الجزائر ومخاطر توجهاتها على المنطقة

المقاصد الجزائرية ليست مرتبطة بما تسميه شعبا صحراويا يطمح إلى تقرير مصيره، بل تطلعا إلى لعب دور الريادة بالمنطقة، وحتى تتمكن من ذلك لابد من النفاذ إلى المحيط الأطلسي ومن إضعاف دول الجوار وإغراق المنطقة في المشاكل ومقاومة أي مشروع وحدوي لشعوب المنطقة ورفع شعار التقسيم والانفصال كمبدأ لا محيد عنه. وقد رأت في المغرب المنافس رقم واحد بالمنطقة بحكم عوامل عديدة، وبالتالي وجب توجيه دفة الصراع نحو المملكة التي تمثل في نظرهم الخطر المحدق بالجزائر وشعبها فمنها تأتي الكوارث والنائبات حتى لو كانت أمطارا ورياحا.

 

سال مداد كثير طيلة هذه السنة والتي سبقتها، يدون بكل ألم وحسرة مجريات العلاقة المغربية الجزائرية، التي تجاوزت حدود التأزم ودخلت مرحلة أكثر خطورة، يخشى من أن يتحول المداد فيها إلى دم، كما يخطط أو يتوق إليه حكام الجزائر، وفق المعطيات الناطقة على أرض الواقع وليس إجحافا في حقهم أو نصرة للمغرب. فإذا كانت الحدود البرية بين البلدين مغلقة في وجه الشعبين، فإن حدود الكلام العدائي باتت مفتوحة عند القيادة الجزائرية وبلا كوابح.
الأزمة المغربية الجزائرية ظاهرها الصحراء المغربية تقرير المصير شعب صحراوي، باطنها خلافات في الجوهر والسياسة والجغرافية والايديولوجيا والتاريخ، بين نظام ملكي عمر لأكثر من 12 قرنا من الزمن، وبين نظام حديث/ جمهوري نتاج ثورة وحقب استعمارية متوالية، ظل مسكونا بعقدة الماضي الذي يهيم في الفراغ المؤسساتي.
لم يكن عهد استقلال الجزائر يحمل بشارات خير ونماء وتعاون وتلاحم وانسجام مع المغرب الجار الشقيق في العروبة والأمازيغ والإسلام، بل تبنى حكامه أصعب الخيارات أقحمتهما في صراع وخلافات، كانت بداياته إيديولوجية تمثلت في مناهضة نظام ملكي وتعثر تسوية حدود موروثة عن الاستعمار دشنتها حرب رمال عابرة، ليتحول الصراع إلى أزمة حادة وعميقة ضربت العلاقات بين البلدين في الصميم وأصابتها بالشلل الدائم. عندما تبنت الجزائر، لدرجة الهوس، قضية الصحراء وحولتها إلى قضية جزائرية صرفة، لكنها ظلت بالرغم من هذا الإصرار الرسمي تواجه باللامبالاة الشعبية.
عاكس النظام الجزائري المغرب في استكمال وحدته الترابية بعد التوصل إلى التسوية الودية المغربية الاسبانية الموريتانية، لم يهضمها الراحل بومدين وقتها. فأقحم الجزائر كطرف رئيسي في النزاع منذ البداية، تحملت معه عبء القضية ماليا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا ودبلوماسيا إلى أبعد الحدود، بل أصبح قاعدة وشرطا أساسيا لكل قيادي جزائري يطمح إلى الجلوس على كرسي الحكم بقصرالمرادية.
المقاصد الجزائرية ليست مرتبطة بما تسميه شعبا صحراويا يطمح إلى تقرير مصيره، بل تطلعا إلى لعب دور الريادة بالمنطقة، وحتى تتمكن من ذلك لابد من النفاذ إلى المحيط الأطلسي ومن إضعاف دول الجوار وإغراق المنطقة في المشاكل ومقاومة أي مشروع وحدوي لشعوب المنطقة ورفع شعار التقسيم والانفصال كمبدأ لا محيد عنه. وقد رأت في المغرب المنافس رقم واحد بالمنطقة بحكم عوامل عديدة، وبالتالي وجب توجيه دفة الصراع نحو المملكة التي تمثل في نظرهم الخطر المحدق بالجزائر وشعبها فمنها تأتي الكوارث والنائبات حتى لو كانت أمطارا ورياحا.
