الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق (25)

سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

التزامنا العربي في محيط مضطرب : (2)

في الحاجة إلى مراجعات عميقة في الدبلوماسية البرلمانية العربية

 

وفي خطاب الرياض، توقف جلالته بقوة وجرأة ومسؤولية على ما آلت إليه أوضاع المنطقة العربية منذ الفترة التي تم تقديمها كربيع عربي سرعان ما غدا خريفا كارثيا يخلف الخراب والدمار والمآسي الإنسانية من جهة، ووضع اليد على خيرات عدد من بلداننا العربية، واستهداف بعض التجارب العربية الناجحة بل والمس بتميز نماذجها الموفقة والمستقرة. من حيث استقراره، وتنويع شراكاته الاستراتيجية، وكذا من حيث اختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقراراته الحرة التي لا تحاسب أحدا على اختياراته الخاصة، والتزاماته تجاه أشقائه وشركائه وحلفائه. وقد كنت دائما سعيدًا وفخورًا بأن أُذَكِّر بالنموذج المغربي الديموقراطي والتنموي، وبأن أسمع هذه الشهادات من مختلف الشخصيات والزملاء ورجال ونساء الدول الذين قابلتهم.
لقد استحضرت كما زملائي من رؤساء البرلمانات العربية وأعضاء الشُّعَب شهادة جلالة الملك لاقتناعي بأن أخلاق المسؤولية العربية تقتضي، اليوم، أن نسمي معضلاتنا العربية بأسمائها، وأن نواجهها بالتشخيص الموضوعي والتحليل الجريء، وبما يقتضيه الموقف التاريخي من صدق وحقيقة وإرادة مشتركة ووعي جماعي بالتحديات والتهديدات والمخاطر، إِنْ على مستوى الظاهرة الإرهابية، خصوصا منها ما يمس بسمعة الإسلام والمسلمين، ومظاهر العنف الطائفي والمذهبي في بعض أقطارنا العربية أو حجم المغالطات الفكرية والدينية التي باتت رائجة في فضائنا الثقافي والإعلامي والسياسي.
لقد حرصنا على البحث عن الحد الأدنى من الاتفاق، ووفرنا المناخ الملائم للحوار، وحفظنا لجميع الأطراف (بصفتي رئيسا للاتحاد والمؤتمر الرابع والعشرين 24) حقها في الحديث والترافع، رغم حدة الخطاب. والواقع أن هذا المناخ قلما كان يجد فضاء آخر يوفر له أسباب النجاح لا غير أرض المملكة المغربية.. وليس هذا لا بغريب ولا بجديد في تقاليد بلادنا المختضنة للاختلاف والتنوع.
وإذا كانت مدة سنة من رئاسة الاتحاد في سياق إقليمي جد مضطرب، وفي ضوء صعوبة تحقيق رؤيتنا للعمل البرلماني العربي المشترك، فإننا آثرنا مصارحة زملائنا، وحاولنا الابتعاد عن لغة المجاملة، والعواطف. كما حاولنا أن نقدم تشخيصًا موضوعيًا لأوضاع المنطقة، والتحذير من حجم التحديات على الحاضر والمستقبل وتداعياتها على أجيال بكاملها. ولكن لا السياق الدولي، ولا السياق الإقليمي، ولا الأحداث الطارئة في المنطقة العربية (الحالة التي كانت عليها العلاقات بين بلدان مجلس التعاون الخليجي) إلى جانب الخلافات العربية البنيوية، لاشيء من هذا، أسعفنا في تحقيق ما توخيناه وتطلعنا إليه في أداء ودور الاتحاد. ولكن الأكيد أننا حافظنا على انتظام مؤتمراته وأجهزته، وجسدنا صوتا آخر داخله، هو صوت الاعتدال والواقعية والاعتراف بمعطيات الواقع، وحجم التحديات، ونبهنا إلى عدم استغلال الإطارات العربية المشتركة لتكريس التخندقات وضرورة السمو إلى حجم التحديات الكبرى التي يواجهها العالم العربي مقابل الإمكانيات والموارد التي يزخر بها.
إن حجم الدمار، وتوجه الأوضاع في بعض البلدان العربية نحو المجهول، لا يعطل فقط التنمية والديموقراطية في المنطقة، ولكنه يخلق أجيالا يائسة بحكم الدمار النفسي والمادي المُمَارَس عليها. ومع ذلك فإن بوادر أمل تتجسد اليوم في إنهاء النزاع في ليبيا الشقيقة التي تقدر نُخَبُهَا، كما المجتمع الدولي، الدور الذي لعبه المغرب من أجل استعادة وحدتها والتزام الأطراف فيها بالعملية السياسية الديموقراطية. ويبقى خروج ما تبقى من البلدان العربية التي تعاني من الحروب والإرهاب مأمولا شرط إلغاء الطائفيات القاتلة والمخربة وبناء الدولة الوطنية الجامعة لمكونات الشعب الواحد، وبناء المؤسسات الوطنية الحاضنة للجميع.
ويمكن للاتحاد البرلماني العربي أن يضطلع ببعض الأدوار على هذا الطريق شريطة أن يغير من أنماط اشتغاله، ويكفل استقلاليته، ويكون قوة اقتراحية لمبادرات نبيلة تعكس معنى التسمية الجامعة التي يحملها. ويمكن الاشتغال في هذا الأفق وفق منطق التراكم وعلى أساس تمثل الديموقراطية أفقا، والعوامل الجامعة أسَاسَ الانطلاق إلى هذا الأفق الذي أضحى، شئنا أم أبينا، أفقا كونيا مشتركا. إن إرادة العالم العربي على الانخراط في مسلسل العولمة والانتماء إلى عصر المبادلات المفتوحة، وعهد الشفافية والمعرفة والمعلومة، ينبغي أن يوازيه التوجه على طريق الديموقراطية المؤسساتية، ديموقراطية نابعة من السياق الخاص، ولكنها لا تغفل فلسفة الحقوق والمشاركة والإيمان بالاختلاف والتنوع والتعددية، وتعتمد العقلانية عمقا.

