو سينما الشعوب، انتشر بشكل واسع في الخمسينيات القرن الماضي.
في بدايات السينما، لم يمكن هناك وعي بأهمية حفظ الذاكرة السينمائية، واحتمال وجود جمهور لأفلام انتهت صلاحيتها التجارية المرتبطة بمدة محدودة في الزمان والمكان.
لم يكن التكوين السينمائي يعتمد على الفرجة، ولا على الهواية، ولا يسبقه تكوين أكاديمي، ولكنه كان يبدأ داخل معمل صناعة الفيلم/ الاستوديو. لا ينطلق من البحث عن وسيلة للتعبير، ولكن كحرفة، هناك من استطاع بالممارسة الواعية أن يحولها إلى ممارسة ابداعية، الشيء الذي لم يكن آنذاك قاعدة، مع بعض الاستثناءات من فنانين من خارج السينما، حصل لهم وعي مبكر بالبعد الفني والحداثي للسينما، قد نذكر منها المدرسة الروسية التي لم يكتب لها أن تستمر لأسباب سياسية وتجارب حركات فنية كالدادائية والسريالية.
مع ظهور التلفزيون تحولت السينما ومعها المجتمع، لوجود منافس جديد في حكي القصص بالصور المتحركة، حيث ستعرف السينما ظهور نوعية جديدة من الأفلام، بالإضافة إلى الأفلام الجماهرية، ظهرت أفلام كتجارب سينمائية متفردة -لا يمكن تصنيفها حسب الأنواع سينمائية المتداولة –أعمال سينمائية توجد مند البداية كذلك، أي أعمال فنية، وليست فقط انفلاتا ابداعيا من داخل نمط الإنتاج السائد، وهي أفلام تعبر كليا عن مواقف مخرجيها ومستقلة عن سلطة المال، وتختار أشكال مختلفة في السرد، ربما لم يتعود عليها الجمهور الواسع بعد، وفي قطيعة مع تقاليد، ونمط الانتاج المتعارف عليهما، نذكر من بينها تحول النجومية من شخص الممثل إلى المخرج. حيث إنه بعد الحرب العالمية الثانية، وبالضبط في سنوات الخمسينات، وبعد الواقعية الجديدة، سيظهر مثلا بفرنسا جيل من المخرجين، تَكون أساسا داخل المكتبة السينمائية والأندية السينمائية، ورأى العالم من خلال شاشة السينما، وهي ظاهرة كانت جديدة في حينها، حيث سيصبح تعلم السينما ممكنا من خلال مشاهدة الأفلام أي السينيفيليا فقط. نعلم أن هذا الجيل الذي اقتصر تكوينه على مشاهدة الافلام فقط، ثم مارس النقد في مرحلة الثانية، ثم انتقل إلى الإخراج، ولم تأت أفلامه تنفيذا حرفيا لما كتبه عن السينما، وبالعكس جاءت أعمال كل مخرج مختلفة عن الآخر، وعن الأفلام التي دافعوا عنها، خصوصا أفلام السينما الأمريكية، التي اجتاحت القاعات الأوربية، بعد أن كانت قد غابت عنها مدة الحرب، والاجتياح الالماني النازي لعدد من الدول الاوروبية.
في المغرب، ارتبطت السينيفيليا، مند بداية السبعينات، وبالضبط مع تأسيس الجامعة الوطنية للأندية السينمائية أو بالأحرى مغربتها سنة 1971، إلى التسعينات من القرن الماضي، بالدفاع عن الإنتاج الوطني والمطالبة بوجوده، واستكمال التخلص من الإرث الاستعماري من خلال امتلاك الجماهير أدوات وآليات الانتاج السينمائي بصناعة صورنا بأنفسنا، وواجهة للصراع السياسي، والثقافي في أفق التغيير، حيث كان تعتبر تربية الدوق والجمال كمرحلة لاكتساب ملكة تمييز الظلم والاستغلال والثورة عليهما، في سياق حركة التحرر العالمية. أصبحت حركة الأندية السينمائية، في إطار الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، مدرسة حقيقية أو «جامعة شعبية»، تخرج منها ليس فقط بعض السينمائيين والنقاد، ولكن السياسيين والجامعيين، عموما تخرجت منها أطر في مختلف مجالات الحياة، وصلت إلى أعلى مراكز القرار.
في الحقيقة تخرج من الجامعة القليل من السينمائيين، بالمقارنة مع عدد المنخرطين في الاندية السينمائية في فترة معينة، لأن معادلة السينما والسياسة في الغالب، كانت تميل داخل الأندية لصالح السياسة، نظرا للظروف السياسية التي كان يعرفها مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وعندما حصل الوعي بضرورة الاستقلالية النسبية للسينما عن السياسة، خصوصا في التسعينات، كانت الأزمنة قد تحولت، ومعها عادات الفرجة، التي انتقلت من الفضاء العمومي إلى الفضاء الخاص، من قاعات السينما إلى البيوت، وكان المد اليساري الذي كان يراهن في حساباته على الثقافة والسينما بشكل رئيسي، قد تراجع لصالح حركات الإسلام السياسي في العالم العربي والمغرب على وجه الخصوص.
