الجسد كبناء سوسيو-ثقافي…جدلية الظاهر والكائن!

على مر التاريخ شكل الجسد اشكالية جوهرية في الفلسفة الاغريقية والفكر الانساني والديني بصفة عامة. وفي الغالب نجد ان النزعة الاخلاقية تغلب على المواقف في تناوله، وأنه ظل خاضعا للثنائيات المتناقضة في دراسته.  ففي الفكر الإغريقي القديم، اعتبر الجسد الإنساني دوني خاضع للتقلبات ومعرض للأمراض والموت في مقابل الجسد الاعلى للالهة رمز الأبدية والمثالية. فضلا عن التصاق الجسد بالمدنس والفناء، فيما تم السمو بالروح و اعلائها عليه باعتبارها تجلي للجوهر الإلهي. وهو نفس التصور الذي نجده عند أغلب الفلاسفة المسلمين الذين اعتقدوا الجسد الة ميكانيكية مسخرة من طرف النفس، لكن رغم هذا التناقض بين الروح والجسد أو النفس والجسد فإنه لا يمكن تفنيد وحدة الاثنين في تمكين الشخص من الحياة. لكن هذا التصور عرف تطورا خصوصا مع بروز الإرهاصات الأولى للفلسفة العقلانية مع ديكارت، اذ اعتبر الجسد غير قابل للتقسيم والاختزال كونه امتدادا للروح. أما التصورات اللاحقة، التي غلب عليها الطابع المادي، فقد أعلت من شأن الجسد ورفضت الأفكار اللاهوتية والميتافيزيقية التي أذلته وألصقت النجاسة والخطيئة به.
هذا ونجد ان الجسد ما يزال اداة لقياس مدى التزام الفرد بالأعراف المجتمعية والقيم الأخلاقية من حشمة وعفاف، بالنسبة للرجل وللمرأة على وجه الخصوص، فمنذ ولادتهما يخضع كلهما إلى تمييز جنسي في طريقة اللباس واختيار الألوان وفي تحديد اللُّعب، بحيث ينبني ميل لدى الذكر الى الأنشطة ذات الطابع العنيف، والمبنية على القوة العضلية (البندقية؛ المسدس؛ …)، بينما تجد الانثى نفسها أمام المطبخ او دمية. فجسد الذكر يتم إعداده للعمل والبحث عن القوت وتحمل اقصى درجات التعب، بينما جسد المراة يتم تحصينه من الداخل والخارج وربطه بالعفة والشرف، فيفرض عليه رقابة اكبر،فيصير مقيدا أكثر ليس فقط باللباس الشرعي أو اللباس الذي يحول دون إبراز الأبعاد الجنسية -اللباس المحترم- إنما بطريقة المشي، ووضعية الجلوس دون انفراج الساقين بما قد يخدش الصورة النمطية للفتاة الخجولة  …فجسدها حسب التصور الديني عورة ومثير جنسي ومحرك للشهوات، وبالتالي كلما لملمت جسدها وأخفت لحمها إلا وتغاضت عنها الأنظار والأنياب التي تقتنص كل ما يتحرك. ويستمر العمل على تهذيب وترويض وخضوع هذا الجسد لقالب ثقافي محدد على مر السنين.
وتبعا له، يتقمص كل دوره ويتحدد وضعه الاجتماعي، ويتعزز الوعي بالهوية الجندرية، فيتصرف كل منهما حسب هذا المنوال. مما يؤكد أن القوالب النمطية الشائعة لسمات الأنوثة والذكورة ليست فطرية ، بل هي بالأساس نتاج للتنشئة الاجتماعية والتكيف الثقافي مع أعراف وعوائد المجتمع.
كما ان هذا الجسد يعبر عن مدى تجذر الذكورية داخل الأسرة والمجتمع ككل، فالفتاة المحجبة في الغالب ما تكون منحدرة من وسط منغلق يكون فيه الذكر متسلطا و مسلحا بحجة الشرع، وفي بعض الأحيان يجتهد من تلقاء نفسه مما يجعله أكثر تطرفا مع نفسه وأهله من قبيل رفض تعرية الشعر والتحرك في ارجاء البيت بلباس شفاف أو وضع المكياج والعطر داخل البيت، بل وهناك من له عقدة من اللباس الداخلي، مما يجعله يحرمه على أهله، أو يجد من العيب وضعه على حبل الغسيل فوق السطح أو بالبلكون، خوفا من ان يتخيل أحد غريب او دخيل حرمه. وهذا ينطبق أيضا حتى داخل الأماكن الأكثر حميمية، أي خلال المعاشرة الزوجية، بحيث تُلزم المرأة ان تظل ساكنة كجثة تاركة القيادة للرجل دون أن تسبقه الى فعل ما والا ملئت رأسه بالشكوك والهواجس. وهنا يصبح  جسد المرأة مجرد ملك تنتقل حقوق التصرف فيه بين المؤسسات : المجتمع والاسرة والزوج. كما ان هذا الجسد ورغم المعاناة والقمع فهو دؤوب يعمل على ارضائهم وضمان إعادة إنتاج أجيال أخرى بنفس الشكل لنيل الثناء والاعتراف.
