بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.
جنوب شرق آسيا:1
الأفق الجديد لدبلوماسيتنا البرلمانية
في سياق دولي مطبوع بعدم الاستقرار سياسيا واقتصاديا وأمنيا، تنهض قوى إقليمية جديدة تحقق صعودًا لافتًا على المستوى الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. تلك حالة عدد من بلدان جنوب شرق آسيا إلى حيث يبدو أن مركز العالم أصبح يتحول تدريجيا.
وبعد اليابان عقب الحرب العالمية الثانية، تحققت حالاتُ نجاحٍ ممثلةً في الصعود L’émergence الاقتصادي والتكنولوجي للنمور الآسيوية، ثم إلى غالبية بلدان جنوب شرق آسيا مع تفاوتات في الإنجاز، ولكن وفق الأفق نفسِه، والطموح نفسه بتحقيق نهوض اقتصادي وتكنولوجي يمكن إجمال أسبابه في :
القوة الديموغرافية، إذ نجحت هذه البلدان في تحويل «المعضلة» الديموغرافية إلى رافعة اقتدار وإنتاج وإبداع ودينامية اجتماعية، تقودها طبقات وسطى صاعدة ونسيج مقاولاتي محلي مبدع وباحث عن الأسواق.
قوتها التكنولوجية، إذ نجحت هذه البلدان في ما يمكن أن نُسَمِّيَهُ اختصار مسار التمرحل التاريخي الكلاسيكي (المرور بمرحلة الثورة الصناعية)، وتتموقع اليوم كقوى تكنولوجية بالاستثمارفي التكنولوجيات الجديدة وبنسيج مقاولاتي هائل يشتغل في القطاعات الواعدة.
وبالنتيجة، فقد يسّر هذان العاملان الصعود الاقتصادي لهذه المنطقة وجعلها قبلة للاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية من خارج القارة، (من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية)، مستغلة توفر يد عاملة رخيصة ومؤهلة وقوانين شغل مرنة.
أما العامل الرابع الحاسم في هذا الاقتدار الأسيوي فيتمثل في الثقافة، ذلك أن قيم الانضباط وحب العمل، وثقافة الواجب واحترام التراتبية في الشغل وتوقير الآخر، هي اليوم جزء من العقائد السياسية والثقافية لشعوب المنطقة، التي عرفت كيف تنفتح على العالم وتنخرط في الحداثة دون التفريط في الإيجابي من ثقافتها وقيمها الأصلية، وهذا ما وفر لها مناخاً عاماً من الاعتدال والتسامح واحترام الآخر.
وتعتبر الثقافة عاملا حاسما في الاقتدار الآسيوي. وإذا كانت العوامل الوارد ذِكْرُها وغيرها، من قبيل الدعم الغربي، وبالخصوص الأمريكي منه في سياق ما كان يعرف بالحرب الباردة، وفي إطار منطق المصالح، قد جعلت من منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا في موقع ريادة النمو العالمي اليوم، إذ بلغ معدل النمو الإقليمي بها 7.1 في المائة برسم 2019، وهي وتيرة مرشحة للاستمرار لسنوات بعد التعافي من انعكاسات جائحة كوفيد 19، التي يتأكد قدرة هذه البلدان على التخلص منها بسرعة، ولئن كان الطلب الداخلي هو المحرك الأساسي لهذه الدينامية، فإن احتكار بلدان المنطقة (جنوب وجنوب شرق آسيا) لثلث (1/3) الصادرات العالمية وهيمنتها على السوق الدولية في عدة قطاعات (النسيج – الإلكترونيك – المعلوميات – الصناعة المرتبطة بالسيارات – الخدمات)، تجعل منها، ليس فقط قوة اقتصادية، ولكن موضوع رهان دولي وقُوَةً تُسْتَجْدَى الشراكة معها.
