5 – السلك القنصلي والدبلوماسي البرازيلي بمغرب القرن التاسع عشر
يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.
كان لبنشيمول أصحاب وسماسرة مغاربة، فقد كان له سنة 1887 شركاء بفاس في بيع التبغ والكيف والحشيش.
وفي هذا الصدد هناك رسالة موجهة إلى الطريس تتعلق بتخبث اليهودي حيم بن شيمول ترجمان سفير فرنسا الوارد مع السفير للحضرة الشريفة بقصد فصال الدعاوي. ومحاولة المخزن الإشهار بمواقف هذا اليهودي في الجرائد ليصل ذلك إلى الحكومة. وهذا نصها:
الحمد لله وحده وصلى لله على سيدنا واله وصحبه
محبنا الأعز الأرضى الكاتب السيد الحاج محمد بن العربي الطريس رعاك لله وسلام عليك ورحمة لله عن خير مولانا نصره لله وبعد. فإن باشدور الفرنصيص الوافد على حضرة سيدنا العالية بالله قد ظهر منه ما يدل على العقل وحسن المعاملة والوقوف مع الحق في الأمور غير أن الترجمان حيم ابنشيمول رءال مال إلى فصال قضية من قضاياه التي لها تعلق به أو باليهود المنحاشين إليه بما يقتضيه الحق فيها إلا ويبادر إلى تعكيسها وتثبيط فصالها بدليل أن جميع القضايا التي تعلق لها بهذا اليهودي كلها تفاصلت مع الباشدور على وجه الحق ولم يقع تعكيس في فصالها وحزنا منه خط يده بها كما حازه هو منا بخلاف غيرها من القضايا المتعلقة باليهودي المذكور وله الشهوة والغرض فيها وحاز فيها الطمع بعد ما سيحقق الباشدور بأمرها ويقع الإشراف معه على فصالها يلبس عليه فيها اليهودي المشار إليه ويخدعه بترهاته وتلويناته حتى يثبط فصالها ويعكسه ويطلب ما لا يقتضيه الحق فيها وأعلمناك لتكون على بال من ذلك وتشيحه هناك وتعرف صاحب الكزيطة بما يقتضي تعريفه به فما ذكر فإنه لا يخفى عليك ما تأتي وما تور فيه ليبلغ ذلك للدولة وتكون على بال منه وتعلم منه ما هو عليه هذا اليهودي من السعي فيما يكون بين الجانبين وفيما لا حق فيه وعلى المحبة والسلام في 17 رمضان عام 1306هـ / 1888م. محمد المفضل غريط
2 – فيال دو كيردك شني Vial de Kerdec Cheny
إن فيال دو كيردك شني Vial de Kerdec Cheny، من أصول غامضة فربما ينتمي إلى منطقة الألزاس – اللورين، أرغم على الالتحاق بالجيش الألماني. بعد هروبه من قلعة سباندو spandau التي سجن بها بسبب ضرب ضابط. لجأ إلى المغرب و تورط في عدد من الدسائس، أصبح ممثلا (عوض Angéli) لوكالة فورج وأحواض بناء السفن في منطقة البحر الأبيض المتوسط (L’agence des forges et chantiers de la Méditerranée) ورئيس تحرير صحيفة يقظة المغرب Réveil du Maroc) (ومالكا لجريدة دياريو طنجة (Diario de tanger)، ومخبرا لوزارة الحرب الفرنسية، وعميلا سريا لمفوضية فرنسا من يناير 1892 إلى نهاية دجنبر 1893، ثم قنصلا لفنزويلا بالمغرب و مستشارا للمخزن…تأزمت أعماله سنة 1894، فغادر المغرب نهائيا سنة 1895، تاركا مهمة تمثيل الوكالة أعلاه لكوفار Goffard).
