ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً …
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
(محمود درويش)
كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟
ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع
من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
ليس الجسد موضوعا خارجيا أو داخليا، وإنما هو مكون لا تستقيم مقاربته بصرامة العلم، بل إن العلم نفسه مهدد بتحويل مرونته ومائه إلى جفاف. هذا ما أضاءه جورج بطاي في كشفه عن محدودية العلم والإنصات إلى مجهول الإيروسية التي لها ارتباط وثيق بالجسد. واللافت أن صورة الجسد قد تبدو غريبة عن الجسد نفسه، فقد أسعفت منظري هذا المكون في رصد العلاقة بينه وبين الوجود، لما تتيحه من تداخل وتلاشي أحدهما في الآخر. فصورة الجسد تشتغل بين حيزين، الأول مادي، والثاني مجرد، دون أن تكون الحوامل متشابهة. إنها جسدية تقترن بالإيحاء، ولنا أن ننتبه إلى كون الجسد نفسه تتحقق به الكتابة، وتخلق تحولا في لانهائيتها.
يُغري الحديث عن الجسد بقراءات متشعبة، نلمح لمدخلها انطلاقا من تداخل الوظائف داخل الخطاب، ولا يتعلق الأمر باستدعاء أو تمثل فحسب، وإنما يفتح كوات ترى في صفة الهشاشة الطريقة المثلى التي ينهار بها هذا المكون ويتلاشى. هل الجسد خيمة الروح كما يقال؟ وهل يكفينا طي خيامنا والعودة إلى السماء؟
يعد القلق الذي به تصوغ الكتابة نسبة الجسد أس الإشكالية، وتتعدد الأسئلة المتولدة التي تكشف عن العلاقة المعقدة بين الجسد والكتابة، وهي علاقة لصيقة بحمولتي النزع والامتلاك. والدلالتان الأخيرتان يجعلان الدنو من الجسد لحظة التباس نسبة إلى ماديته. كما يتسنى التمييز بين الحمولتين نهوض دلالات التعارض الفاصلة بين سمات الطراوة، الخدش، الشهوة، السيلان، العري، والفناء.. وغيرها من الصفات الداخلة في نظام اشتغال الوعي الكتابي أثناء التفكير في الجسد.
ليس الجسد إلا موقعا يغري بإبراز الوجه الأول للإشكال الذي تقوم عليه الكتابة، ويستضيفه النص. الموقع ذاته يبعث على النظر في إدماج الجسد ببناء الخطاب، وهو بناء متداخل مع أوجه الأول، والفصل بينهما إجراء رؤيوي لا غير. نوجز مداخل الاقتراب من هذا المكون ببناء السؤال الآتي: كيف يبني الجسد ذاته، ويصون هويته وهو يقترب من منطقة تحتفظ بما يميزه؟
يقترح علينا الكاتب الأمريكي دون ديليلو رواية “فنانة الجسد”. العنوان يغري باستجلاء حضور الجسد في الخطاب السردي، غير أن المتحقق رؤية ما بعد حداثية للحياة، تعبر عن نفسها في الرواية التي يتم سردها بصوت يتجاوز البعد المادي، ولا يقتفي الجسد إلا من باب طمسه وإعلاء صوت الأرواح المنسية التي تسكن أعضاءنا وتحاور فينا المبهم والملتبس. لعل الرسالة المستفادة من هذه الرواية كون الصوت أكبر من الجسد، لأنه يعضد ارتباطنا بالوجود، ويخلق، في ذات الآن، جسد الكتابة التي تبني مفاصلها وأعضاءها اعتمادا على ما يجب أن يكون عليه الخطاب متجانسا مع موضوعه.
تخلق الكتابة إذن جسدها من إزاحة فنية للمادي، وهذا ما نلفيه، تمثيلا لا حصرا، في الشعر. وذلك باستعادة الأقاصي والضفاف الوحشية التي تحيا في بنيات مجازية موغلة في التجريد. فالخطاب الشعري، وغيره من الكتابات المعاصرة، يدمج البياض والمحو ونقط الحذف.. احتفاء بالصمت وإشراكا لمكون جسدي يضمر الشيء الكثير، ويخفي الملامح والمعالم، ولكنه، في ذات الآن، يحفتظ باقتصاد لغوي يجعل ما يقوله منطويا على الصمت.
قد لا يروم الصمت المؤسس للخطاب تحقيق التكتم دوما، ذلك أن هذا الصمت خصيصة محددة للجسد ومميزة له. فالجسد يحتفظ ببياضاته، بما يصون غموضه والتباسه متمنعا عن الاختزال، ولعل هذا ما يفسر تنصيص المهتمين بموضوع الجسد على حدود العلم وحدود الدراسات السوسيولوجية في الاقتراب من أبعاده التي تظل ملتبسة حتى في ظهورها.
إن الوعي بخصوصية الجسد موجه لاشتغال الخطاب في الكتابة المعاصرة، وإمكان قراءة التجانس بين الخطاب وموضوع الجسد مهيأ من مواقع عديدة، لكن شرط تحققها الإنسجام والإقناع. ومما يثير الاهتمام أيضا، أن أبعاد التجربة التي تظل مضمرة لصمتها، قد أبانت عن قصور العلم في تفسيرها، وكل ما قيل كان مجرد أوهام لا تقترب من الحقيقة.
ثمة معنى متصل بالجسد، يعتبر الالتباس الذي أثاره السياق الاجتماعي والثقافي مجالا آخر يخوض فيه الفكر الإنساني إلى جانب البعد الدلالي وعلاقته بالمدركات والمشاعر، وكل أشكال الخضوع لطقوس التفاعل مع الأشياء والعناصر. ومن المؤكد أن هذا المكون يبني فيما يخلقه من تزويدينا بأدوات النظر المتجدد إلى الكتابة ومراجعتها، غير أن هذه المراجعة لا تنصب بالضرورة على ماديته، وعلى أبعاده الفيزيقية، وإنما على بناء هذا الوعي، واعتماده على رؤى تضع الجسد في سياق مغاير.
شاعر وناقد