التحديات التي تواجه إنسانيتنا المشتركة
التصور الكانطي للسلام الأبدي
لا سلام بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون سلام – هذه هي القناعات التي عبر عنها الكثيرون في حركة السلام في القرن الماضي، وخاصة في العقود الأخيرة من الحرب الباردة. رأى دعاة فرضية «السلام الديمقراطي» أنفسهم في تقليد الفيلسوف العظيم في عصر التنوير، إيمانويل كانط من كونيجسبيرج: أولا في رسالته «السلام الدائم»، ثانيا أظهر بأن المجتمع الذي يمكن للمواطنين أن يقرروا «ما إذا كان ينبغي أن تكون هناك حرب أم لا»، هو، ثالثا، مجتمع يقدم احتمالية للسلام – سلام حقيقي، أكثر من هدنة مؤقتة.
أطلق كانط على مثل هذا النظام اسم نظام جمهوري، حيث يتم اتخاذ القرارات من قبل أولئك الذين يتعين عليهم تحمل عواقب قراراتهم على الفور، وليس من طرف حاكم متغطرس لا يتأثر شخصيا بالآثار المدمرة للحرب. والنظام السياسي الذي أطلق عليه كانط اسم «جمهوري» (على عكس النظام الاستبدادي الذي لا يوجد فيه فصل للسلطات)، يوصف عادة في عصرنا بأنه «ديمقراطية تمثيلية».
ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة على التاريخ – لا سيما أحداث العقود القليلة الماضية – تبين لنا بأن الدول «الاستبدادية»، باستخدام التعبير الكانطي، ليست وحدها التي شنت حروبًا قاسية، وكانت مسؤولة على عدد كبير من التدخلات العسكرية، بل إن الدول التي تُعَرِّف نفسها بأنها ديمقراطيات، حاولت أيضًا في كثير من الأحيان تبرير الحرب، بالإشارة إلى «الديمقراطية» أو «حقوق الإنسان» أو «الحفاظ على السلام». إن الحرب للدفاع عن السلام هي بالتأكيد تناقض. وقد أدت التدخلات المسلحة – خاصة في السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة – إلى زعزعة استقرار مناطق كبيرة، وخلقت صراعات جديدة، تشكل تهديدًا خطيرًا للسلام العالمي، حتى في القرن الحادي والعشرين.
إذا كان دعاة «السلام الديمقراطي» – ومعهم إيمانويل كانط – مخطئين في المعادلة المثالية للديمقراطية والسلام، فهل التناقض الواضح بين الفكرة والواقع هو نتيجة تصنيف خاطئ لأنظمة الدولة المعنية؟ لتوضيح هذا، علينا أولاً التعامل مع المصطلحات، أي التفكير في مفهوم الديمقراطية. ففقط بالدقة المفاهيمية – وهو أمر ضروري للأمانة الفكرية – يمكننا حتى تسمية وفهم التحديات التي تواجه الديمقراطية في أوقات الحرب. هذه مواقف تهدد بتقويض أسس فهمنا لشرعية الدولة، التي تتشكل من خلال المثل العليا لـ «الديمقراطية» و»سيادة القانون».
