بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.
التزامنا العربي في محيط مضطرب :
في الحاجة إلى مراجعات عميقة في الدبلوماسية البرلمانية العربية
إلى جانب العلاقات الثنائية الوطيدة التي تجمع مجلسنا مع عدة برلمانات عربية، تولينا رئاسة الاتحاد البرلماني العربي برسم الفترة الدورية من يناير 2017 إلى أبريل 2018 في سياق عربي موسوم باستمرار الحروب الأهلية وعدم الاستقرار في عدد من البلدان العربية. وعلى الرغم من أننا كنا مدركين لصعوبة المهمة، بالنظر إلى صعوبة تحقيق الأهداف كما نتوخاها دوما، نحن في المملكة المغربية، والتحلي بالواقعية والقطع مع الخلافات الهامشية، فقد استجبنا لرغبات عدد من زملائنا في الأقطار العربية وتولينا رئاسة الاتحاد البرلماني العربي.
وهكذا لما جاء نداءُ الواجب لأتحمل مسؤولية رئاسة الاتحاد، لم نتردد في مجلس النواب، في الاستجابة السريعة لأفق انتظار زملائنا في المؤسسات البرلمانية العربية.
ويَذْكُر الأَخوات والإخوة أن الزملاء في جمهورية مصر العربية هم من كانوا على أُهْبَة تحمل هذه المسؤولية طبقاً لمقتضيات ميثاق الاتحاد البرلماني (تم إقراره بصيغته المعدلة الحالية في المؤتمر الثالث والعشرين للاتحاد في القاهرة في 10-11 أبريل 2016) وفي سياق الأعراف التنظيمية السائدة، لكن التحولات السياسية والمُسْتَجدَّات الطارئة التي عرفَتْها الشقيقة مصر جعلت إِخواننا هناك يتنازلون عن استعمال هذا الحق فلم نتردد في تحمل مسؤولية الرئاسة، وتحملها باعتزاز وثقة وأمل، وبروح المساهمة مع زملائي في خدمة الشأن العربي والمزيد من دعم العمل البرلماني في بلداننا العربية والنهوض – على قدر ما تسمح به خصوصيات وإمكانات الواقع العربي – بممارساتنا الديموقراطية.
وهكذا، تحملنا هذه المسؤولية الطارئة في ظروف طارئة، غير أن إيماننا العميق بالعمل الجماعي داخل الإطارات والمؤسسات العربية لم يكن طارئاً أبدًا، وذلك لأنه إيمان راسخ بأسس ومنطلقات ومرجعيات العمل العربي المشترك باعتبار العالم العربي جغرافيا، وتاريخًا، وحضارة، وذاكرةً ومصالحَ مشتركة. كما أنه إيمان بأهمية العمل في المنظمات العربية، الشعبية والرسمية على السواء، لأن مظاهر التعثر والنكوص والاندحار التي أضحت تحيط بنا في الفضاء العربي لا يمكننا أن نواجهها كأقطار معزولة، وإنما بالتمسك بكل ما يجمعنا، ويوفر إمكانيات الحوار في ما بيننا، ويُرتِّب اختلافاتنا.
وقد كنت أعتقد أن الاتحاد البرلماني العربي، كيفما كان تقييمنا لمكانته ولحدوده ولنقصه الخاص، يظل يوفر مع ذلك أحد الأسباب التنظيمية الممكنة والقادرة على الإبقاء على الأمل في بناء المستقبل، ويهيئ لنا جميعاً فضاء مقبولاً ومعقولاً وعقلانياً للتقارب والتواصل وتبادل الأفكار والمقترحات والحلول المنبثقة من سيرورة نشاطنا البرلماني وصدق إنصاتنا لمجتمعاتنا العربية، ومن مدى تجاوبنا مع نداءات وتطلعات الشعوب العربية.
والواقع أن تحملنا لهذه المسؤولية العربية الجسيمة تزامن مع تطورات خطيرة في الواقع العربي، وبالخصوص في الساحة الفلسطينية، وبالأخص ما يتعلق بوضع القدس والمكفول قانونياً وشرعياً من طرف المنتظم الأممي مما فرض علينا أن نخصص مؤتمرين إثنين لمناقشة الانتهاكات الإسرائيلية لحرمة المسجد الأقصى. كما واكبنا بمواقفنا وبياناتنا وحضورنا مختلف الأحداث التي عرفتها الساحة العربية، ولم نغفل أبدًا عن التعبير عن موقف الاتحاد البرلماني العربي المندد بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وحقوقه، وتجاه عدد من الأحداث الإرهابية الآثمة التي استهدفت أمن وسلام ووحدة عدد من الأقطار العربية في سوريا ولبنان والسعودية واليمن ومصر إلخ. وتوجهنا إلى المجموعة البرلمانية الدولية حتى تتحمل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية والتاريخية إزاء أوضاع الشعب الفلسطيني.