مع موت القاعات السينمائية وانقراضها -خصوصا في المغرب- والتطور التكنولوجي الذي عرفه العالم، من ظهور الكاسيت VHS إلى منصات المشاهدة، أصبح فعل مشاهدة الأفلام فرديا بشكل مطلق، واستهلاكيا وغير منتجا مع وفرة الأفلام، باستثناء مناسبة عروض في مهرجانات محدودة، وبالتالي فإن الافلام، بحكم سرعة وثيرة المشاهدة ووفرتها، أصبحت تندثر وتتبخر ما أن تظهر إلى الوجود، ولا تنطبع في الذاكرة، ولا تصنع الحدث الثقافي، وبالتالي يصبح عمرها قصيرا، مهما كان مستواها والجوائز التي حصلت عليها، حتى بعض الأفلام التي تتحول إلى ظواهر اجتماعية في حينها، لاعتمادها على الإثارة واستفزاز المجتمع، يبقى عمرها قصيرا، وتفقد قيمتها ما إن تنتهي وظيفتها في إثارة المسكوت عنه في المجتمع.
مثلا، انطلاقا من سنة 2004، عرف سوق الاقراص المدمجة المقرصنة في المغرب إقبالا كبيرا، خصوصا مع صدور، وذلك في وقت وجيز، عدد هائل من الأفلام من تاريخ السينما، القديمة، الكلاسيكية، والجديدة ، أفلام من كل الجنسيات لمخرجين لم يكونوا معروفين، إلا لدى طبقة العارفين والمهتمين، أو أفلام من سينمات بلدان لم نكن نعرف عنها أكثر من اسمها والقارة الموجود فيها، وأفلام كنا قد شاهدناها في عروض الاندية السينمائية، وفقدنا أثرها، رغم أنها لم تغادر ذاكرتنا، المهم في الحكاية أنه كان هناك اقبال مفاجئ على كل السينمات، إلى درجة أنني شخصيا كنت اعتقد، وأومن أنذاك بأننا نعيش نهضة سينيفيلية، وأنه لا محالة ستعقبها ثورة سينمائية حقيقية، الشيء الذي لم يتحقق بعد.
أين تذهب هذه الإفلام إذن؟
نلاحظ ببساطة أن السينيفيليا في شكلها الحالي لا نجد لها، خارج حلقة المهتمين والنقاد الضيقة، أثرا في المجتمع، ولا في النقاشات حول السينما، ولا في المنتوج السينمائي في حد ذاته، وخصوصا القصير منه باعتباره مجالا للمغامرة الإبداعية بامتياز، أي ان هذه الافلام تختفي ما أن تغادر واجهات المحلات حيث كانت تعرض للبيع بسويقة الرباط، أو درب غلف بالدار البيضاء. ربما الأثر الوحيد المتبقي منها، هو نوع من التباهي على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن الكثير يخلط بين الإطلاع على الشيء، ومعرفته.
يجب أن نميز بين السينيفيليا بما هي تجربة حياة وفي مستوى ثان مسؤولية، وظاهرة السينيفيليا بــ «الكُرْجَةُ»، أو السينيفيليا المتأخرة، التي ظهرت مع توفر كم هائل من الأفلام في نفس اللحظة، والاعتقاد الخاطئ بأن مشاهدتها، الواحد تلو الآخر، في زمن قياسي، حل سحري لامتلاك الثقافة السينمائية، والالمام بتاريخها، والتخلص اليائس من سلطة جيل من السينيفيليين، ومواجهتهم ومبارزتهم في النقاش. هناك حلقة مفقودة، يعيق غيابها تحول السنيفيليا من فعل استهلاكي إلى فعل منتج، من حالة إلى سلوك .
من خلال هذا الجرد التاريخي، يمكن أن نفرق بين نوعين من المخرجين السينيفيليين وغير السينيفيليين، وبين مخرجين تعلن أفلامهم عما يشاهدونه من أفلام عن وعي، أي تحتفظ افلامهم بسينيفيليتهم، ومخرجين، رغم اطلاعهم على كل ما ينتج، ومعرفة بتاريخ السينما، تأتي افلامهم في غياب تام لأي إحالة مباشرة أو غير مباشرة على سينمات أخرى تأثروا بها أو تتقاطع مع أفلامهم شكلا وموضوعا، أكانت كلاسيكية أو معاصرة، ولا يحيلون عليها حتى في تصريحاتهم أو حواراتهم. كان يُقال قديما، لكي يصبح المرء شاعرا، يجب عليه أن يحفظ ألف بيت من الشعر، وينساها. هناك في السينما من ينسى الألف فيلم أو ما يعادلها، ويبدأ مشواره السينمائي، وهناك من لا يستطيع أن ينساها، فتأتي هذه الأفلام مدمجة في إبداعه، في لعبة إحالات، أو تأتي أفلامه كقراءة معاصرة وذاتية أو تنويعا لأفلام طبعت ذاكرته أو ذاكرة جيله، ولو تعلق الأمر في حالات بالإحالة على أفلام غير مصنفة كأفلام خالدة، أو كمرجعيات هناك إجماع عليها، لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن تلك اللحظات، أو الأثر الذي تركته عنده أو أنه لا يريد أن يقطع مع سينيفيليته، أو أنه وهو يعيد مشاهدتها ثم قراءتها يكتشف جوانب جديدة، تتجاوز حتى وعي مخرجيها، وتتجاوز لحظتها التاريخية التي لم ير فيها إلا فرجة وتسلية ليس إلا.