مصطلح الديمقراطية
تمت صياغة المصطلح (الذي دخل منذ ذلك الحين إلى العديد من اللغات المختلفة) في اليونان القديمة. والمعنى الحرفي لديمقراطية δηµοκρατία هو „حكم الشعب“، ليس الحكم باسم الشعب (أو للشعب)، على الرغم من أن معظم الأنظمة السياسية التي تعرّف نفسها بأنها „ديمقراطية“، تقع ضمن الفئة الأخيرة. وكما ذكر روسو قبل الثورة الفرنسية، فإن الحكم المباشر من طرف الشعب كمجتمع من المواطنين، ممكن فقط عندما تكون المجموعة صغيرة. وفي تجمعات الملايين أو مئات الملايين، يجب التعبير عن إرادة المواطنين من خلال التمثيل. „يأذن“ الشعب من خلال الانتخابات للمندوبين بالتشريع (لفترة زمنية محدودة). من الناحية المثالية، يجب أن يتخذ هذا النوع من التمثيل شكل تفويض إلزامي، يربط النواب بما يفضله الناخبون، كما يُعبَّر عن ذلك في الانتخابات العادية. لكن في الواقع السياسي، يتصرف ممثلو الشعب على أساس تفويض إلزامي من الأحزاب السياسية أو مجموعات المصالح، الذين رشحوهم أو دعموا حملتهم. وقد يكون حتميًا أن يجلب هذا معه عنصر حكم الأقلية (أوليغارشية)- في شكل أحزاب بلوتوقراطية Plutokratie (شخص متنفذ بسبب ثروته: إ.م) غالبًا-، وهو حكم يُقَوِّض المثال الأعلى للحكم الشعبي (وإن كان في شكله الوسيط وغير المباشر). في القرن العشرين، كان الرئيس دوايت أيزنهاور هو من حذر في خطاب وداعه يوم 17 يناير 1961 من التأثير المدمر لضغط المصالح على نظام حكم ديمقراطي: „ يجب أن نحترس في السياسة لكي لا يكتسب المجمع الصناعي العسكري، سواء كان ذلك بنية أو بعدم نية، نفوذًا لا داعي له. إن خطر الصعود القاتل لقوة مضللة موجود وسيستمر في الوجود …“
نظرًا لأنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية، لأسباب تنظيمية، إلا من خلال تقريب المثال الأعلى للحكم المباشر من طرف الناس، فيجب أن يتم اتخاذ القرار من خلال التمثيل، باستقلال عن اللوبيات ومجموعات المصالح أو الضغط. وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع السياسي، بما في ذلك في العالم الغربي، يشير إلى العكس. سواء كانت فعلية أو مخططا لها (مقصودة استراتيجيًا)، فإن الحرب كانت تاريخيًا في كثير من الأحيان، حافزًا لتعبئة هذه المجموعات، على حساب التمثيل الديمقراطي، الذي غالبًا ما يصبح مجرد تطبيق للمصالح التي لا يتم الإعلان عنها علنًا، أو لإضفاء الشرعية عليها، بأي شكل من الأشكال. ومن أجل تقييم تأثير الحرب على الديمقراطية بشكل صحيح وصادق (أي على صنع القرار الذي يهدف إلى عكس إرادة الشعب، سواء تم التعبير عنها بشكل مباشر من خلال الاستفتاء، أو بشكل غير مباشر من خلال الانتخابات)، يجب أن نهتم عن كثب بفكرة الديمقراطية، – وبالتالي بما تعنيه بشكل ملموس، بالنسبة لتنظيم المجتمع. نفكر هنا في المتطلبات التي – بغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية والثقافية – صالحة عالميًا، بمجرد ما نتفق على مبدأ حكم الشعب. إن جوهر الديمقراطية هو حرية الفرد كمواطن دولة ما. ولا يكون لحرية اتخاذ القرار أي معنى إلا إذا: (1) كان للمواطن حق الوصول إلى المعلومات المهمة (وهو شرط الشفافية)؛ (2) يمكنه تشكيل رأيه دون التعرض لأي شكل من أشكال التلاعب أو التلقين الأيديولوجي (الذي يستبعد أي شكل من أشكال البروبوغاندا)؛ و (3) يمكنه التعبير عن رأيه وإرادته (في الاستفتاءات أو الانتخابات) دون خوف.
الديمقراطية والحقيقة
تمت دراسة تقنيات „العلاقات العامة“ الداعمة للجهود الحربية بعناية، وصقلت تدريجياً – لأول مرة في التاريخ الحديث – خلال الحرب العالمية الأولى.و من الضروري أن تتعارض تعبئة الرأي العام في زمن الحرب، مع مطالب التداول الرصين والهادف للخيارات البديلة في الديمقراطية. وصف إدوارد بيرنايز، وهو ابن شقيق (مزدوج) لسيغموند فرويد، هذه الأساليب بأمانة مدهشة، وفقًا لمعايير اليوم بأنها: „هندسة الموافقة“ الجماهير.حيث أكد في كتابه „الدعاية“ (1928)، ومعه الحق، بأن „التلاعب الواعي والهادف بسلوك ومواقف الجماهير هو جزء أساسي من المجتمعات الديمقراطية“. وغني عن القول بأنه لا يمكننا، بفهمنا للديمقراطية، أن نتفق مع هذا التقييم. ما يصفه بيرنايز هنا هو جانب أساسي – أو طريقة عمل – للأوليغارشية، وهو أمر يأتي بثماره بشكل خاص وكارثي للغاية في حالة الحرب. بكلمات بيرنايز: „يشكل أولئك الذين يتلاعبون بهذه الآلية الخفية للمجتمع، حكومة خفية، تمثل القوة الحاكمة الحقيقية لبلدنا [الولايات المتحدة]“. وهذا هو بالضبط ما حذَّر منه الرئيس أيزنهاور، بصفته كان القائد الأعلى لقوات الحلفاء في شمال غرب أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الذي جرب شخصيًا أهوال الحرب. ويواجه العالم في عام 2023، تهديدًا آخر من هذا القبيل، من خلال المصالح غير المعلنة.