وبخصوص استقبال السلطان الحسن الأول لبعثة شارل إيوان سميث يوم 18 ماي 1892 بفاس، تناقلت الصحف هذا الحدث، وكان لصحيفة Times of Morocco رأيها المدعم للبعثة البريطانية، في حين تفاعلت جريدة réveil du Maroc مع الحدث بشكل مخالف تماما، إذ دخل على خط التجاذب السيد فيال دو كيردك شني Vial de Kerdec Cheny وعمل مستشارا للسلطان. إن جريدة لوريفي دو ماروك التي كانت تصدر في أربع صفحات، خلال أيام البعثة بفاس أصدرت في ست صفحات. نشر جزء من مواكبة البعثة البريطانية في كتابين:
Correspendance respeting Sir.C.Euan Smith, Mission to Fes, Londres, 1892.
ويضاف إلى ذلك سرد الصحفي الأمريكي Bonsal الذي كان ضمن مرافقي شارل إيوان سميث وشكل شاهدا على تلك الأحداث. تميزت شهادته بكراهية سافرة للفرنسيين. Morocco as it is, lonon, 1893.p.586-596. ومقالته ‘’Monds.A, Mission in Morocco’’ التي نشرها بمجلة National Review النصف شهرية (6- 1929، صص. 586-596). وقد كان Monds.A ضمن أفراد بعثة شارل إيوان سميث، باعتباره ملحقا عسكريا ( Major du royal rifles).
شن حملة قوية اللهجة على الوزير البريطاني إيوان سميث في جريدة «Le Réveil du Maroc» واستغل علاقاته داخل القصر، ووظف المال ، والذي كان يحصل عليه من طرف جهات مهتمة وكلته من أجل إفشال المشاريع البريطانية بالمغرب لشراء الذمم.
استقبل السلطان المولى الحسن كرديك Kerdec بالقصرالسلطاني بفاس يوم 10 ماي 1892 من أجل تقديم رسائل اعتماده قنصلا لدولة فنزويلا بالمغرب. وقد قدم للسلطان مولاي الحسن مذكرتين دبلوماسيتين ترجمهما عبد السلام بناني إلى اللغة العربية.
قدمت المذكرة الأولى المناخ العام للوضعية الأوروبية.
أما المذكرة الثانية فقد كانت أكثر دقة، وكان الهدف منها هو تبيان سبل النهوض بالمغرب بالاعتماد على الدعم المادي الفرنسيين.
وحين محادثاته مع السلطان اعتمد كديرك على الصحف الأوروبية وخاصة جرائد ألمانية والتي تبشر بتقسيم المغرب.
استغل نفوذ كلا من الحاج محمد بناني وعبد السلام بناني ومحمد بنجلون داخل القصر من أجل الضغط على وزير الشؤون البرانية فضول غرنيط ، من جهة والتقرب أكثر من السلطان الحسن من جهة أخرى. وقد اختزل فصول اقتحامه القصر السلطاني بفاس في كتابه: شارع الإسلام، حيث يسجل ارتساماته وانطباعاته المتفاعلة مع الوسط المغربي، فينطلق في ذلك من نقطة الوصول إلى مدينة طنجة، التي وصل إليها سنة 1886، ليبدأ السرد في حكي أبسط تفاصيل الرحلة والمغامرة في بلاد المغرب، ويبدأ في ترجمة صدمة اللقاء الأولى، حيث عانى بطبيعة الحال من تأثير الأفكار والأحكام المسبقة والأخطاء الشائعة والمصالح المتعددة والعداوات التي نمت في وسط التجمعات الأجنبية المستقرة في السواحل المغربية، والنزاعات العدوانية التي ساهمت بسبب الجهل والحقد لا في تشتيت المفوضيات الأوروبية فقط بل عمت كذلك الأوروبيين أنفسهم. فالكل كان يتربص بالآخر، والكل في اللحظة ذاتها متفق حول نقطة واحدة: يجب أن يظل المغرب «بقرة حلوبا للجميع». إنه شعار سافر تبنته الدول الغربية بالمغرب خلال القرن التاسع عشر، وساهم في ترسيخ مناخ مشحون بالتنافسية العارية من القيم الإنسانية، واللاهثة وراء تحقيق المصالح الاستعمارية الضيقة، فغدا التهريب يمارس بشكل شبه رسمي، وسادت التجاوزات بكل أشكالها، سواء