وإذا كان هذا التحول الهائل الذي تشهده المنطقة يدخل في إطار ما يمكن تسميته دورة التاريخ في قيادة العالم التي قد تجعل من آسيا سيدة الاقتصاد العالمي خلال القرن الواحد والعشرين، وتتحكم في زمام المبادرة الاقتصادية الدولية بأسواقها ومهاراتها البشرية وتَحَكُّمها في التكنولوجيات الجديدة، فإن مناطق جيو-سياسية جديدة هي بصدد البروز والتشكل في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. فقد تمكنت القارتان من التخلص من عدم الاستقرار السياسي والنزاعات الداخلية والعابرة للحدود، ومن آفة الانقلابات العسكرية، وباتت الانتخابات وسيلة للوصول إلى الحكم، وينهض المجتمع المدني رافعا شعار الشفافية والحكم الرشيد والديموقراطية، وأصبح للمؤسسات التشريعية أدوار بارزة في الحياة السياسية، وتأسست أحزاب بمشاريع مجتمعية مختلفة، وصار الاهتمام بالعنصر البشري والثقافي رهانا مركزيا لدى الدولة والمجتمع، فيما تترسخ ثقافة المؤسسات والتداول على تدبير الشأن العام في عدد من البلدان.
وقد أدركت الدبلوماسية البرلمانية المغربية الرهانات الجيوساسية والاقتصادية والإنسانية للتعاون جنوب-جنوب، ومع هذه المناطق الجيوسياسية : إفريقيا، وجنوب وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. واستحضارًا لهذه الاعتبارات وغيرها، حرصنا على تعزيز علاقاتنا مع عدد من البلدان الآسيوية، والتأسيس في ذلك، ليس فقط على منطق المصالح، والمنافع المشتركة، ولكن بإعطاء علاقاتنا بعدًا تضامنيا وقيميا.
وبعد إفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث يتوفر مجلس النواب على حضور نوعي، فاعل وناجع ومستدام في المنتديات البرلمانية متعددة الأطراف، القارية والجهوية، كان حرصنا الجماعي على التوجه إلى جنوب شرق آسيا، معززاً بالإصلاحات الكبرى المؤسساتية والسياسية المنجزة ببلادنا منذ تسعينيات القرن الماضي وبالإمكانيات الاقتصادية، وبموقع بلادنا الجغرافي، وأساسًا بالثقة التي يحظى بها على الصعيد الجهوي القاري والدولي، والتي تترسخ بفضل دبلوماسية الاعتدال والسلم والتعاون التي يقودها جلالة الملك محمد السادس الذي أنتجت السياسة الإفريقية الجديدة التي ينهجها، تموقعا جديداً للمملكة قارياً ودولياً.
في هذا السياق سعى مجلس النواب إلى تطوير شراكات برلمانية مع بلدان جنوب وجنوب-شرق آسيا من خلال اتفاقيات ومذكرات تعاون، ومن خلال مأسسة الحوار والتنسيق عبر المنتديات كما هو الحال مع فيتنام وكوريا الجنوبية، ومن خلال تبادل الزيارات، ومجموعات الصداقة البرلمانية.
وفي هذا السياق، أيضا، تأتي مبادرة مجلس النواب، بتشجيع من أصدقائه في المنطقة بشأن الانضمام إلى الجمعية البرلمانية لبلدان جنوب شرق آسيا (AIPA). وتجسيدا لذلك وبدعوة من السيد Chuan Leekpai رئيس الجمعية الوطنية للتايلاند (مجلس النواب)، شاركنا في أشغال الدورة 40 لهذه الجمعية البرلمانية التي احتضنتها بانكوك خلال الفترة ما بين 25 و 30 غشت 2019، والتي تمحورت حول «تطوير الشراكة البرلمانية من أجل مجموعة مستدامة»، وكانت مناسبة قدمنا خلالها رسميا في جلسة عمومية لمؤتمر هذه المنظمة أسس ومبررات وطموحات بلادنا من الانضمام إلى هذه الهيأة متعددة الأطراف.
وإلى جانب مشاركتنا في أشغال هذه الدورة بصفة ضيف شرف، أجرينا مباحثات مع زميلنا التايلاندي وكبار المسؤولين التايلانديين ومع عدد من رؤساء البرلمانات الوطنية الأعضاء في الجمعية.