في ما يتعلق بالمتطلبات المذكورة أعلاه، لكل قرار ذي مغزى ديمقراطي، أي الوصول إلى معلومات غير منحازة، يجب على السياسيين اليوم أيضًا، الانتباه إلى حكمة صموئيل جونسون، الكاتب الإنجليزي العظيم في القرن الثامن عشر. قال في مقال له نُشر باسم مستعار „ العاطل»، في أسبوعية «يونيفرسال كرونيكل» اللندنية: «من مآسي الحرب، التقليل من حب الحقيقة من خلال الأكاذيب التي تمليها المصلحة وتشجيع السذاجة». بعبارات أبسط، يتم التعبير عن هذه الرؤية في مقولة تُنسب غالبًا إلى روديارد كيبلينج: «إن أول ضحية للحرب هي الحقيقة».
يوضح مبدأ حرية الاختيار العلاقة التي لا تنفصم بين الحقيقة والديمقراطية. إذا حُرم الناس من المعلومات الأساسية، أو مُنعوا من التواصل مع المواطنين خارج مجتمعهم، على الجانب الآخر، إذا جاز التعبير، فإن كل مشاركة هادفة في الحياة العامة مستحيلة ببساطة. وقد ثبت بأن هذا أحد أكبر المشاكل التي تواجه الديمقراطية في ظروف الحرب. في عصرنا الكوني/العالمي – مع تهديد أسلحة الدمار الشامل -، لا تشكل الدعاية والحرمان من الوصول إلى المعلومات عقبة أمام الديمقراطية بالمعنى المجرد فحسب، بل تشكل تهديدًا وجوديًا للإنسانية ذاتها. في مجموعة صراع، كالتي توجد حاليًا في أوروبا، فإن الحكمة الديمقراطية، التي تخضع للحُكم وتقييم الوضع من طرف المواطن المطَّلِع، تخضع بسهولة وبسرعة إلى هول الحرب، ويحل هذا الهول محلها بالضبط في نهاية المطاف. وكما هو الحال دائمًا في مثل هذه الحالات، فإن الدعاية/البروباغاندا تلقي باللوم حصريًا على الجانب الآخر. ويصبح الرسم بالأبيض أو بالأسود هو حاجة الوضع الراهن. لكن، إذا قمنا بتقييم الموقف بشكل رصين، فسوف ندرك بأن طرفي النزاع متورطان في معلومات مضللة أو – كما يطلق عليها في المصطلحات المعاصرة – استخدام أساليب « الحرب الهجينة».
ليست الحقيقة وحدها في المعنى الصحيح – كقيمة أساسية للديمقراطية-، هي التي تكون على المحك، بل أيضا سلامة/نزاهة الثقافة، عندما يتم التضحية بالعقل لصالح المشاعر في الحرب. حجب المحطات أو المواقع التلفزيونية والإذاعية، أو الحظر المفروض على عروض الفنانين أو منع الفعاليات الثقافية والتبادل العلمي والأكاديمي بشكل عام: إن أخذ المجتمع المدني كرهينة لأغراض التعبئة الحربية، هي أساليب للسيطرة على البشر، لا تتوافق إطلاقا مع القيم الديمقراطية.