ومن المؤكد أن سقف تطلعاتنا العربية كان أعلى من الواقع المتاح، وأن رغبتنا في بث روح جديدة في عملنا البرلماني العربي اصطدمت عموماً بضغط المواعيد والالتزامات، وأساسًا بعناد الواقع المضطرب والمدمر بين أكثر من بلد عربي. لكن الفرص التي أتحناها لأنفسنا كي نتواصل فوق أرض المملكة المغربية في عدة مؤتمرات ولقاءات وحول انشغالات مشتركة، لاشك أنها أعطتنا أفقاً من الثقة في أنفسنا وفي ممكناتنا الواقعية الملموسة.
وقد استجبنا لنداءات زملائنا العرب باحتضان الدورة 24 لمؤتمر الاتحاد البرلماني العربي، رغم إدراكنا الجماعي لدقة المرحلة العربية الراهنة وتعقيدات واقعنا السياسي العربي التي باتت معروفة ومؤلمة، ورغم حجم وثقل المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي باتت تسائل ضمائرنا وإراداتنا جميعا.
لقد كنا في تلك اللحظة التاريخية الصعبة، مدركين لمدى تردي الأوضاع العامة التي تعيشها الأمة العربية جمعاء، من خليجها إلى محيطها، إلى حد أن لا أحد يمكنه أن يقدم الدروس لغيره، ولا أحد بات بإمكانه أن يستأثر بأفضل التشخيصات والقراءات والتأويلات لواقع يفرض وضوح عثراته واختلالاته على الجميع.
وكان يكفي أن تجتمع إطارات العمل العربية، في هذه الظروف والشروط، لنعتبر أن هناك فسحة أمل لا تزال قائمة، ويمكن أن يتحاور عربي مع عربي، وينصت عربي لعربي، ويحس عربي بعربي. لقد أصبح مجرد الاجتماع مكسبا، وهذا يعكس عمق الخلافات وصعوبة المرحلة.
ولكن، هل يكفي أن يجتمع ممثلو أعضاء الهيئات التشريعية العربية، في هذا الإطار أو ذاك، لكي يجتمعوا على الحق، ويجتمعوا على المصارحة، ويجتمعوا على الوضوح، ويجتمعوا على إرادة خيرة وأفق مشترك وإحساس واحد بالواقع وإمكانيات التجاوز ؟ إن الجواب مفتوح على المستقبل، الذي لا يبدو أنه واعد.
لذلك، فأنْ يجتمع الاتحاد البرلماني العربي، يمثلُ في حد ذاته مكسبًا وفرصة لتحقيق الحد الأدنى مما يجمعنا، وتوضيح الرؤية في ما بيننا، وللرفع من إيقاع أدائنا كبرلمانيين عرب برغم اختلاف مرجعياتنا المجتمعية والتاريخية والسياسية والفكرية وتباين تجاربنا البرلمانية وخصوصياتنا الدستورية والتمثيلية وممارستنا الديموقراطية، ذلك لأن هناك ما يجمعنا ويوحد مشاعرنا وقيمنا، ولأن مصالحنا العربية مشتركة، ومصيرنا واحد، والتحديات المطروحة علينا هي نفسها بل إن التهديدات هي نفسها. وبالتالي، فإن الحاجة هي نفسها بالتأكيد على ضرورة قيام وعي عربي جديد بمتطلبات المناعة وتحصين العالم العربي وضمان أسباب أمنه واستقراره.
لقد أكدنا وشددنا في افتتاح المؤتمر على أن عقد هذه الدورة لا يتم من أجل البحث عن موقع أو استثمار معيّن لإطارنا البرلماني العربي هذا لغاية قُطْرِية ضيقة. وقد كنا سعداء باستضافته، ولكننا في الوقت ذاته كنا حريصين على أن تشكل تلك الدورة خطوة متقدمة وإضافة نوعية في عمل اتحادنا، الاتحاد البرلماني العربي، والرفع من وضعه الاعتباري وفعاليته وصورته في الساحة العربية وعلى المستوى الدولي.
في هذا الإطار، حرصت على التأكيد على التزامنا في المملكة المغربية بتوجهات وتوصيات مؤتمرات الاتحاد، سواء منها ما يهم تطوير آليات عمل الاتحاد وتقوية حضوره السياسي والرمزي أو ما يتصل بقضايانا المشتركة، إِنْ على المستوى العربي أو في واجهة العمل البرلماني الإفريقي والإسلامي والدولي، وعلى الخصوص بذل المزيد من الجهود في خدمة ودعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضيتنا الأولى، القضية المركزية لأمتنا العربية، معتبرين أن السلام في الشرق الأوسط غير ممكن، والاستقرار غير ممكن بدون إقرار حل عادل منصف للشعب الفلسطيني، وذلك على أسس الشرعية الدولية والقرارات الأممية القاضية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل سنة 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو/حُزَيْران 1967 وعاصمتها مدينة القدس، والتأكيد على حق العودة وفق القرار الدولي رقم 194.
