الدار البيضاء …تلك المدينة 22 : مساجد لإقامة الصلوات وانطلاق المظاهرات والاحتجاجات ضد المستعمر

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

لم يقتصر دور المساجد بالمدينة القديمة للدار البيضاء على إقامة الصلوات ووعظ المصلين وإرشادهم أو لإقامة صلاة الاستسقاء كلما حبست السماء مياهها، بل امتد دورها خصوصا في عهد الاستعمار، إلى مجال آخر يتمثل في كونها كانت مسرحا للعديد من الأحداث ومكانا مفضلا للبيضاويين لانطلاق مظاهراتهم واحتجاجاتهم عقب الصلاة، ضد كل قرار سياسي أو تعسف لسلطة الحماية، أو كلما وقعت حادثة من الحوادث السياسية التي حبل بها ذلك الزمن، كما كانت المساجد، حسب الكاتب حسن لعروس، مقر اجتماعات للنظر في قضايا الوطن والمواطنين، وهو ما حدث سنة 1936 نقلا عما جاء في كتاب أحمد زياد «دفتر أيام الدار البيضاء»، والذي أشار إلى المظاهرة التي خرجت من جامع السوق إثر اعتقال زعماء الحركة الوطنية علال الفاسي و محمد بن الحسن الوزاني، في أعقاب اجتماع للمطالبة بحرية الصحافة، ومظاهرة أخرى خرجت من نفس المسجد ضد سلطات الحماية التي تراجعت عن بعض مطالب الحركة الوطنية، كما خرجت مظاهرة في سنة 1952 عقب اغتيال الزعيم فرحات حشاد، وأخرى خرجت قبل نفي السلطان محمد الخامس من الجامع الكبير عصر يوم 16/08/1953 ..كما كانت المساجد، حسب ما جاء في كتاب حسن لعروس، مقرا «لتجمعات المقاومين للتشاور والتخطيط وتوزيع المهام وإخفاء الأسلحة وإعداد المناشير وتوزيعها . «
ويوجد بالمدينة القديمة ستة مساجد هي : المسجد العتيق وجامع الشلوح وجامع السوق، ومسجد ولد الحمرا، وجامع الكبير وجامع بين الجوامع:
بجوار دار المخزن، التي تحولت إلى مقاطعة بالمدينة القديمة للدار البيضاء، بني أول مسجد وسمي بالمسجد العتيق، وحسب الرخامة الموجودة على بابه فقد بني في عهد السلطان محمد بن عبد الله عام 1201هجرية، وزاد في رحابه السلطان مولاي الحسن عام 1308 هجرية ، وفي خامس شوال 1377 هجرية عندما أدى به فريضة الجمعة المغفور له محمد الخامس لاحظ أنه يضيق بالمصلين فأمر وزارة الأوقاف بهدم الدور والحوانيت الحبسية المتصلة به وضمها إلى رحابه، كما أمر أن يهد مناره ويشيد من جديد، فتم ذلك في أواخر شعبان عام 1379هجرية وصارت مساحته 3866مترا مربعا بدلا من 1783 مترا وقد قام بتدشينه يوم الجمعة 28 شعبان.
وحسب ما جاء في كتاب هاشم المعروفي « عبير الزهور» فإن الزيادة المذكورة في الرخامة الموجودة بالمسجد في عهد المولى الحسن كانت من الناحية المجاورة للمقاطعة الأولى من الصومعة إلى آخره في عهد السلطان المولى عبد العزيز، وهي المعلومة التي وقف عليها في رسالة موضوع الزيادة إلى ناظر الأحباس إدريس بن محمد الفيلالي مؤرخ 1320 ه أطلعني عليها، يقول المعروفي، ولده السيد احمد.
أما جامع الشلوح فقد بني وسط ساحة مركزية بالمدينة القديمة، وتم بناؤه في سنة 1899 م من لدن محمد الصنهاجي، وبفضل مئذنته التي تشكل بصمة خاصة لجامورها المعدني تتم رؤيته من بعيد، ويوجد بالجانب الغربي للمدينة، وحسب كتاب «المدينة القديمة بالدار البيضاء « لكاتبه حسن لعروس، فإن اسمه غالبا ما يكون قد أطلق عليه لوجود مجموعة من الأمازيغ من المرجح أنهم من بنوه أو ربما شاركوا في بنائه فحمل اسمهم. وفي كتابه «عبير الزهور» يذكر هاشم المعروفي أن هذا الاسم حديث، وكان يسمى قبله بجامع الكرمة نسبة إلى شجرة كرم كانت نابتة فيه لما كان كتابا لتعليم كتاب الله. وعن سبب تسميته بجامع الشلوح ما يحكيه، حسب الكاتب، الأهالي المسنين منهم أن حراسة المدينة في الليل كانت موكولة لجالية شلوح حاحا، الذين أتى بهم السلطان سيدي محمد بن عبد الله لحراسة المدينة، وكانوا يجتمعون كل يوم عند العشي بباب الجامع المذكور فيوزعهم رئيسهم للحراسة فينطلقون من باب المسجد، وبسبب ذلك نسب المسجد إليهم، ولما دعت الحاجة لجعله مسجدا تقام فيه صلاة الجمعة تكلفت وزارة الأحباس والأوقاف ببنائه وبناء صومعته، ولما ضاق بالمصلين زيد في الدور التي كانت مجاوره له، وكانت هذه الزيادة في عصر ناظر الأحباس إدريس الفيلالي.