منها غير المرغوب فيها والمرفوضة من طرف العدالة، والصدمات المثيرة للاشمئزاز أصبحت العملة الرائجة. إنها القناعة التي آمن بها «كرديك»، والتي لا يتأثر فيها بهذا الوسط المليء بالقمامة والنذالة والخداع إلا القليل. إنها انطباعات مطابقة للأحكام المسبقة والصور النمطية التي يحملها الغربي معه إلى بلاد الشرق (المغرب)، وهذا ما يخلف لدى الرحالة بصفة عامة نوعا من القلق بحسب عبد الكبير الخطيبي، لكنه بعد اقتحام العالم المغربي المجهول تبدأ غشاوة الصورة المظلمة تتبدد وتتلاشى ويبدأ الرحالة في السقوط في شرك حب الشرق (المغرب). وتنطلق الرحلة في البحث عن كنه هذا العالم القريب والنائي في الآن ذاته. فبعد مرور سنة من الملاحظة تراكمت لدى «كيرديك» معلومات لابأس بها، من خلال تنقلاته في رحاب القبائل الشيء الذي جعله يشعر بأن كل ما كان الغربيون يداولونه، كان خاطئا وخياليا أو أن ثمة أخطاء في طريقة عرضه، وأن المصالح الذاتية سواء المفروضة أو المناوئة كانت مسخرة لتزييف الحقيقة وصد كل من أراد إدراكها. وعلى هدى هذا الأثر، فقد الثقة في الجميع، ولم يتأخر قط في إيجاد الوسائل المؤدية إلى عمق الأشياء أي الحقيقة. فمنذ أن تحددت معالم الطريق، قرر أن يواصل طريقه إلى النهاية، مهما كلفه ذلك. وحينما قبل ليفي كوهن أن يتعاون معه في إدارة جريدة Réveil du Maroc، إذاك شاءت الظروف أن يتحمل إدارة الجريدة، والتي كانت إنجليزية – إسرائيلية بحكم جنسية مالكها الذي أصدرها سنة 1883 تحت رعاية السيد أورديكا Mr ; ordéga الوزير الفرنسي في طنجة، والمؤازر من طرف العنصر اليهودي، حيث السياسة هنا تقتضي التقرب من المفوضية والتي تبدو ملزمة أن تطلق رصاصة الرحمة تجاه المغرب.
كانت انجلترا في ذاك الوقت منشغلة تماما بتهييء إصلاحات سياسية لم يستوعبها الشعب، وكانت لا تزال متشبثة بتوجه الحفاظ على الوضع الراهن للمغرب، والمناهض للمصالح والمطامع اليهودية. وهذا ما يفسر تعصب وزير الحماية الفرنسي بطنجة والخبير الانجليزي واليهودي في القانون الدولي.
ففي شهر نونبر من سنة 1883 توفي ليفي كوهن levy cohen في لندن وذلك بعد غياب طويل عن المغرب، فكان على ‹› كرديك›› أن يتحمل ثقل تدبير إدارة جريدة لوريفاي دو ماروك بالرغم من ضعف الإمكانيات المالية للجريدة، إلى أن قرر السيد Boutiron المكلف بشؤون فرنسا منذ وفاة السيد Féraud مساعدة «كيرديك» على القيام بتمرير ملكية الجريدة وبيعها تحت الوصاية القضائية الفرنسية إلى ورثة المؤسس والمالك. وقد تمت هذه العملية في شهر يناير 1889. منذ ذلك الوقت شغل ‹› كيرديك ‹› منصب رئيس تحرير الجريدة، وبالنظر إلى أنه كان يشغل في الآن نفسه مديرا للجريدة ويتمتع باستقلالية في الخط التحريري الذي يتبناه، فقد تمكن من تسريع التطور السياسي لجريدة لوريفاي دو ماروك، وتوجيهها وفق برنامجه الذي يدعي من خلاله أن جريدته منبر يعارض الأفكار والممارسات الحالية وضد الجميع أو تقريبا. ولم يبق له إلا إنجاز دراسة القصر الشريفي عن قرب، خاصة وأنه كان مهتما كثيرا بإنشاء علاقات غير مباشرة . وقد تمكن عبر وكالة فورج وأحواض بناء السفن في منطقة البحر الأبيض المتوسط من دعم مديرها السيد كاني Mr.canet… من اكتشاف القصر، وذلك تحت غطاء مقترحات التسلح الشيء الذي مكنه من الاتصال مباشرة بالسلطان المولى الحسن.