ارتفعت شرارة الصراع اليوم، لما انتقل توجه حكام الجزائر في التعاطي مع القضية المغربية، من صراع ذو طبيعة دبلوماسية سياسية إعلامية، شهدت عليها ردهات المؤتمرات الإقليمية والجهوية والدولية ومنابر السمع والأبصار، إلى ابتكار مواجهات من طينة أخرى وبوسائل مختلفة أشد وطأة وخطورة ليس على المغرب فقط، بل على بلدهم أولا ثم على المنطقة برمتها. يخيل فيها للمراقب أن مخططا ما يدرس وتتخذ ترتيباته ويجري التحضير له، هل هو من صناعة جزائرية خالصة ب”شهادة منشأ” أم بتواطؤ مع طرف خارجي. لا نستبق الظن في توجيه التهم لطرف بعينه، لكن الفاهم يفهم. رسائل الجزائر الجديدة واضحة، ليست في حاجة لجهد لمعرفتها بل المشكل يكمن في الكشف عن خلفياتها وغاياتها وتوقيتها.
من المعروف لدى كل الفاعلين الدوليين، أن جماعة البوليساريو ليست إلا “ورقة، لعبة، خيط، محرك، سميه ما شئت” بيد حكام الجزائر يأتمر بأوامرهم ويتحرك وفق خطتهم يقطن بديارهم المغربية بالأمس، ينشط يناور يسافر ينام يستيقظ يتنفس يتنقل ويحارب من خزينتهم متى أرادوا ووفق ما خططوا. بل أصبح نهجا لسياسة داخلية مريحة تقضى بها الحوائج، كالإطاحة برئيس الدولة ورفع بآخر، والتغطية على شتى أصناف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية وتعطيل الديمقراطية وإقبار مشروعها والهيمنة على المؤسسات الدستورية وباقي الفرقاء السياسيين.
التحركات الجزائرية اليوم، اتجهت أولا صوب الحدود الجنوبية للمغرب، عندما دفع حكام الجزائر بمرتزقة البوليساريو إلى قطع الطريق الرابط بين المغرب وموريتانيا على معبر الكركرات، في محاولة لوقف الحركة التجارية ونقل المسافرين ورغبة في تغيير الوضع القانوني والتاريخي للموقع، ومن جهة ثانية استعراض قوة واستفزاز للقوات المسلحة الملكية المغربية، التي حسمت الموقف دون عناء يذكر. تلتها الدفع بالبوليساريو إلى إعلان الحرب على المغرب والتحلل من الالتزام بالقرار الدولي لوقف إطلاق النار سنة 1991. وهو إخلال استفزازي في غاية الخطورة، تطلب الحسم وضبط النفس في آن معا من جانب المغرب.
بعد وضع حد لهذا المشكل اتجه الجيش الجزائري، شهر مارس الماضي، صوب الحدود الشرقية بمنطقة تسمى “وادي العرجة”، وأجبر الفلاحين المغاربة الذين اعتادوا على استغلال أراضي من داخل حدود الجزائر ومنذ سنين على المغادرة بصفة نهائية وفي أجل قصير جدا، ليباشر عملية بسط نفوذه على تلك الأراضي. لم يتجاوب المغرب مع هذا الاستفزاز الجزائري الجديد، الذي كان بالإمكان تنفيذه بالتشاور بين مسؤولي البلدين بطريقة ودية، وليس بأسلوب يذكرنا بالمأساة الإنسانية التي اقترفتها الجزائر أيام حكم هواري بومين، لما قامت صبيحة يوم عيد الأضحى من شهر دجنبر 1975 بتهجير زهاء 350 ألف مغربي مقيم بالجزائر وطردتهم إلى خارج حدودها مع المغرب، فشردهم وفرقتهم عن عائلاتهم وجردتهم من ممتلكاتهم. ممارسات من هذا القبيل تؤدي الشعب المغربي ولا تنسجم مع نداء الشعب الجزائري الخالد “ خاوة خاوة “.
