بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.
أوروبا:
ترسيخ البعد البرلماني في روابط التاريخ والمصالح والمشترك القيمي الكوني
ويدرك الأوروبيون منذ مدة أن بلادنا ومؤسساتها شريك أساسي صادق ومميز مستقر في جنوب المتوسط في مجال الديموقراطية ودولة المؤسسات. وقد قدروا دوما مكانة مجلس النواب المغربي في البناء المؤسساتي وفي تجسير العلاقات مع المؤسسات الأوروبية. وتَجَسَّد هذا التقدير في عدة مناسبات ومشاريع. فقد كان مجلس النواب من المؤسسين الرئيسيين ومخاطبا مفضلا للبرلمان الأوروبي والبرلمانات الوطنية الأوروبية في السعي إلى تأسيس المنتدى البرلماني الأورومتوسطي عام 1998 الذي سيتحول عام 2004 إلى جمعية برلمانية أوروبية متوسطية التي ستصبح آلية برلمانية للاتحاد من أجل المتوسط» وتحمل لاحقا إسم «الجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط. فقد تولى الأخ عبد الواحد الراضي الرئاسة المشتركة لهذا المنتدى منذ إحداثه وإلى غاية تحويله إلى جمعية برلمانية (حوالي ست سنوات) ممثلًا لبلدان جنوب وشرق المتوسط، وكان مشرفا على تأسيس المنتدى وهيكلة الجمعية البرلمانية. ومن جهة أخرى كان لمجلسنا دور حاسم في تحويل المؤتمر البرلماني من أجل الأمن والتعاون في حوض البحر الأبيض المتوسط.Conférence interparlementaire sur la sécurité et la coopération en méditerranée (CSCM) الذي انطلق منذ مطلع التسعينيات في إطار الاتحاد البرلماني الدولي إلى إطار برلماني مؤسساتي – وكان مجلس النواب مساهمًا فيه – إذ تحول في 2006 إلى جمعية برلمانية للبحر الأبيض المتوسط آلت أول رئاسة لها إلى الأستاذ عبد الواحد الراضي. وكان مجلسنا من المؤسسات التشريعية القليلة التي اختيرت لتكون شريكا في توأمة مؤسساتية مع برلمانات وطنية أوروبية بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وقد كانت التوأمة المؤسساتية (2016-2018) التي جمعت المجلس مع خمس مؤسسات تشريعية وطنية : الجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس العموم البريطاني والبوندستاغ الألماني ومجلس النواب البلجيكي والبرلمان اليوناني ( البرلمان الهيليني، كما يُنادى أيضا)، نموذجا للنجاح في هذا النوع من الشراكات المؤسساتية. وقد يسر تبادل الزيارات السياسية والمهام التقنية بين مجلس النواب وهذه المؤسسات، مبادلاتٍ وحوارًا سياسيا على أعلى مستوى، وتم في إطارها إنتاج العديد من الدلائل العملية الإرشادية في مجال الممارسة البرلمانية، هي اليوم إرث يغني المكتبة البرلمانية ويضع بين يدي البرلمانيين الممارسين والباحثين وللموظفين وسائل عمل تم إعدادها على أساس دراسات مقارنة. وقد حرصنا على أن يتواصل الاشتغال في إطار هذه التوأمة، التي كان قد وقع عليها وأشرف على إطلاقها مع نظرائه الأوربيين زميلنا وصديقنا الرئيس راشيد الطالبي العلمي، بنفس الإرادة في ترسيخ الشراكة المؤسساتية مع هذه البلدان العريقة في الديموقراطية، علما بأن التفاوض بشأنها وتحديد إطارها والتصور الخاص بها كان قد تمَّ تحت إشراف السيد كريم غلاب رئيس المجلس برسم النصف الأول من الولاية التشريعية (2011-2016).
