ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
من درب كناوة ودرب الكرواوي إلى درب سعيد واللبادي تعاقب البيضاويون على العيش وسط منازلها الصغيرة ودروبها الضيقة، مجاورين للبحر القريب، مكتفين من الحياة بما يجود به من خيرات، وما يصلهم من محصولات زراعية آتية من القبائل المجاورة، أو ما يلفظه الميناء من سلع قطعت البحار لتصل إليهم، يكتفون منها بما يناسب جيوبهم ويتركون الباقي للجاليات الأوروبية البورجوازية التي كانت تقاسمهم استنشاق هوائها وافتراش أرضها، غير أن ما يثير الانتباه هو ارتباط بعض هذه الأحياء بأسماء شخصيات وأعلام تاريخية أبت إلا أن تخلد أسماءها إلى الأبد على ألسنة البيضاويين الذين لا يعرف أغلبهم أصحابها ويجهل علاقته بالبيضاء وبمدينتها القديمة، وسبب تسمية دربه أو حومته بهذا الاسم أو ذاك، ومن بين هذه الأسماء والدروب نجد «درب الكرواوي» الذي يوجد مدخله قبالة الزاوية الناصرية، والكرواوي، حسب ما استقيناه من كتاب هاشم المعروفي السالف الذكر، هو الحاج الكرواوي السعيدي وكان من أغنياء المدينة ووجهائها، ويرد ذكره وبعض معاملاته التجارية في بعض الوثائق المحفوظة بالمكتبة العامة والمحفوظات بتطوان، واحدة مؤرخة في سنة 1878، والأخرى سنة 1880 .
أما «درب اللبادي» فيظهر أنه يحيل على أحد أمناء مرسى البيضاء الحاج محمد بن محمد اللبادي التطواني الذي اشترى أملاكا بالبيضاء وصار من الملاكين بها، وهذا الدرب يوجد مدخله قرب فسحة سيدي علال القيرواني، ومن الوثائق التي تذكره رسالة أرسلها إلى الأمين الحاج محمد بن العربي الطريس يخبره فيها بموافقة الجلالة الشريفة على طلب إعفائه من خدمة الأمانة وتعيين خلف له مؤرخة في 1878. هذه الوثيقة موجودة بالمكتبة العامة بتطوان، ثم وثيقة أخرى تتضمن رسالة إلى العامل الطريس يوصيه بمساعدة محمد سلامة في ما كلفه به من السهر على مصالحه بالدار البيضاء.
وبالنسبة لـ»درب الميلودي» فهو يوجد على اليسار الداخلي من باب مراكش، وهو ينسب إلى القائد الميلودي بن محمد، وقد سمي الدرب باسمه لسكناه به وكان قائدا على مديونة وزناتة وفضالة في عصر السلطان مولاي الحسن.
«درب حمام سبع برم» يشاع أن هذا الدرب شيد على أنقاض حمام في عهد مدينة أنفا بقي أثره فأطلق عليه هذا الاسم، وهذا الحي يوجد خلف الكنيسة المسيحية بالمدينة العتيقة.
«درب كناوة» يطلق هدا الاسم على قرية يسكنها مجمع بشري من الأفارقة السود أغلبهم من غانا والذين كان لهم زي خاص، وهذا الاسم يطلق على ما جاور القرية من أحياء .
«درب بن سعيد» يوجد قرب حي سيدي فاتح ودرب لفرينة، وسعيد هذا رجل من أهل فاس كان يسكن الدرب المذكور فاشتهر به.
«درب الجران» يوجد قرب «بوسبير» وسط المدينة القديمة، اسم غريب يحيله السكان إلى مستنقع أو «ضاية» قديمة كبيرة قرب الحي كانت مملوءة بالضفادع، وكان ضجيجها يصل إلى كل مسامع ساكنة الحي، ورغم أن «الضاية» تم ردمها بسبب البناء إلا أن الاسم لم ينفصل عن هذا الحي وسط المدينة القديمة .