لكن وفي ظل ما يعرفه المجتمع من دينامية وتحولات جذرية في كل الاتجاهات بفعل الثورة التكنولوجية وسيادة قيم الليبرالية الجديدة، فإن هذا الجسد أصبح مؤشرا على التحول القيمي. والأسرة لم تعد هي القناة الوحيدة للتنشئة الاجتماعية، بل قناة من بين أخرى، وربما الأضعف بينهم والخاضعة لتأثيرهم بشكل مباشر: المدرسة، الإعلام…
فمع تمكين الفتاة من التمدرس وولوج الفضاء العام بالتدريج والاختلاط بالذكور، نمى لديها حس بالتفوق والتميز وتقوى شعور ثقتها بنفسها، وهو ما رافقه بشكل أو بأخر اعادة بناء جديد لمفهوم الجسد وطبيعة العلاقة مع الأخر، ليبرز ما يسمى بالحب، والعلاقة الرضائية، والحرية الشخصية…وهاته المفاهيم اتسعت مع نفاذ المرأة الى سوق الشغل واتساع رقعة مشاركتها في الفضاء العام. وبالتالي، أصبح هذا الجسد يسعى الى التحرّر بالحاح ولهفة من قيود الهيمنة الرّجوليّة والبحث عن نوع من الاستقلاليّة والسّيادة.
وهذا من دون أدنى شك جعل المجتمعات تبدو هجينة أو شبه هجينة، في تصادم وتوتر بين الأصيل والحديث، فمن جهة تشعر بالنوستالجيا الى الارث الثقافي والمبادئ والمعايير والبنى التقليدية، ومن جهة أخرى متطلعة نحو الموضة والتجديد والتحرر من القيود البالية. وعلى سبيل التوضيح ودائما في علاقة بالجسد، فإن المرأة ورغم إدراكها ان لباسها قصير أو مشدود، الا انها ما تزال تحفظ بعض متلاشيات الاحكام والحدود الاخلاقية، فتجدها كل مرة بحركة عفوية تشد قميصها إلى الأعلى خوفا من أن تكشف الحركة صدرها أمام الناظرين، او تجره اذا انحسر من الخلف كما ترفع سروالها الى خصرها حتى لا تنكشف ملابسها الداخلية.
إن غزو هذا الجسد للفضاء العام سواء كان مقهى أو مؤسسة أو حتى حديقة أو مدرسة، وتحرره من قيم المحلي ومن كلّ أنواع التابوهات الجماعيّة والخطابات الدينية التي أحاطته بأحكام الحرام والحلال، أخل طبعا بالنظام القيمي وأحدث اضطرابا وخلخلة به، الشيء الذي جعله حسب الذوق السائد -أقصد التقليدي- جسدا منبوذا، فالمراة التي تتصرف بجسدها على أنه ملكية خاصة دون مباركة الجماعة هي مصدر للضرر والعار والفساد والتسيب والفوضى، ففي المجتمع التقليدي، كل معاني العفة والشرف تختزل في جسد المرأة. وهو نفس الانطباع والحكم الذي نجده عند الموالين للذوق الجديد، ذلك أنهم يرون في الجسد الشرعي أو التقليدي، التوحش والبدائية والبلاء.
وكما للمجتمع التقليدي آلياته وتقنياته في تحصين المرأة وإخضاعها لمنطق الطهارة سواء عبر الحذر والتوجس من الاختلاط بالرجال او حبس جسدها لاطول مدة بالبيت سعيا لاخلاء الفضاء العام من الرّغبة المتوقّعة والوقوف بكلّ الوسائل ضدّ الجريمة الممكنة التي قد تُرتكب، وهذا كله طبعا بهدف الحفاظ على سلامة جسد الجماعة. فان للحداثة والليبيرالية آلياتها ايضا لاعادة صياغته وبنائه مفاهيميا وفي فصله عن الجماعة وجعله أكثر فردانية واستقلالية ووظيفية وعقلانية الشيء الذي أفرغه من طابعه الرمزي والثقافي وأضعف رابط الانتماء الهوياتي لديه. ليصبح آلة للانتاج، وسلعة للمتاجرة والاستثمار.
وفي خضم هذا الصراع الفعلي والرمزي على حد سواء، كون الفرد وعيا يمكن اعتباره تمويهيا، بالتحايل على كل من الأعراف الاجتماعية التقليدية والقيم الحديثة، من خلال مزاوجته بين الاثنين، الشيء الذي جعل الجسد تقليديا كان أو حداثيا مشوها ومنفصما، فعلى سبيل المثال قد تلتزم الفتاة العازبة باللباس «المحتشم» في إطار تعاقد ضمني مع الأسرة من أجل السماح لها بارتياد المجال العام، لكنها في نفس الوقت قد تتهاون بمسألة العذرية. وفي نفس السياق، فاللباس القصير والشفاف و الضيق لايعبر طبعا عن الرقي او التفتح، فربما يكون دليلا على التفسخ والانحلال الاخلاقي، بمعنى ان الجسد ظاهر لا كائن.


الكاتب : د. القاسمي بدرالدين

  

بتاريخ : 02/08/2022