في الشهر الموالي أي أبريل، دبرت الجزائر مؤامرة جديدة عندما استخدمت ورقة بوليسارية ملغومة لا نحملها وحدها المسؤولية في ذلك بل تم ذلك بتواطؤ ومكر مع الحكومة الاسبانية، عندما أرسلت مريضها زعيم الانفصاليين إلى إسبانيا بوثائق مزورة باتفاق سري مع مدريد من خلف ظهر المغرب، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها ضد الإسبان ودخل معهم في خلاف جوهري لازالت تداعياته سارية.
عنوان آخر للاستفزاز الجزائري المفضوح، يتجلى في سيل التصريحات المتكررة للرئيس عبد المجيد تبون، المناوئة للمغرب منذ توليته منصب الرئاسة وبشكل غريب، التي وصف فيها المغرب في أكثر من مناسبة ب” العدو” مستعملا لغة تحدي ونبرة تصعيد فريدة كالإصرار على إغلاق الحدود وتجميد العلاقات واعتبار الجار الغربي أكبر خطر على الجزائر وأمنها واستقرارها بشكل لا يليق بمقام رئيس دولة، عليه أن يسعى كوافد جديد على المسرح السياسي للبحث عن وسائل الانفراج ووضع بصمته التاريخية لطي صفحة الخلاف وفتح قنوات للحوار والتواصل.
مثل هذه التصريحات الخطيرة لم تجد صدى لدى ملك المغرب، بل حتى لم يلتفت إليها ولم يعرها اهتمام، بل نصح بعدم الدخول في مثل هذه المهاترات والهذيان في الحكي الذي لا طائل منه. بل إن الملك محمد السادس أمر بسحب القنصل المغربي بوهران لمجرد تلفظه بكلمة “عدو” في حق الجزائر، عقابا على استهتاره. في إشارات واضحة من جلالته للتعقل والحكمة لمن يهمهم الأمر.
التصريحات الهجومية الجزائرية المستفزة، لم تتوقف عند هذا الحد، بل أعقبها أواخر شهر يونيه المنصرم، حديث لقائد أركان الجيش الجزائري، الفريق سعيد شنقريحة، أثناء حضوره المؤتمر التاسع للأمن الدولي في العاصمة الروسية موسكو، عندما أدلى بحديث في غاية الخطورة قال فيه: “ هذا الوضع المقلق المتسم بمخاطر التصعيد العسكري والتدخلات الخارجية…يمكن أن يؤدي إلى تأجيج الوضع في المنطقة بأكملها” لاحظوا إلى أين يذهب كلام القائد العسكري الجزائري، إنها لغة تهديد وتحذير ووعيد، فمن يهدد من ؟ ومن يتحدث عن التصعيد العسكري؟ إلا من يحلم به ويسعى إليه. فعلا إنها نوبة صرع تجتاح قادة الجزائر حاليا، تتوجب اليقظة والحذر.
سجلت الجزائر موقفا معاديا مخزيا جديدا ضد المغرب، أمام مجمع العرب ليس الحكومات بل الشعوب العربية ممثلة في البرلمان العربي، الذي اتخذ موقفا مشرفا مناصرا للمغرب وللعرب معا ضد توصية البرلمان الأوروبي المعتدية على حقوق وسيادة المغرب على مدينتي سبتة ومليلية السليبتين وعلى التراب العربي. فما كان من ممثل مجلس الشعب الجزائري في هذا الاجتماع، إلا أن ارتكب خطأه الأعمى القاتل بتسجيل تحفظ بلاده على قرار البرلمان العربي، مما أثار حفيظة العديد من نواب الشعب العربي، الذين لقنوه درسا في التضامن العربي ومقاومة المخططات الاستعمارية ضد الأمة العربية.
هذا التغيير في لغة التصعيد والنهج المتطرف لقادة الجزائر، أملته ظروف أخرى، متعلقة بالتقدم الذي حققه المغرب في ملف قضية الصحراء المغربية دوليا وإفريقيا وأمريكيا وعلى الأرض، بضربة المعلم المتمثلة في افتتاح قنصليات أجنبية بمدينتي العيون والداخلة، كما غير المغرب من أسلوب تعاطيه مع قضية وحدته الترابية، فمن التقوقع والدفاع إلى المبادرة والانفتاح والاقتحام.