جزء من فئة المخرجين الفئة غير السينيفيليين، ليس له إطلاع واسع على تاريخ السينما، أي أنه يأتي في الغالب من تكوين أكاديمي سينمائي، حيث تندرج مشاهدة أهم افلام تاريخ السينما في إطار برنامج بيداغوجي أي من سينيفيليا وظيفية في حدودها الأدنى، أو غالبا آتية من مشارب إبداعية اخرى أدبية أو فنون بصرية، أو علمية كجون روش Jean Rouch، الذي جاء للسينما من الإثنوغرافيا مثلا – وهناك أمثلة عديدة – ولا يمكن أن يأتي من الفراغ، أو معرفة بسيطة بالتقنيات السينمائية التي توفرها كتب “كيف تصبح مخرجا في خمسة أيام بدون معلم”، أو مواقع على الأنترنيت، تقترح تكوينا يختصر المسافة، بين فكرة الفيلم والسعفة الذهبية.
من زاوية نظر أخرى، هناك مخرجون يستعملون اللغة السينمائية فقط لحكي قصصهم، وخلق عوالمهم لتقاسمها ولإيصال أفكارهم، وآخرون، في الغالب سينيفيليون، يحكون، وهم في نفس الآن يفكرون، ويتساءلون حول اللغة، وأشكال السرد السينمائي من داخل سياق الحكي، من داخل الفيلم، وفي حوار دائم مع تاريخ السينما. بمعنى أخر، هناك مخرجون يتعاملون مع السينما كوسيط، وهناك من يجعلها كموضوع وحيد وأوحد لأعمالهم.
صدفة، وأنا أعد هذه المداخلة، عندما كتبت كلمة “سنيفيليون”، سطر تحتها الوُوردword بالأحمر، وكأن الأمر يتعلق بكلمة مكتوبة خطأً، أو كلمة لا وجود لها، أو كلمة لم تصل بعد إلى اللغة العربية، وعندما أردت تصحيحها بشكل أوتوماتيكي، اقترح عليك البرنامج كلمة الفينيقيين، وهم كما هو معروف في التاريخ، شعب عُرف بالتجارة والتبادل مع شعوب البحر الابيض المتوسط. أعتقد أن السينيفيليا قد تنطبق عليها نفس الصفة، أي أنها عملية مقايضة، وتبادل بين الفيلم والمتفرج، وبين المتفرجين، بين الذين شاهدوا الفيلم والذين لم يشاهدوه، وبين الأفلام نفسها، يلعب فيها السينيفيلي بعد الفيلم دور الوسيط والمحرك. إنها عملية منتجة لفائض قيمة مادي، واللامادي في نفس الآن، إنها مدرة للربح في شكل عائدات مادية ومنتجة للمعنى، وللذاكرة وللسينما ذاتها. نتمتع بالأفلام مقابل أن تستمر السينما، وتوجد. تحضرني هنا من الذاكرة، قولة لكودار في أحد حواراته، مضمونها أن إنجاز فيلم سينمائي، هو فعل يقيم عملية تفاوض تجارية مع تاريخ السينما، وهو شكل من السينيفيليا يتجاوز العشق والحديث عن السينما ويمتد إلى الصناعة السينمائية في بعدها الابداعي.
إن مشاهدة فيلم تمنحك تجربة انسانية واحساسا جماليا، وتقترح معنى جديدا للحياة، نعيد إنتاجه، وتبادله، وتقاسمه مع الاخرين، ليكون هناك فعل سينمائي، لكي تكون هناك سينما، لأن السينما توجد خلال وبعد العرض، وأي فيلم لم يعرض، لا وجود له في تاريخ السينما.
الأفلام الخالدة هي تلك التي شاهدها الجمهور أثناء خروجها للعرض، واستمرت الأجيال اللاحقة في مشاهدتها، أو تداولها السينيفيليون عبر العالم بغض النظر عن مستواها، وخصائصها الداخلية، الفعل الذي حولها إلى كلاسيكيات.
وتختلف «الطرق المؤدية إلى روما» أو لنقل إلى الثقافة السينمائية، من ناحية طول المسافة أو قصرها، والعقبات، ولكنها تبقى طرقا على اية حال، ويجب سلكها لتحقيق فعل الوصول، والقاعدة أنه ليست هناك قاعدة حسب جون كلود كريير في مدخل كتابه تمرين السيناريو، ربما القاعدة الوحيدة هي القدرة على الاختيار، اختيار الطريق وسلكها.


الكاتب : محمد الشريف الطريبق

  

بتاريخ : 01/10/2022