لقد كانت هذه التوأمة ناجحة ومنتجة، كما أثنى على ذلك زملاؤنا في البلدان الشريكة والخبراء الذين أنجزوا عملية التقييم المستقلة الذي أنجزته الوكالات الأوروبية المستقلة المعتمدة إلى القدر الذي حفز مؤسسات الاتحاد على المبادرة إلى إطلاق توأمة ثانية ترصيدًا لما تحقق وتقديرًا له. ولم نتردد في توقيع اتفاقية تعاون في هذا الشأن مع الاتحاد الأوروبي حرصا منا على استمرار الحوار البرلماني وعلى تبادل الخبرات.
وقد حَرصنا مع شركائنا في الاتحاد الأوروبي على إعطاء بعد أوسع لهذه الشراكة من خلال آلية فرعية ثلاثية للتعاون تضم مجلس النواب والاتحاد الأوروبي والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا.
وبالتأكيد، فإن حرص شركائنا الأوروبيين على مواصلة وتعزيز التعاون والدعم، ماكان ليكون لولا الثقة، ومصداقية ديموقراطيتنا ونجاعة الشراكة، ولولا توفر عنصر الحكامة في تدبير المشاريع وفعاليتها وإنتاجيتها.
ووفق نفس الرؤية واصل مجلس النواب تعزيز علاقاته مع الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا مرسخا الوضع المتميز للبرلمان المغربي في علاقته مع هذه الجمعية حيث كان أول مؤسسة تشريعية في البلدان غير الأوروبية تحظى بوضع الشريك من أجل الديموقراطية (يونيو – 2011).
وعلى غرار الشعبة المغربية في إطار اللجنة المختلطة بين البرلمان المغربي والبرلمان الأوروبي، حرصت الشعبة الوطنية في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا على الحضور اليقظ والاستباقي، والعمل على جعل العلاقات بين المغرب ومجلس أوروبا مستدامة وممأسسة. وبالتأكيد، فإن الدفاع عن القضايا الحيوية، وفي مقدمتها قضية وحدتها الترابية ظلت على رأس أولويات اشتغال هذه الشعبة.
وشكلت القضايا موضوع الاهتمام المشترك، من قبيل الهجرة والأمن وصيانة حقوق الإنسان والبيئة وقضايا النوع الاجتماعي والتبادل العلمي والتكنولوجوي، مواضيع حظيت باهتمام منتظم في اتصالات الشعبة وعملها المشترك مع نظيرتها في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا. وكانت نفس القضايا موضوع اهتمام واتصالات الشعبة المغربية في الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وشكل انعقاد الدورة الخريفية الثامنة عشر (18) لهذه الجمعية في المغرب في أكتوبر 2019، إشارة قوية من جانب أعضائها إزاء بلادنا وعربون صداقة دالًّا بين المملكة والبلدان الأعضاء في هذا الإطار البرلماني الموضوعاتي المتعدد الأطراف.
ويندرج تركيزنا على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، في سياق ترسيخ تموقعنا الأورو-متوسطي، ووفائنا لتاريخنا وإرثنا الحضاري، وتأكيدًا لدورنا كركيزة استقرار وتبادل، وصلة وصل بين أوروبا وإفريقيا، وأوروبا والعالم العربي. وقد كنا حريصين خلال الولاية العاشرة على التأكيد على مكانة حوض المتوسط في الاستراتيجيات الدولية، إذ إن في هذا الفضاء تتركز أكبر وأوسع وأقدم وأعقد النزاعات الدولية والإقليمية، ومن حول هذا الفضاء تندلع أكبر الأزمات الإنسانية التي تؤثر على المحيط والعمق الإفريقي والشرق أوسطي والمغاربي، من قبيل الهجرات لأسباب سياسية وأمنية ومناخية واقتصادية، والنزوح القسْري، والإرهاب العابر للحدود، وكل تداعيات الحروب والنزاعات والأزمات الداخلية والإقليمية.
وقد كنا حريصين في مخاطبة شركائنا الأوروبيين على التنبيه إلى مخاطر هذه الأوضاع ليس فقط على السلم العالمي والاستقرار والتنمية، ولكن بالأساس على مستقبل أجيال بكاملها والتي تحس بالإحباط واليأس وتتعرض للتجهيل، وبالتالي للاستقطابات من جانب الجماعات المتشددة.