قدرة صمود/مقاومة الديمقراطية
تذكرنا هستيريا الحرب في أوروبا هذه الأيام بشكل مخيف بالهستيريا الجماعية التي انخرطت فيها أوروبا في الحرب، قبل أكثر من قرن من الزمن. عندما استيقظ الناس – بمن فيهم المفكرون الألمان المهمون مثل توماس مان وماكس بلانك وماكس فيبر – في الأخير من أوهامهم، كان الوقت قد مرَّ. وفي عصرنا النووي، فإن مثل هذه المشاعر الجماعية، التي تضخمها «وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة»، هي أكثر خطورة، لأن بقاء الإنسان قد يكون على المحك. وكما تنبأ بذلك الرئيس كينيدي بصراحة في «خطابه عن السلام»، عام 1963، أشهرا قليلة قبل اغتياله المأساوي: لم يعد كافيا التفكير في كيفية تأمين السلام في عصرنا، فبالنظر إلى أسلحة الدمار الشامل، يجب على الإنسانية أن تسعى جاهدة لتهيئة الظروف المواتية للسلام في جميع الأوقات، بكلمات إمانويل كانط: «سلام أبدي». لا يمكن تحقيق هذا، إلا عندما تؤكد الديمقراطية نفسها ضد الاستبداد، من خلال منع مجموعات المصالح القوية من احتجاز دولة بأكملها كرهينة. في الجمهورية الحرة، يمارس المواطنون إرادتهم على أساس نظام من «الضوابط والتوازنات»، مدروس بعناية، وهي الوحيدة التي يمكن أن تمنع التجاوزات العاطفية. إذا كان للمواطنين تأثير مباشر على القرارات المتعلقة بالحرب والسلام، فهناك على الأقل بعض الأمل في أنهم لن يؤيدوا الإجراءات التي تعرض أمنهم وسبل عيشهم للخطر. ومن الأهمية بمكان ألا تتلاعب أي سلطة سرية بأفكارهم. يجب عدم نسيان وصف إدوارد بيرنايز الصريح لما عرَّفه بـ «الدعاية» قبل قرن من الزمن. في عصر الذكاء الاصطناعي، تعد احتمالات «تصنيع الموافقة» مخيفة حقًا.
في ظل ظروف النزاعات والحروب بين الدول، وكما هي سائدة في الوقت الحالي، لا توضع الحقيقة على جانب الطريق فحسب، بل تتعرض الديمقراطية نفسها أيضًا لخطر الوقوع ضحية لهستيريا جماعية خاضعة للسيطرة. إن الكراهية بين الشعوب، والتحيزات العنصرية، والكليشيهات الفظة، وصور العدو تجد أرضًا خصبة، عندما تكون البلدان في حالة حرب. مثل هذه المشاعر لا تترك مجالًا للخطاب الديمقراطي أو التفكير الرصين لخيارات سياسة الدولة.
إن الأمل في صمود الديمقراطية، لن يكفي وحده في مثل هذا الوضع الاستثنائي. على المجتمع المدني – في أفضل التقاليد الديمقراطية – أن ينهض ويتساءل عن اللغة الرسمية – لا يهم من أي جانب تأتي-. ويعتبر النداء الذي أطلقته مؤخرًا عضوتان في البرلمان الألماني ساهرة فاغنكنيخت وأليس شفارزر علامة مشجعة. فحيثما تفشل الحكومات، يمكن لـ „دبلوماسية المواطنين citizen diplomacy“ أن توفر بدائل للنزاع المسلح المستمر. هنا يتم بالفعل اختبار مرونة الديمقراطية، وهنا يمكن للنموذج الديمقراطي أن يثبت أهميته أكثر من أي مكان آخر. وسيكون خطأ فادحًا – ونذير شؤم للإنسانية – إذا لم يلتفت القادة السياسيون الآن إلى العدد الهائل من مبادرات السلام المدني.
منذ تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان أحد أكبر التحديات التي تواجه البشرية هو كيفية إنشاء نظام للعلاقات الدولية يحترم ترابط الديمقراطية والسلام. ولا يمكن تفسير النية المعرب عنها في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة: „ممارسة التسامح والعيش معا في سلام كجيران جيدين“ بأي طريقة أخرى. وحتى لو كانت الحرب اختبارًا للديمقراطية لا مثيل له، فإنها تظل الترياق الفعال الوحيد لمنطق الحرب.
بالنظر إلى المثل الديمقراطية الراسخة في حقوق الإنسان، غير القابلة للتصرف في الحرية (الفردية والجماعية)، يجب على الإنسانية أن تضع آمالها، ليس فقط في غياب الحرب، التي تدين بالكثير من الفضل لنفسها في „توازن الرعب“، الخوف العقلاني إلى حد ما من „الدمار المؤكد المتبادل“؛ بل يجب أن تسعى الإنسانية جاهدة لتحقيق سلام حقيقي – وهذا يعني دائمًا-، بروح التعاون المتكافئ بين جميع الدول والشعوب. وهذا ما كان يدور في ذهن إيمانويل كانط بتعبيره „سلامًا أبديًا“، وهو ما لم يتمكن النظام العالمي الحالي، القائم على الدور المتميز للدول الأكثر قوة عسكريًا في الأمم المتحدة، من تحقيقه بعد.