لقد كانت تجربة ‹› كيرديك ‹› بالمغرب غنية بالاكتشافات إلى درجة يقر أنه كان بإمكانه أن يكتب عنها مجلدا مسليا وبطوليا في بعض الأحيان ومأساويا جدا في أحيانا أخرى. أو ببساطة كتابة المغامرات والوقائع والحكايات والمقاومة والممانعة المريرة التي علمته التجربة المغربية.
إنها الأحاسيس والانطباعات التي وسمت علاقته بالحكومة المغربية لمدة ست سنوات، ولم يستثن منها لا السلطان ولا وزراءه ولا حاشيته. حيث كثيرا ما عانى فيها من سخرية واستهزاء الموظفين والأفراد، وكادت هذه المواقف أن تذله وتشعره بخيبة الأمل، لكنه كان مدركا بطبيعة الوسط الذي يقتحمه، خاصة وأنه أول صحفي أوروبي حاول بنجاح أن يقتحم اللامبالاة والازدراء أو العداء الذي يكنه القصر الشريفي للصحافة. ويعترف «كرديك» بأن هذه المواقف لم تحصل معه، بالرغم من أن العديد من دبلوماسيي طنجة طلبوا مرارا من السلطان منع نشر الصحف المعروفة بالمغرب، ورفضوا بذلك نشر الأخبار وإظهار الحقائق. ومن البديهي أن الصحفي ينبش في مثل هذه الأمور التي لا يرغب القصر أن تخرج خارج الأسوار. فقد كان من الواضح أن هناك أشخاصا يحبذون السلم والصمت ولا يريدون من كبريات الجرائد الأوروبية أن تخوض في مثل هذه القضايا. إنها القناعة التي آمن بها ‹› كرديك ‹› والتي فتحت له سبل إدراك الحقيقة، ويلخصها في القول ‹› إن المخزن لم يكن يبالي بكل ما نكتبه باللغات المسيحية المتعلقة به. إذ لم يهمه من شيء سوى إقامة علاقات شخصية جيدة مع جميع موظفي المفوضيات، من قناصلة ووكلاء قناصلة الذين يمكن أن ينفعوه ، لأنه كان يعتقد أنهم يشكلون حماية ضد التدخل الأوروبي ولمواجهة كل الجرائد العالمية، وكان يتعامل مع هؤلاء كل حسب ذوقه ونزعاته ومساوئه وسلبياته ونقاط ضعفه أو مزاجه الشخصي.إن المخزن لم يكن مخطئا في ذلك الوقت على الأقل. ومن حسن حظي أن السلطان مولاي الحسن كان يتمتع بوعي عال ورؤية إسلامية، وكان متفوقا على محيطه وعلى كل الضعفاء من الأوروبيين البارزين الذين عاشروا غرفة انتظاره. فبفضل هذه الظرفية وبفضل مبادرتي الجريئة وبحكم الطاقة الهائلة التي كانت لدي فقد تمكنت من اقتحام الوزراء الذين كانوا يبعدون كل أجنبي عن السلطان ‹›. وبذلك نجح ‹› كرديك ‹› في ربط علاقات مباشرة مع مولاي الحسن ومرافقته لمدة طويلة بمفرده وكان يبذل كل ما في وسعه للفت انتباهه موظفا في ذلك عدة أساليب. ومحاولا إقناعه بأن العالم يمشي بسرعة فيما هو يترنح، حيث كانت أوروبا تهيئ برامج إصلاحية تروم تطوير المغرب، الشيء الذي شكل نوعا من الصدمة المذهلة بالنسبة له ولبلاده. وإزاء هذا الإدراك الواقعي الذي أبداه «كرديك» تمكن من أن يجعل السلطان (حسب زعمه) يدرك قيمة الصحافة وقوة الرأي العام.
