ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
كجميع المغاربة حرص البيضاويون على تعليم أبنائهم مبادئ القراءة والكتابة، وكانوا يعتنون بتحفيظهم القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية والحديث والتفسير، فالدار البيضاء قبل الحماية الفرنسية لم تختلف في شيء عن باقي الحواضر والبوادي في المملكة المغربية في مجال التعليم وفي طرقه ومناهجه، غير أن هذا التعليم كان يمر بمراحل ثلاثة لا بد منها، وكانت تبتدئ بالكتاب القرآني ثم حلقات الدروس في العلوم الإسلامية في الفقه واللغة العربية والحديث والتفسير، وهي دروس كان يقوم بإلقائها عدد من الفقهاء البارزين في مساجد الدار البيضاء، ثم في المرحلة الثالثة يأتي دور حلقة الدروس التي كان يعقدها الطلبة في منازلهم بكيفية دورية.
ومن المعروف ما كان يلعبه الكتاب في حواضر المغرب وبواديه من دور هام في تعليم النشء الكتابة وحفظ القرآن وطرق رسمه، وكان بالدار البيضاء عدة كتاتيب لا يخلو منها حي داخل الدرب وعلى قارعة الطريق وكان يسيرها عدة أساتذة تخرج على أيديهم عدة طلبة حفظوا القرآن وأتقنوا رسمه.
يذكر هاشم المعروفي في كتابه «عبير الزهور» بعضا من هؤلاء الأساتذة كالسيد علال بضريح الولي الصالح سيدي علال القيرواني، والفقيه السيد عبد الفاضل مع معينه سيدي لحسن قرب فسحة التجارة، والطالب السيد محمد الطويل بضريح سيدي أحمد الحداوي قرب جامع السوق، والسيد الهواري الدكالي بالزاوية الناصرية، والسيد عبد العزيز الدكالي بالزاوية الحمدوشية والسيد حميد الشيظمي بجامع الشلوح والسيد محمد المكناسي بجامع اولاد مومن، ثم أستاذه السيد محمد الغربي التطواني، وذكر هاشم المعروفي ترجمة لهذا العلامة الجليل، وما امتاز به من خصائص في مناهج تعليمه فقد «قدم هذا الأستاذ إلى الدار البيضاء من مدينة تطوان بقصد الإقراء والاستيطان حوالي 1320 ه في أوائل القرن العشرين الميلادي، وكان يكتري دارا واسعة الأرجاء متعددة البيوت ويجعلها مدرسة نموذجية لحفظ القران وتجويده وضبط رسمه، وقد أقبل عليه أعيان الدار البيضاء ووجهائها لإلحاق أبنائهم بكتابه، وكان يخيرهم في بقاء أولادهم محروسين في الكتاب من الشروق إلى الغروب وسيرسلون إليهم وجبة الفطور والغداء، وكان بعض آباء التلاميذ اختار هذه الطريقة خوفا على أولادهم من الاتصال بأبناء السوء المنحرفين، وكان يخصص الحجرة الكبيرة للدراسة ويخصص بيتا للأكل والنوم وبيتا آخر لأمتعته الخاصة وبيتا آخر للتلاميذ المحروسين لتناول طعامهم ووجبة الفطور والغداء، وله أنظمة خاصة به منها الاستراحة، الرياضة، تعليم الرماية بالحجر أو بالرصاص، طريقته في تسهيل حفظ القران، طريقته في الحفلة المسماة «الزردة»، إلمامه بصنع بعض الأدوية للتلاميذ ..».
ومن خلال ما أخبرنا به الكاتب نستشف أن نظام الاستراحة في المدارس قد عرفه البيضاويون قبل مجيء الفرنسيين إلى المغرب وقد سبقهم إليها هذا العلامة الجليل مثلها مثل الرياضة وتعليم الرماية، التي كانت من ضمن نظامه التعليمي .
ثم تأتي المرحلة الثانية فإذا انتهى التلميذ من حفظ القرآن أو الإشراف على حفظه ينتقل إلى الاشتغال بحفظ المتون كمقدمة ابن اجروم وألفية ابن مالك والمرشد المعين لابن عاشر وتحفة الحكام لابن عاصم والرسالة لأبي زيد القيرواني إلى آخره …
ومن هذه المرحلة ينتقل التلميذ إلى حلقات الدروس على بعض العلماء والفقهاء الأذكياء الذين كانوا يكرسون جزءا من وقتهم لأداء رسالتهم العلمية التي لا يخفى آثارها في ميدان المحافظة على مقوماتهم الدينية والفكرية وركائز الأصالة، التي طبعت الشعب المغربي طوال عهود التاريخ.