البرلمان العربي

تعود فكرة إنشاء برلمان عربي إلى الخمسينات، غير أن تجسيد هذه الفكرة لم يتحقق سوى في مارس 2005 حيث تم اتخاذ قرار في إطار جامعة الدول العربية بإحداث هذا البرلمان، الذي انضاف على الاتحاد البرلماني العربي كمنظمة متعددة الأطراف.
وقد كان مجلس النواب من البرلمانات العربية الأولى التي تجاوبت على أعلى مستوى برلماني مع الفكرة، إذ شارك المجلس في مختلف دوراته وأحدث لهذا الغرض شعبة قارة.
وحيث إن هذا البرلمان يعتبر أحد أجهزة الجامعة العربية، فإن نجاعته وفعالية قراراته ترتبط بالوضع العربي العام وبأحوال النظام القومي والإقليمي العربي المعروفة عناصر قوته ومكونات أزماته والعوامل المتحكمة في ذلك.
وسيرًا على نهجنا الإيجابي، كنا دائما حريصين على المساهمة في أشغال هذا الجهاز العربي الذي نعتبره كفكرة وكمشروع وكطموح وكآلية، مؤسسة قابلة للتطوير، ويمكن أن يكون له دور مؤثر إذا ما حرص العرب على توفير الشروط الضرورية لاشتغاله.
وإذ نثني على حضور هذه المؤسسة في الأحداث العربية، ومواكبتها للحالة العربية وسعيها إلى التأثير الإيجابي فيها وتوفير شروط تجاوز الأوضاع المضطربة في أكثر من بلد عربي، والوقوف المبدئي، السياسي والدبلوماسي، إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وإلى جانب البلدان العربية التي تتعرض للإرهاب والمس بسيادتها، فإننا نتطلع إلى أن يكون هذا البرلمان قوة إصلاح، ومصالحة واستنبات الفكرة الديموقراطية والثقافة البرلمانية في المجال العربي.

مجلس الشورى المغاربي

بعث تأسيس اتحاد المغرب العربي في فبراير 1989 بمدينة مراكش آمالا كبرى في قيام تكتل اقتصادي جيوسياسي يساهم في رفع التحديات التي تواجهها بلدان المغرب الكبير، خصوصًا وأن الاتحاد أحدث عدة مؤسسات كان يُؤمل أن تطلق دينامية عملية في الفضاء المغاربي. ومن بين أجهزة الاتحاد التي نصَّت على إحداثها وثائقه التأسيسية «مجلس الشورى» وهو الجهاز التشريعي للاتحاد، أي ذراعه البرلمانية المكرسة لبعده التمثيلي-البرلماني.
وتنص وثائق الاتحاد على أن يتكون «مجلس الشورى» من ثلاثين عضوا عن كل دولة في اتحاد المغرب العربي يمثلون برلمان الدولة العضو، ويتم اختيارهم وفق المساطر التي يختارها كل برلمان عضو حسب لوائحه الداخلية وقرارات أجهزته.
والواقع أن توقف أعمال مجلس الشورى، يعتبر تجسيدا للشلل الذي أصاب اتحاد المغرب العربي وجزءًا منه، وذلك للأسباب والعوامل المعروفة. ومع ذلك فقد كان المأمول أن يشكل المجلس بحكم تركيبته المفترضة، واعتبارا لمسؤولية النخب البرلمانية المغاربية في بث الحيوية في جسد الاتحاد، أو على الأقل الإبقاء على فكرته قائمة لدى الأجيال الجديدة من شعوب المغرب الكبير.
وإذا كان من مهام مجلس الشورى إبداء الرأي في ما يحيله عليه مجلس الرئاسة من مشاريع وقرارات، وحيث إن مجلس الرئاسة لم يتمكن من الاجتماع منذ عقود، فإنه كان بإمكان مجلس الشورى، لو توفرت الإرادة السياسية الصادقة، ولو تم تحكيم العقول، وتغليب منطق الوحدة على منطق الهيمنة، أن يتوجه المجلس إلى المساهمة برأيه في تحريك العمل المغاربي، لكن لا الشروط الموضوعية الممثلة في جمود عمل الاتحاد، ولا الشرط الذاتي المتمثل في وجود جهاز إداري للذراع البرلمانية المغاربية، أسعفت في جعل مجلس الشورى استثناء في الجمود المغاربي.
وقد جعل الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش من مواصلة البناء المغاربي محورًا من محاور السياسة الخارجية التي يقودها بصدقٍ وحصافة، وما فتئ يدعو ويؤكد على التزامه القوي من أجل هذا الهدف. وقد شخص جلالته حال الاتحاد المغاربي بالتأكيد على أن «شعلة اتحاد المغرب العربي قد انطفأت في ظل غياب الإيمان بمصير مشترك. فالحلم المغاربي الذي ناضل من أجله جيل الرواد في الخمسينيات من القرن الماضي يتعرض اليوم للخيانة. ومما يبعث على الأسى، أن الاتحاد المغاربي يشكل اليوم، المنطقة الأقل اندماجا في القارة الإفريقية…».


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 04/09/2021