ثم زنقة الرباط، والتي كان يسكنها رباطيون أتوا من الرباط خلال القرن التاسع عشر واحتكروا تجارة المجوهرات بالمدينة القديمة، وكان عددهم لا يتعدى ثماني أسر من بينهم العمار ، الباز، العسري ، الزاكوري…
إضافة إلى هذه الأحياء هناك أخرى أخذت أسماءها من شخصيات أجنبية وفرنسية بالتحديد كحي «بوسبير» ويعود الاسم لبوسبير فيريو، الذي ولد في الدار البيضاء سنة1866، وكان مسؤولا عن الوكالة القنصلية الفرنسية بمدينة الدار البيضاء ثم أصبح نائب قنصل اليونان وأخيرا مستشارا للتجارة الخارجية، يقال إنه امتلك الأرض التي أقيم بها الحي القديم منذ سنة 1908 .. وكان هذا الحي الشهير الذي يعود تاريخ بنائه إلى سنة 1921، بداية، موجودا في قلب المدينة القديمة في جنوبها الشرقي في اتجاه منارة العنق خلف باب مراكش قبل أن تنقله الحماية الفرنسية سنة 1923 إلى المدينة الجديدة قرب حي الحبوس بدرب السلطان. ثم هناك الحي اليهودي الموجود بالمدينة القديمة، والذي تم هدم جزء منه في الثلاثينيات لبناء ساحة فرنسا.
الأوربيون بدورهم كان لهم حيهم الخاص ويسمى «حي القناصل»، وكان أهم جزء من المدينة القديمة حيث استقروا به خلال القرن التاسع عشر، وكان مشهورا بالمعاملات التجارية، كما أنه يعتبر رمزا تجاريا للدار البيضاء، ورغم أن دوره التجاري انتهى إلا أنه لا يزال نقطة جذب للسياح بسبب تاريخه العريق، حيث قطنت به مختلف التمثيليات الأجنبية المتواجدة بالمغرب، فقد عاشت الدار البيضاء، خلال القرن التاسع عشر، رواجا تجاريا دفع الدول الأوروبية إلى إرسال بعثاتها للمدينة، ويحتوي على آثار تاريخية ومنازل قديمة ومساجد وكنيسة بنيت سنة 1891 من طرف الفرنسيين.
دون أن نغفل ذكر»درب كوبا» الذي كان في الأصل عبارة عن أرض يملكها أحد الكوبيين الذي كان يعمل في مجال استخراج الصخور البحرية، يوجد بمحيطه الآن مسجد الحسن الثاني، وهو الحي الذي غزته العمارات العصرية والشوارع الواسعة، لكن بالمقابل هناك أحياء أخرى اندثرت أو تهدم معظم بناياتها القديمة والمتهالكة خصوصا تلك الموجودة بحي المعيزي وهُجرت ساكنتها تاركة وراءها أطلالا وبنايات مهددة بالاندثار إلى الأبد…
لقد ضمت كل هذه الأحياء ساكنة مختلفة هاجرت إليها قبل الحماية وبعدها، ورغم ما تعرفه بعض هذه الأحياء من هشاشة ودور آيلة للسقوط فإن المدينة القديمة بالدار البيضاء تشكل مزارا سياحيا يجلب إليها سياحا متعطشين للتعرف على مآثرها ومزاراتها، والتجول في دروبها الضيقة، التي تنفتح على ساحات واسعة ومقاه ومساحات خضراء مثل ساحة احمد البيضاوي خلف باب المرسى، وحديقة سيدي بوسمارة وساحة الموحدين وعرصة الزرقطوني، أكبر حديقة في الدار البيضاء، خصوصا أنها تشكل القلب التاريخي للدار البيضاء، وبهدف تحويلها إلى فضاء للذاكرة تم تسجيلها كتراث وطني سنة 2014، كما أنها استعادت بعضا من بريقها بعد ما استفاد جانب منها، من مشروع ترميمها مع الحفاظ على إرثها التاريخي ونسيجها الحضاري حيث أعطيت الأهمية لبنيتها التحتية مع تثمين ترواثها المادية والمعنوية، كما رممت مساجدها وبيعتها وكنيستها مما يذكر بما عرفته المدينة القديمة للبيضاء من تعايش روحي بين مختلف مكوناتها وأجناسها…