كانت الجزائر فيما مضى تتحكم في مواقف العديد من الدول الإفريقية، عن طريق “ دبلوماسية حقائب الدولار” لشراء الأصوات وتغيير المواقف، راكضة من مؤتمر إلى آخر ولسنوات طوال، مما أنهك الخزينة الجزائرية، مثل هذا الكلام موثق بشهادات عديدة ـ من بينهم مسؤول تونسي ـ على فيديوهات شبكات التواصل الاجتماعي. المغرب من جانبه لم يكن يتبنى هذا النوع من الاستنزاف المالي، حيث كان يعتبر أن القضية ليس قضية نظام بل هي قضية شعب بأكمله يدافع عن حوزته الترابية.
وسيلة حقيبة الدولار الجزائرية لم تعد مجدية اليوم، فمعظم أنظمة دول إفريقيا تغيرت، وتحولت من الديكتاتورية والحكم الفردي، إلى النظام الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة، مما أفسح المجال للمغرب للتحرك صوب إفريقيا الجديدة، من خلال المشاريع المالية والاقتصادية الكبرى ووضع أسس جديدة للتعاون وفق قاعدة “جنوب جنوب” و “رابح رابح”، التي قادها بنفسه جلالة الملك محمد السادس، في خطوات إستراتيجية ثابتة، رفع معها سقف اللعب مع الجزائريين بالساحة الإفريقية، أبانت عن عجزهم وضعفهم على مواكبة هذا النمط الجديد في التعامل مع الأفارقة، أدت إلى خسارتهم لعدة عواصم إفريقية.
صدم قادة الجزائر أيضا بالموقف الأمريكي الذي اعترف رسميا بقضية الصحراء المغربية دون تراجع، والتوجه الجديد لدى العرب والأفارقة الذين ناصروا صراحة المغرب في سيادته على أقاليمه الجنوبية، مما دفعهم إلى كسب ود الاستعمار الأوروبي الذي طردناه من أراضينا مغاربة وعربا وأفارقة، وتواطأت معه في مخططات تبتغي النيل من المغرب، إسبانيا نموذجا. لكن القيادة المغربية تصدت بكل حزم وقوة لمثل هذه الدسائس مهما كان مصدرها، وأظهرت للجزائر إلى أي حد يمكن أن يذهب المغرب في الدفاع عن أرضه وسيادته.
مجمل هذه الانشغالات، باتت تسترعي الانتباه والحذر بل والتخوف من أن يدخل البلدان ومعهما المنطقة بمفهومها الواسع في مغامرة غير محسوبة العواقب. اعتقادا ممن يسعى إلى إيقاظ نار الفتنة أنها كفيلة بالتغطية على أزماته الداخلية والنيل من خصمه. مقدما بذلك خدمة مجانية للغرب، يستهل بها هذا الأخير مشوارا جديدا يكون مسرحها أرض عربية جديدة، بالتسلية والانشغال بالوساطات والتدخلات والمتاجرة بالسلاح والبرامج والمساعدات الإنسانية والمؤتمرات الدولية والإقليمية والمبعوثين الدوليين الخاصين والعامين والندوات والتغطيات الإعلامية، وهي لعبة احترفتها قوى دولية في العالم العربي والإسلامي بالذات: أفغانستان، العراق، ليبيا، لبنان، سوريا واليمن، مع شرط أن يأتي الداء من أهل الدار، بتخطيط وتدبير دولي ماكر.
فهل، لمن يلوح بلغة التصعيد العسكري وخطاب الكراهية والتهديد وإطلاق الكلام على عواهنه دون حس بالمسؤولية والقراءة المتبصرة للمستقبل، من ضمير حي ويقظ قادر على استيعاب مدى تداعيات وخطورة هذا الاندفاع الأعمى بالمنطقة نحول المجهول؟ لن تكون شعوبها سوى حطبا لنار الفتنة. فالجزائر بالرغم من ذلك تظل بلد جوار وأخوة أزلية بين الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، لن يمحيها تبون ولن يطمسها شنقريحة، فالمصير المشترك والمستقبل الواعد بالخير والنماء والتعاون يجب أن يكون دستور حكام المغرب والجزائر ومعهم باقي زعماء موريتانيا تونس وليبيا.

* دبلوماسي سابق


الكاتب : محمد بنمبارك *

  

بتاريخ : 06/07/2021