أبدى «كرديك» تمرسا وحنكة صحفية، وهو يتابع مصير العلاقات المغربية الإنجليزية، حتى أصبح من قراء جريدة Tanger Diario de (يصدرها أحد الطارقيين باللغة الإسبانية، والمتابعة للشأن الإنجليزي بجبل طارق)، مما حدا به أن يجعل من جريدة لوريفي دو ماروك منبرا لتسليط الضوء أكثر على طبيعة العلاقات المغربية الإنجليزية وأن يتوقع مصيرها. وقد أكد نباهته حينما غير لغة جريدة لوريفي دو ماروك من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية. كما أن شراء جريدة Diario de Tanger التي تصدر باللغة الاسبانية، ساهم في محاولة الهيمنة على الساحة الصحفية بالمغرب، بالرغم من أن إسبانيا غاظها الأمر، وذلك بالنظر إلى تضارب المصالح الفرنسية والاسبانية في مقابل مصلحة إنجلترا حول مدينة طنجة ولوريفاي دو ماروك. فبعد مرور ثمانية أشهر على شراء الجريدة، بادر «كرديك» إلى تحفيز العاملين في جريدتي دياريو ولوريفاي دو ماروك لكي تتضافر جهودهم في جعل الجريدة الأولى اليومية والجريدة الثانية الأسبوعية تتصدران الساحة الصحافية. وفي سياق هذه المتغيرات أراد›› كرديك ‹› استباق الأمور بزيارة السلطان المولى الحسن بفاس قبل استقباله لبعثة شارل إيوان سميث، حتى يفشل مهمة هذه البعثة، ويقول في ذلك:
«انفردت بالسلطان لمدة ساعتين، وقد اندهش مما قلته له. كان لفرنسا نفوذ على القصر الشريفي بفاس، حيث كان الدكتور ليناريس الممثل الرسمي للوزير الفرنسي بطنجة، ولم يحصل على موعد لاستقباله من لدن السلطان الذي سبق أن طلب المقابلة مدة خمسة عشر يوما من قبل مجيئي إلى فاس. وتدبرت الأمر من أجل أن يجبر السلطان على استقباله››. وبعد مرور ثلاثة أشهر من المفاوضات المستميتة والجدال البوليميكي والعمل على قدم وساق والقلق البليغ بالنجاح والفشل، بدت ملامح الفشل النهائي بادية على المشاريع البريطانية بالمغرب والتي كانت تخطط لتهميش فرنسا واسبانيا تدريجيا من دائرة مصالحها في المغرب،وكان ذلك بمثابة لعبة قمار.
غادر ‹› كرديك ‹› جريدة لوريفاي دو ماروك سنة 1893، حينما أحس بأنه لم يعد يوجه الخط التحريري للجريدة وأصبح مضايقا من طرف الوزير الفرنسي الكونت دوبيني Le comte d’Aubigny، وإذاك أدرك أن مغادرته للجريدة اعتبرها مكافئة له.
بعد فشل بعثة شارل إيوان سميث بقي ‹› كرديك ‹› على اتصال مستمر بقصر المولى الحسن، وظل يتردد على السلطان الذي أصبح يتقبل أن يتقاسم الحديث معه في مواضيع مختلفة، وبالطبع كان ذلك يثير غيرة جميع الوزراء باستثناء الوزير الأكبر الحالي وهو حينئذ كبير الحجاب. واستمر «كرديك» في الدفاع عن برنامجه عبر جريدة Diario التي تتطلب العمل الدؤوب والعبارة الوجيزة والتكوين الفكري العالي.