لقد كان الطلبة خلال مراحل تعليمهم يحرصون على مطالعة المراجع المختلفة بهدف توسيع مداركهم العلمية والثقافية، ويذكر المؤرخون أن الدار البيضاء جمعت نخبة من العلماء الأكفاء في الفقه والأدب والحديث والتفسير والأصول والبيان والمعاني والعروض وكان كل عصر ورجاله.
في عصر قريب، خلال بداية القرن العشرين، كان العلماء يتدارسون العلم في مساجد الدار البيضاء ويكرسون أوقاتهم في تثقيف الطلبة، ومن هؤلاء العلماء نذكر الفقيه العلامة السيد محمد ازويتن الفاسي رحمه الله، ففقد كان أول ما قام به أن فتح درسا لرسالة ابن زيد والقيرواني بجامع الشلوح بين العشاءين وكان هذا المسجد يغص بالحاضرين، حسب ما نقله باحثون، كما كان يشرح المتن ويتوسع بشروح خليل ويحكي الأقوال ويتفصل على القول الراجح أو ما جرى به العمل مستدلا على ذلك بنصوص الفحول وكان يخلل مواعظه ونصائحه من علم التصوف، يخص ذلك للعوام الناس بقصد النصيحة والإرشاد، وبجامع الشلوح دأب على شرح ألفية مالك للطلبة من الساعة العاشرة إلى الزوال، « وكان صنيعه في التدريس إذا جلس وحلق الطلبة يقرأون المتن جماعيا فإذا انتهوا منه شرع في الدرس ويقول تقدم لنا بالأمس ويحكي الدرس مجملا ثم يقول الآن يقول المصنف ويقرأ متن الدرس ثم يبينه مجملا ثم يفصله مجملا..» هاشم المعروفي.
ومن بين العلماء كذلك الذين كانوا يلقون دروسهم بالدار البيضاء الفقيه العلامة الصوفي المحدث المفسر السيد علي بنمنصور الدكالي كان معتكفا بالزاوية القادرية للدروس الليلية والنهارية، وممن تخرج عنه الفقيه العلامة السيد محمد بن ملوك الحداوي البيضاوي.ومن العلماء الفقيه العلامة السيد محمد بن عمر دينيا الرباطي كان يلقي دروسه بالجامع العتيق بين العشاءين ودرسا مع الطلبة نهارا.
وكان الفقيه العلامة الشريف مولاي احمد بن المامون البلغيثي لما تولى القضاء بالدار البيضاء فتح درسا مع العدول والطلبة بتحفة ابن عاصم وختمها صباحا ودرسا آخر في التفسير والحديث بين العشاءين إلى غير هؤلاء من العلماء الأجلاء الذين لا تزال تذكرهم كتب التاريخ.
أما المرحلة الثالثة من تعليم طلبة بالدار البيضاء فكانت تتمحور حول حلقات دروس علمية دورية في منازلهم ليلة الجمعة، وكان الطلبة ينقسمون إلى قسمين الطلبة الكبار والطلبة الصغار، وكل واحد منهما له جمع خاص.
فالطلبة الكبار، حسب كتاب هاشم المعروفي دائما، كان جمعهم يتكون من الأمين الفقيه السيد محمد بومهدي الحداوي والفقيه السيد محمد بن ملوك الحداوي والفقيه السيد أحمد القصري الرباطي والفقيه السيد أحمد المعروفي والفقيه السيد الرداد الدكالي وغيرهم، وكانوا يجتمعون على مدارسة العلوم الإسلامية من فقه وحديث وسيرة ويختمون دروسهم بتناول طعام العشاء، أما جمع الطلبة الصغار فكان يتكون من تلامذة الفقيه السيد محمد زويتن وكان جمعهم دوريا كل ليلة جمعة بمنزل أحدهم… وخلال هذا الجمع الأسبوعي كانوا يدرسون مختصر الشيخ خليل ورسالة ابن أبي زيد القيرواني وكانوا يخصون الدروس بالشهور الفاضلة بما يناسبها وكانوا يخصون شهر رمضان بدرس أحكام الصيام من فقه وحديث، وشهر ربيع الأول بما يناسبه من دراسة الشفاء للقاضي عياض والمواهب اللدنية وشرح البردة والهمزية ويخللون جمعهم بدراسة أحكام الزكاة…
وكانوا يقتصرون في طعام العشاء على الكسكس واللحم والخضر والشاي، وكانوا يتناقشون في مسائل من العلم ويتجادلون في أحكامها الفقهية أو اللغوية أو الحديثية أو النحوية، فإذا اختلفوا في مسألة أرجأوا حلها إلى جلسة الأسبوع المقبل فيراجعون المسألة في مظانيها ويحررونها تحريرا وفي بعض الأحيان كان كل واحد منهم يأتي بمسألة علمية يختار موضوعها من لغة أو فقه أو حديث أو نحو فيمليها إلى المجلس وكانت هذه الدراسة دورية…