وقد عكست مشاركة مجلس النواب في أشغال الجمعية البرلمانية لدول جنوب شرق آسيا، التي تأسست عام 1977 وتضم عشرة بلدان أعضاء دائمين واثني عشر عضوا ملاحظا من آسيا وأوروبا، التقدير الذي تحظى به المملكة المغربية لدى بلدان المنطقة وحضور مجلس النواب في الدبلوماسية البرلمانية الثنائية ومتعددة الأطراف.
وقد كانت مشاركتنا في هذه الدورة مناسبة أيضا لبحث سبل تعزيز العلاقات بين المغرب وبلدان هذه المنطقة الجيو-سياسية الهامة ولاستشراف إمكانيات التعاون معها، خصوصًا في ضوء ما يجمع مجلس النواب وعدد من البرلمانات الوطنية من بلدان جنوب شرق آسيا من إطارات للتعاون.
وبالتأكيد، فإن العلاقات التي نسجها مجلس النواب مع بلدان جنوب شرق آسيا والتي أنضجت فكرة انضمامه كعضو ملاحظ إلى جمعيتها البرلمانية (AIPA)، إذ تم الحسم في توفر المجلس على المعايير والشروط المطلوبة للحسم في الحصول على صفة عضو ملاحظ، توازي، وتعزز، وتمهد الطريق لانضمام المغرب إلى الحوار الحكومي متعدد القطاعات بمجموعة بلدان جنوب شرق آسيا. وقد تحقق هدفنا بالفعل بحصول مجلس النواب على صفة عضو ملاحظ في الجمعية خلال الدورة 11 للجمعية المنعقدة في فييتنام خلال شتنبر 2020. وفي هذا الصدد أود أن أثني بالخصوص على الأصدقاء في جمهورية الفيتنام الاشتراكية، وعلى رأسهم رئيسة الجمعية الوطنية للفيتنام السيدة نغويان تي كيم نغان Nguyen Thi Kim Ngan، الذين ثمَّنوا مكانة المغرب ووضعه الاعتباري والجيو-سياسي في أن يحظى بالعضوية في هذا الإطار الآسيوي الاستراتيجي. والشكر نفسه أتوجه به إلى الزملاء والزميلات في البرلمانات الأعضاء في الرابطة الذين حرصوا على أن ينال مجلس النواب المغربي هذه العضوية وتيسيرهم لمسطرة الانضمام.
وتعد إمكانيات الاشتغال والتعاون مع هذه المجموعة هائلة إذ إن غالبية أعضائها تتطلع إلى أن يكون المغرب قاعدتها وبوابتها للانطلاق نحو أوربا وإفريقيا، وإلى أن تكون هي قاعدته نحو المنطقة. وما من شك في أن بلادنا تتوفر على العديد من الإمكانيات والرافعات لتحقيق هذا الهدف : التكامل مع عدد من البلدان في عدة قطاعات وفي مقدمتها الفلاحة ومستلزماتها من مُخَصِّبات وتقنيات، والسياحة والنقل البحري، والبعد الروحي (تكوين الأئمة من البلدان الإسلامية والبلدان حيث تعيش طوائف مسلمة، وتكوين طلبة في اللغات) والمعركة من أجل البيئة والتكنولوجيات الجديدة…
في المجمل، فإن أفقا جديداً للدبلوماسية البرلمانية المغربية ينفتح في منطقة جيوسياسية هامة، برهانات شراكة مربحة للجميع تتوخى الازدهار المشترك للشعوب في إطار الديموقراطية والتعايش والتسامح، وفي إطار عالم متعدد الأقطاب باعتباره هدفًا مركزيًّا للدبلوماسية البرلمانية اليوم.
ولهذا الغرض، ينبغي على المستوى البرلماني تفعيل مقتضيات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تجمع مجلس النواب مع البرلمانات الوطنية في هذه المنطقة، والحرص على عقد منتديات موضوعاتية ثنائية ومتعددة الأطراف، بهدف المساعدة في توفير المناخ والظروف الملائمة للتعاون الاقتصادي والمساهمة في توفير المناخ الملائم للتعاون الاقتصادي والتفاهم السياسي، والتعريف بإمكانيات بلادنا ومؤهلاتها الاقتصادية والاستثمارية واللوجستيكية وتموقعها الدولي والإقليمي.