كشفت بيانات جديدة أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط عن اختلالات بنيوية عميقة في توزيع الدخل الوطني وفي وضعية الدخل المتاح للأسر، رغم تحسن المؤشرات الكبرى للاقتصاد خلال سنة 2024، وهو ما يعيد إلى الواجهة سؤال جدوى النمو الاقتصادي وقدرته على تحسين شروط العيش ورفع القدرة الشرائية للمواطنين.
التقرير الأخير المتعلق بالحسابات الوطنية للقطاعات المؤسساتية يقدم صورة مزدوجة: اقتصاد توسع بنسبة 7,9% بعدما بلغ الناتج الداخلي الإجمالي 1596,8 مليار درهم، مقابل هشاشة اجتماعية مستمرة يترجمها بطء تطور الدخل الفردي وارتفاع الضغط الجبائي والاجتماعي على الأسر، فضلاً عن ضعف الادخار وارتفاع الحاجة التمويلية للاقتصاد الوطني.
وتفيد المعطيات الرسمية بأن إجمالي الدخل الوطني المتاح ارتفع إلى 1709,1 مليار درهم خلال سنة 2024، بزيادة قدرها 7,7% مقارنة بالسنة السابقة، توزعت بين الأسر والمؤسسات غير الربحية بنسبة 63,1%، والإدارات العمومية بنسبة 20,3%، فيما نالت الشركات، المالية وغير المالية، حصة لا تتجاوز 16,6%. ورغم هذا التحسن الإجمالي، يبقى تحليل الدخل الأسري أكثر دقة في كشف عمق التفاوتات، حيث بلغ الدخل المتاح للأسر 1059,7 مليار درهم بزيادة لم تتجاوز 6,7%، أي أقل بنقطتين من الارتفاع المسجل سنة 2023.
وتوضح البيانات أن الأجور تمثل 45,3% فقط من الدخل المتاح للأسر، بينما يصل نصيب الدخل المختلط المتعلق أساسا بالأنشطة المهنية الفردية وفائض خدمة السكن إلى 39,4%. أما صافي دخل الملكية والتعويضات الاجتماعية والتحويلات فيساهم مجتمعاً بنسبة 32,9%. في المقابل، تؤثر الضرائب على الدخل والثروة والمساهمات الاجتماعية بشكل سلبي بنسبة 17,6% من الدخل المتاح، ما يعكس مدى الضغط الذي تتحمله الطبقة العاملة والمتوسطة، ويضعف القدرة الفعلية للأسر على الادخار أو مواجهة الارتفاعات الظرفية في الأسعار.
وتشير الوثيقة إلى أن الاستهلاك استحوذ على 89,2% من الدخل المتاح للأسر، وهو مستوى مرتفع عالميا ويعكس ضيق الهامش المالي المتاح أمام الادخار الذي لم يتجاوز 11,3% سنة 2024، رغم تحسن طفيف مقارنة بالسنة الفارطة. ويعد هذا المعدل من الأدنى إقليمياً ودوليا، حيث تفوقه بكثير دول مماثلة للمغرب من حيث درجة النمو الاقتصادي والبنية السوسيو-اقتصادية. ففي تركيا مثلا يتراوح معدل الادخار الأسري بين 14% و17%، وفي رومانيا حوالي 18%، بينما يتجاوز في ماليزيا 20% في السنوات الأخيرة، ما يعكس قدرة أكبر للأسر على مواجهة الصدمات.
أما على مستوى الدخل الفردي المتاح، فقد بلغ في المغرب 28808 دراهم سنة 2024 مقابل 27176 درهماً سنة 2023، بزيادة قدرها 6% فقط، أي ما يعادل حوالي 2400 درهم سنويا. ورغم أن التضخم تراجع إلى 0,9% سنة 2024، فإن مستوى الدخل المتاح للفرد يظل ضعيفا مقارنة بدول شبيهة بالمغرب. ففي تركيا يبلغ الناتج الفردي على أساس تعادل القوة الشرائية حوالي 35294 دولارا، وفي رومانيا حوالي 40608 دولارات، وفي ماليزيا نحو 34072 دولارا، بينما تتجاوز الأرجنتين بدورها 27 ألف دولار. وتوضح هذه المؤشرات أن الفجوة لا تتعلق فقط بحجم الاقتصاد ولكن بطبيعة توزيع الدخل وآليات إعادة التوزيع والضغط الجبائي والقدرة الادخارية.
وتبرز الوثيقة أيضا أن جزءا كبيرا من الدخل الذي يحصل عليه الأفراد لا يرتبط دائما بالإنتاجية الاقتصادية المباشرة، وهو ما تؤكده المقارنة بين مساهمة القطاعات في خلق الثروة ومساهمتها في الحصول على الدخل الوطني المتاح. فالشركات المالية وغير المالية تنتج 45,7% من الثروة الوطنية لكنها لا تحصل إلا على 16,6% من الدخل الوطني المتاح، بينما تحصل الأسر على 63,1% رغم مساهمتها بـ28,4% فقط في خلق الثروة. وهذا التباين يعكس اعتمادا مهما على التحويلات والتعويضات الاجتماعية، ويبرز محدودية قدرة سوق الشغل على توفير أجور قادرة على خلق طبقة وسطى صلبة.
كما تكشف المندوبية عن ارتفاع الحاجة التمويلية للاقتصاد الوطني إلى 18,5 مليار درهم سنة 2024، بعدما كانت في حدود 12,8 مليار درهم سنة 2023. ويعزى ذلك أساسا إلى انتقال الشركات غير المالية من قدرة تمويلية بلغت 11,9 مليار درهم إلى حاجة تمويلية فاقت 8,2 ملايير درهم، إضافة إلى تفاقم حاجة التمويل لدى الشركات المالية إلى 9 ملايير درهم. وفي المقابل، ورغم تحسن القدرة التمويلية للأسر إلى 23,1 مليار درهم، فإن هذا التحسن يبقى مرتبطا بارتفاع الودائع البنكية وليس بارتفاع فعلي ومستدام في الدخل الموجه للاستهلاك والادخار.
وتخلص هذه المؤشرات مجتمعة إلى أن النمو الاقتصادي المسجل خلال سنة 2024، رغم قوته على مستوى الناتج الداخلي الإجمالي، لم يتحول بعد إلى مكاسب اجتماعية متينة، بسبب استمرار ضعف الأجور، وارتفاع العبء الجبائي، وتدني الادخار، وتراجع القدرة التمويلية للقطاع الإنتاجي، إضافة إلى الفجوة الواسعة بين الدخل المتاح للأسر في المغرب ومستوى الدخل في دول ذات مسار تنموي مشابه. وهي معطيات تجعل تعزيز القدرة الشرائية وجعل الإصلاحات الاقتصادية أكثر عدالة في توزيع ثمار النمو، رهانا مركزيا في المرحلة المقبلة لضمان استدامة النمو وتحسين جودة العيش للمواطنين.
الدخل الفردي المتاح في المغرب لا يتجاوز 28 ألف درهم سنويا .. دخل الأسرة المغربية أقل بسبع مرات من دخل الأسرة في تركيا وماليزيا ورومانيا وفق المؤشرات الدولية
الكاتب : عماد عادل
بتاريخ : 09/12/2025