وأخيرا، يعترف بأن السلطان الحسن كانت لديه العديد من الفرص لتعديل وتسريع وتيرة إعادة تنظيم المغرب، ومعاينة تدشين نظام جديد لدبلوماسية أكثر لبرالية مع أوروبا. لكن كان ينبغي لتحقيق ذلك استئصال تجاوزات الدول الأوروبية واليهود المغاربة، والبدء من جديد، وتنظيف الأجواء ومنح الحكومة المغربية الضمانات الأساسية ضد الأخطار الخارجية، والفساد الداخلي. انطلاقا من هذا الإحساس أصبح قلم «كرديك» لاذعا، فجنى منه الكثير من الأسى والأحقاد والأضرار المادية. وبالرغم من ذلك، يعكس انطباعا بحبه المغرب، فيقول:
إن الإحساس بالقدرة على التحدث بلسان البلد، الذي عايشت فيه مختلف أطياف الأهالي وحققت فيه أسفارا عدة، والملاحظات التي دونتها قد تمكنني من نشر كتاب يلخص ثمرة أعمالي في المغرب لمدة تسع سنوات.
على عكس ما يقوم به بعض الكتاب الذين يجمعون للناشرين محصلة رحلاتهم القصيرة بالمغرب، حيث يكونون لا يعرفون لا لغة هؤلاء وأولئك ولا أشياء عنهم ولا دسائسهم وأفعالهم وسلوكهم. طنجة 31 دجنبر 1894››.
– تطوان
3 – سامويل بندلاك: كان قنصل فنزويلا بتطوان وكان من الطائفة اليهودية التطوانية وقد أشار شهبر عبد العزيز بأنه كان من بين التجار الذين ورد ذكرهم في الرسالة التي بعث بها يعقوب برينطي، – وهو يهودي تطواني استقر بوهران- إلى مناحيم كورياط. (شهبر عبد العزيز، علاقة يهود تطوان ببيعات الشرق العربي وأوروبا خلال القرن التاسع عشر، ص. 165) و(شهبر عبد العزيز، دراسات حول يهود تطاوين منشورات جمعية تطوان أسمير، ص. 58).
3. من المغرب إلى فنزويلا
يعرج إسحاق بن شيمول أثناء حديثه عن أصول الهجرة المغربية إلى دول أمريكا الجنوبية عامة وفنزويلا على وجه خاص، على الهجرة الداخلية، إذ أن تيار الهجرة كان محدودا، يتشكل ببطء ولكن بتؤدة، من شفشاون إلى تطوان. وهكذا فالأسر التطوانية التي تغادر المغرب للاستقرار بصفة نهائية في الأرجنتين أو البرازيل أو فينيزويلا تحل محلها أسر أخرى قادمة من شفشاون. ويشدد على أن المهاجرين المغاربة الأوائل ينحدرون من تطوان، حيث توجهوا في بادئ الأمر نحو جبل طارق ووهران، وهذا ما يفسر أن عددا كبيرا من العائلات اليهودية التي تقطن بهاتين المدينتين تعود أصولها لمدينة تطوان. إذ كانوا يعتلون المراكب الشراعية البسيطة وينتظرون هبوب رياح مواتية للإبحار.
وكانت الحرب المغربية الإسبانية ما بين 1859 و 1860 و كذا الاحتلال الإسباني لتطوان على مدى سنتين، من بين العوامل القوية التي دفعت في اتجاه الهجرة.
وبسبب الأحوال الآخذة في الركود بالجزائر في تلك الفترة، بعد مرور السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي، بدأ المهاجرون في التوجه نحو البرازيل. وقد كانوا قلة آنذاك، إذ كان على المرء أن يتحلى بقدر كبير من الشجاعة لكي يجازف بنفسه على متن مركب شراعي على مدى عدة أشهر.