وقد صارحتُ الزملاء العرب بأن أوضاعنا المتردية في الفضاء العربي تضعف بالتأكيد من مستوى حماية مكاسب الشعب الفلسطيني ودعم صموده وكفاحه الوطني المشروع. كما أن استمرار تمزق الصف الفلسطيني يزيد من تعقيد مهام ومسؤوليات إخوتنا في القيادة الوطنية الفلسطينية؛ وهو ما يتطلب منا جميعا إيلاء الاعتبار للجبهة الداخلية الفلسطينية، كل من موقعه وحسب إمكاناته المتاحة.
وقد حرصنا على التذكير ببعض سمات الوضع العربي في اليمن وسوريا والعراق وليبيا وهي أوضاع أعقد من أن تجد لها طريقا للتسوية في إطار برلماني متعدد الأطراف بحكم تداخل المحلي بالإقليمي بالدولي بالتاريخي والجيوسياسي في تعقيداتها.
ولعله من المؤسف حقا أن العرب مازالوا أبعد عن الاستثمار الحقيقي لإمكانياتهم وخبراتهم وثرواتهم ورأسمالهم المادي والرمزي في تحقيق النهضة المأمولة، وتجاوز التعثر التاريخي والحضاري والثقافي والمعرفي الذي تعاني منه الأمة العربية. فالعالم العربي يملك %55 من الاحتياطي النفطي العالمي، و%27.5 من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي، واحتياطي هام جدا من الفوسفاط. كما يتوفر على 33 ألف كلم من سواحل البحار والمحيطات في حين لا ينتج سوى %2.6 من الإنتاج العالمي للأسماك، علما أن الرهان الكوني سيكون على المجالات والمنتجات البحرية. هذا فضلا عن أكثر من 16 ألف كلم من الأنهار، ومصادر هائلة من المياه، واحتياطات هامة من الحديد والثروات المعدنية المختلفة. ويمتد الوطن العربي على مساحة %9.6 من مساحة الكرة الأرضية، وذلك في موقع استراتيجي هام بين القارات الثلاث الأوروبية والإفريقية والأسيوية،بل ويتوفر على سوق هائلة من 370 مليون نسمة منها أكثر من 130 مليون من القوى العاملة. ومع ذلك، مازالت نسبة الأمية في الوطن العربي تصل إلى %19. كما أن الهوة التكنولوجية والعلمية والمعرفية تزداد اتساعا مع المجموعات المتقدمة في العالم المعاصر. ولم يدرك العرب تماما معنى وقيمة التوجه نحو مشاريع استراتيجية كبرى عابرة للحدود العربية بدلا من الانغلاق داخل القطر الواحد بل عابرة للحدود العربية ذاتها نحو إفريقيا وآسيا وغيرهما، ونهج خطة تنموية قائمة على التكامل والتضامن والتعاون بين المكونات العربية بدلا من التسابق والتنافس وافتعال الخلافات. ولنا في بعض المبادرات الجريئة والاستثمارات الناجحة والمشاريع الكبرى لعدد من دول مجلس التعاون الخليجي في بلدان عربية وغير عربية مثال جدير بالتنويه والتثمين والاقتدار.
وأكدنا أن ما يحققه المغرب في الساحة الإفريقية، من خلال الدور الطلائعي الحيوي الذي يقوم به جلالة الملك محمد السادس وسعيه نحو علاقات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وروحية بعمق استراتيجي قائم على روح التعاون والتضامن والتكامل ومنطق (رابح-رابح)، أن هذا المنجز، مكسبٌ للعرب كذلك وليس فقط للقارة الإفريقية أو للمغرب. ذلك أن نجاح المغرب هو، بالتأكيد، نجاح للإقليم العربي وللقارة. وثمة ما يكفي من معطيات وحقائق تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية واقتصادية ودبلوماسية واستراتيجية تجعل من أفريقيا عمقا مكينا للأمة العربية مثلما يشكل العرب عمقا وامتدادا أساسيين للقارة الإفريقية وشعوبها الشقيقة والصديقة.
ومن هنا، استحضرت باعتزاز الرؤية الاستراتيجية التي عبر عنها المغرب من خلال المواقف والتحركات الدينامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، خصوصا في خطابه السامي الذي ألقاه جلالته أمام أشقائه قادة دول مجلس التعاون الخليجي في 20 أبريل 2016 في الرياض، وكذا كلمته السامية في الدورة 27 للقمة العربية الطارئة التي انعقدت في 25 يوليوز 2016 في نواكشوط، والتي رصدت أهم سمات وملامح التأزم العربي الراهن.