بالنسبة لجامع السوق فقد شيد في عهد القائد السيد محمد بن ادريس الجراري لوديي الذي كان عاملا على الدار البيضاء في عهد السلطان سيدي مولاي عبد الرحمان وولده السلطان سيدي محمد، وفي كتاب «بلوغ المنى والآمال في من لقيناه من أهل الفضل والكمال» ، جاء فيه «أن الدار البيضاء كانت خالية من السكان في أوائل عصر السلطان مولاي عبد الرحمن، ولما زاد نموها وكثر عمرانها طلب السيد محمد بن العربي الدلائي المذكور القائد السيد محمد بن ادريس الجراري أن يسعى في بناء مسجد آخر لضيق المسجد العتيق بالمصلين، فكتب القائد المذكور للسلطان سيدي محمد بن مولاي عبد الرحمان يلتمس منه بناء مسجد آخر وحمام حيث أن الدار البيضاء لا حمام بها، فأجابه بزيادة بناء مسجد وبناء حمام، والإنفاق على المسجد من غلة الحبس، وعلى بناء الحمام من مستفاد مرسى الدار البيضاء»، وقد تعرض احمد الناصري في «الاستقصاء» في ولاية السلطان سيدي محمد بن مولاي عبد الرحمان لهذا الخبر. وحسب ما جاء في كتاب المعروفي فإن المسجد بني على أرض كانت مملوكة لامرأة تسمى عناية بنت الدراوي، وكان لها ولد يسمى الهاشمي ولد مكراز، وكان هذا الولد أحدث في هذه الأرض روضا وغرس فيه أنواع الرياحين من ورد وقرنفل وزهر وغير ذلك، وحفر فيها بئرا وبنى محلا بالقصب جعله مقهى لأهل البلاد، كان الناس يجتمعون في تلك الأرض ويتناولون فيها شرب الشاي والقهوة إلى أن حبست تلك الأرض، والمسجد يوجد على الجهة الشرقية قرب الباب الكبير سابقا والمؤدي إلى داخل المدينة وزنقة كناوة، سمي بجامع السوق بسبب قربه من سوق لبحيرة المعروف بتعدد أنشطته التجارية.
وبزنقة البحرية يوجد جامع ولد الحمرا، وهو يعد من بين أكبر المساجد في المدينة القديمة، ويقع بجوار السور وقبالة الميناء، بني في أواخر القرن الثامن عشر في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، ويتضح تاريخ بنائه من الكتابة المنقوشة عليه 1204ه-1790م، وقد ارتبط بناؤه بالزيادة الديموغرافية التي عرفتها المدينة القديمة في ذلك الوقت، ويفصل موقعه بين الجهة الشرقية الأوروبية للمدينة وجهتها الغربية الشعبية، وموقعه قريب من باب لمريسى، الذي كان أهم شرايين المدينة خلال عهود خلت، وقد كان بدوره مقر أنشطة المقاومة، وقبالة باب الجامع كانت تتواجد الإقامة العامة الفرنسية التي تحولت بعد الاستقلال إلى مقر للاتحاد المغربي للشغل. وولد الحمرا هذا، حسب هاشم المعروفي، من قبيلة اولاد محمد فرقة قبائل لعشاش، المنتمين لقبائل مزاب، والجامع حسب ذات الكاتب، بابه من جهة الغروب مؤرخ في 1204 ه ، وفي هذه السنة توفي السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي جدد الدار البيضاء، وتولى بعده ولده مولاي اليزيد ولا ندري هل بني في عصر السلطان سيدي محمد أم في عصر السلطان مولاي اليزيد، ويحتمل أن بناءه ابتدأ في عصر السلطان سيدي محمد وتمم في ولاية مولاي اليزيد، والشائع على السنة المسنين من سكان الدار البيضاء أن السلطان مولاي اليزيد هو الذي أمر بتسقيفه. ويضيف ذات الكاتب أن تاريخ بناء صومعته هو سنة 1310 ه كما هو مكتوب عليها في آخر عهد السلطان مولاي الحسن، الشيء الذي يدل على أن السلطان مولاي الحسن هو الذي أمر ببناء صومعته وما حولها.
جامع الكبير شيد وسط زنقة سيدي فاتح، وقال عنه هاشم المعروفي إن السيد الكبير هذا هو السيد الكبير بن محمد الحريزي المنسوب إلى درب الكبير، وهو الذي بناه وجعله مسجدا تقام فيه صلاة الجمعة. هذا المسجد وحسب ما جاء في كتاب حسن لعروس «خرجت منه أكبر مظاهرة عرفتها المدينة القديمة بعد صلاة عصر يوم 16 غشت 1953 عقب قرار الإدارة الفرنسية بمحاولة خلع محمد الخامس عن عرش أجداده، خرج من هذا المسجد المئات من سكان المدينة القديمة تجوب الشوارع في حالة سخط وغليان وكان يؤطرها زمرة من شباب المدينة القديمة يتقدمهم الشهداء محمد الزرقطوني وأحمد الراشيدي وأخواه محمد و عبد الرحمن واولاد لعسل ومصطفى بارجو واولاد الحاج محماد واولاد البياض والزبيديين والسريانيين والمرحوم محمد ولد بريك المنادي وأعداد غفيرة من ساكنة المدينة القديمة رجالا ونساء، وكانت نتيجة هذه المظاهرة سقوط عشرات الضحايا .»
أما أصغر مسجد بالمدينة فهو جامع بين الجوامع، ويتوفر على صومعة قصيرة فسماه الناس جامع «الصمعا المكرجا»، ويوجد وراء الكنيسة الإسبانية التي أصبحت بعد ترميمها دارا للثقافة، وشيد هذا المسجد بين مسجد جامع ولد الحمرا وجامع الشلوح، وهذا ما جعل اسمه جامع بين الجوامع أو في رواية أخرى، حسب لعروس، أن تسميته ربما ترجع لكون المنطقة كانت تعج بالكتاتيب القرآنية فبني المسجد بينهم.