ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً …
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
(محمود درويش)
كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟
ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع
من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
هكذا، يختفي الكاتب خلف استعاراته وأقنعته المتعددة، ولا يقوى النظر في المرآة باعتبارها مرآة، ولا يقوى على العودة إلى مراياه، كأنه يخافها، لكونها تعريه وتكشفه، وهو ما انفك يحتجب وراء الكلمات، ولا يستلقي إلا ليعيد التفكير فيها كالكتابة تماما.
بين المرأة والمرأة الأخرى يحمل الكاتب قلبه باليد اليمنى، ثم يعطيه باليد الأخرى لمحو ما خطته الأولى، وكأن المرأة الأخرى تضع الكاتب قاب قوسين أو أدنى، طفل يبني ويهدم، وكأن المرأة الأخرى هي ارتجاج الحلم في باب الليل. هل أكتب باليد اليمنى أو باليد اليسرى، أم أكتب بهما؟ لا داعي لقول الحقيقة، فهي وهم يمتهنها المتملقون والكذابون…
جسدي يكتبني، ويمحو ما خط على السطور. الكتابة على الورق تأمل في الوجود من حيث هو عدم. يختفي الأخير حين يفتض البياض بالسواد، وكأن المداد يعطي المعنى والوجود، والتسمية دليل على صاحبها. لم تعد الكتابة كما تشكلت في المرحلة البورجوازية بطقوسها البالزاكية بقدر ما اتجهت نحو الوسيط من حيث هو ناسخ دوستويفسكي، طه حسين، بورخيس… أنا الآن أحتاج إلى هذا الوسيط. من هو الكاتب؟ هل أنا أم الناسخ؟ فعل التسمية هو فعل مبتور كأني لا أتحسس بارتعادة الأصابع وسخونتها، واحمرار الوجه، واشتعال الأظافر. وكأني مبعد قهرا عن رؤية الحروف في تناسلها. إلا أن أصابع الناسخ تكون -في غالب الأحيان- باردة مثل الحاسوب تماما، وكأن الحاسوب لا يكتب، ويبتلع سخونة الجسد في برودته، الأمر سيان. هل أكتب بإلغاء أعضاء الجسد، وأترك صمتي ينكتب على الورق. “لا حرج على الأعمى” هكذا يبرر الكاتب سخونته وبرودة أصابع ناسخه.
لنعد إلى كتابة الجسد من حيث هي انتقال عنيف من لغة الأم إلى لغة الأب، من المجهول إلى المعلوم، من الشفهي إلى المكتوب، من فوضى الحواس إلى القانون، ومن اللاشعور إلى الشعور، ومن الحجب إلى التعري… فالأم خيمتنا الأولى والأخيرة، زودتنا بالحكايا، هي العارفة بالليل والنجوم والرموز، بينما الأب يمتلك اللغة والقانون والعرف والظاهر، ثمة حبل سرة شفاف لم يقطع بعد مع أمي. هذا البحر العامر بالذكريات والصور، والمزوبع للنظام، في كل مرة يتم حجبها في النسيان، إلا أنها سرعان ما تنقذف على سطح وعمق الكتابة، ليظل الأب شرطيا نظاميا للتجنيس، واللغة، والتسمية… الأم تسكننا، أراها بابتسامتها المحتشمة مثلما أرى جسد امرأة أو طفلة تكبر بالحكايا.
تتوطنني الأنوثة كما لو كانت الصورة التي تفضحني في المرآة. ربما كنت هكذا، ولا خيار بيولوجي يضعني هنا أو هناك، والوسط مزلزل للنظام والطبيعة. أنا المسكون بهذا الذي يسكنني والذي أسكت عنه، كما لو كان شبحا يرعب التائه في المكتبة. اللغة فاشية كما قال بارت، ولذة الكتابة شبيهة بلذة الحب أحيانا، ولأننا كمغاربة لا نحسن، ولا نعرف بالكاد لغة الحب، فإننا لا نفقه بلاغة الجسد، لأننا ببساطة بعيدون عن الحرية، وللبعد ذاك برواز يؤطر الفراغ والصمت، فراغ الجسد، والصمت الذي يسكت الكينونة. الصمت كلام، والجسد لغة نتحرش بها تارة ونتقرب منها حين عودتنا إلى بطن الأم، حين يتحول الجسد إلى شكل هلالية. هكذا تعود الكتابة إلى شكلها الأول جنينا أو نائما، ولأنها كذلك، فهي تفرض أفقا تأويليا لتقريب المسافة بين الكاتب ومرآته/ المرأة، وهذا لا يتم إلا بشرط الحرية، باعتبارها شرطا ضروريا للجسد، حتى نتمكن من التصالح معه، وبالمحصلة نتمكن من كتابة تاريخ الجسد العربي. صحيح أن الحديث عن الجسد هو حديث عن الجرح، ونذوب خلفتها جيولوجيا القمع والاستبداد. لا غرابة إذن أن يكون الجسد موضوعة مستحبة للكتابة بصدق ومصداقية كاتبها. لا يتعلق الأمر ركوب الموضة ولا البحث عن شهرة مستهلكة سلفا، والخوض في إباحية باردة، ولا اتباع أبيقور دون تمثل اللذة. وإنما في رؤية فلسفية للجسد والكتابة، وهي رؤية صاحبها للعالم.
من حق الكاتب مقاومة الرداءات والقبحيات المستشرية في المجتمع، ولكن لا تتم هذه المقاومة إلا بتمثل عميق لتفاهتنا وقبحنا. صحيح أننا نتوق للجمال مثل القدماء، لذا وجب النضال ضدا على سلطان السمع والطاعة، لنتمترس عراة في جبهة الأمل.
تتزاحم الكلمات في حلقي، أحاول قذفها دفعة واحدة، لكن أبي ذاك الشرطي والرقيب الذي يعتلي المنصة، والجريدة، الشارع، والكتاب، يراقب كلماتي خلسة، ويطلب مني أن أكون متناغما مع مهنتي. كل جسد ينتقل ويتنقل بفعل المهنة، من حيث هي إيديولوجيا. جسد الكاتب، جسد المتطرف، جسد البرلماني، جسد الملاكم، جسد الراقص، جسد المهمش، جسد اللاعب، جسد رجل الدين…إلخ. هكذا يصبح للجسد صفاته المهنية والاجتماعية والرمزية والثقافية… ربما نحتاج إلى تحوله، ليس بتدخل طبي، بل بمسخه حتى يكون رائقا وماتعا… هل قلت الجسد، أم قلت الكتابة؟ أو ربما قلت لصديقتي فاطمة كتابة الجسد.