ويتساءل إسحاق بنشيمول عن صدقية تلك الروايات، هل كان الدافع وراءها هو الخشية من أن تنضاف أعداد أخرى من المهاجرين فتؤدي المنافسة الشرسة إلى تدني مستوى الأجور؟ لربما في نظره كان الأمران صحيحين معا. وعلى أية حال فإن أولئك الذين كانوا يسلكون هذا المنحى كانوا يعانون من ضيق في الأفق، إذ كانوا يتصرفون عكس اتجاه مصالحهم.
ولم تبدأ حركة الهجرة الحقيقية في التشكل إلا حوالي 1880، حيث قطع الشبان النشطون، الذين تحرروا بشكل مفاجئ، كل الأوصال التي كانت تربطهم بمدنهم الأصلية. فكانوا أشبه بسرب من طيور الدوري وقد بدأت رحلتها نحو أمريكا الجنوبية، حيث كانت فينيزويلا والأرجنتين والبرازيل هي الوجهة المفضلة.
وبعد مرور بضع سنوات، استطاع أولئك المهاجرون تحقيق أوضاع معيشية مريحة. ولم يكن هدفهم أبدا الحد من حركة الهجرة، بل على العكس من ذلك، عملوا كل ما في وسعهم لجلب أفراد عائلاتهم وأصدقائهم، خاصة أولئك الذين تميزوا بذكائهم أو بمهاراتهم التجارية. ولدى وصولهم للقارة الأمريكية، دأب الوافدون الجدد على قضاء فترات يتدربون خلالها كل لدى مشغله لاكتساب دراية بأحوال البلاد، يتحولون بعدها لتسيير مؤسسة تجارية في الداخل، والتي ستصبح فيما بعد فرعا للمؤسسة الرئيسية.
وفي الصدد نفسه يشير أحد قدامى يهود تطوان، إلى انتشار ظاهرة غنى اليهود التطوانيين: إن روح المبادرة والمقاولة لهذه الساكنة لا يضاهيها سوى تعلق هذه الأخيرة بموطنها الأصلي وبجاليتها الأصلية، حيث حافظ المهاجرون على التقاليد القديمة والجيدة للإحسان والتقوى.
إن تقوى الأبناء هو أحد الخصائص المميزة للتطوانيين، فالأبناء الذين يهاجرون بعيدا يشغل بالهم ضمان حياة أبائهم الذين يشكلون وسيلتهم للحياة. فهم يمارسون في بدايات حياتهم، المهن الشاقة ولا يستسلمون للتعب، ولا تثنيهم الصعوبات في تقديم الدعم لهم باعتباره واجبا. يحرمون أنفسهم من الضروريات خلال فترة زمنية محددة من أجل تزويدهم بالمال. ومهما تكن حيثيات حياتهم فهم لا ينقطعون عن مواصلة الاتصال بهم ويلجأون للاقتراض من أجلهم، حينما تفرض الضرورة ذلك. بالنسبة لهم فإن الشعائر الأكثر قدسية والتي تشكل دعامة في حياتهم، ليست واجبا ماديا فقط، وإنما رغبة فطرية للتفاني والامتنان تجاه الآباء. فمن الواجب إجراء بحث في تطوان حول تكاليف السفر لشاب مهاجر إلى فنزويلا، حيث لا يأخذ معه إلا مبلغا زهيدا لا يكفيه عبور جسر جبل طارق.
وإذا كانا نحس بتأثير هذه الهجرة الكبرى على مستوى الرفاهية و العيش بفضل ما يبعث به المهاجرون ، فهذا لا ينطوي على الآخرين ما عدا بعض الاستثناءات القليلة . ان غير القادرين هم الذين يبقون … ويعيشون حياة خاملة.
فالتجارة لم تشهد تطورا ، وانعدام صناعة نتيجة خيبة أمل شل كل المبادرات و شجع التطفل و الاعتماد على سخاء الغائبين للعيش.
(يتبع)
(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن