تعتبر القصة القصيرة مكونا أساسا من مكونات المشهد الإبداعي، وأداة من أدوات التعبير الإنساني، ظهرت ببلادنا في أربعينيات القرن العشرين لتُعبِّر عن الكثير من قضايا المجتمع.لهذا، لقيت القصة القصيرة اهتماما كبيرا؛ بسبب قدرة صاحبها على نقل الأحداث والدلالات والتلميحات والخبايا والأسرار، كلُّ في شكل وجيز محكم، ومكثف وموحي أيضا. من هنا،يمكن أن تُقرأ القصة في جلسة واحدة كما يقول الكاتب الأمريكي”إدغار ألان بو”، و تهدف إلى ترك أثر واحد ووحيد في نفسية القارئ.
ولأن التميّز كان من خصائص التجربة القصصية المغربية، أمكن القول إن الكاتبة المغربية لطيفة باقا تعدُّ من أبرز كاتبات القصة القصيرة في المغرب، وفي الجغرافية العربية عامة. إنّ تجربة هذه القاصة النوعية متميزة ببصمتها المتفردة،بصمة سردية نبعت من صميم تجربتهاالحياتية والوجدانية، ومن مرجعيتها الثقافية والفكرية المتنوعة. فماذا تخفي القاصة لطيفة باقا في مجموعتها القصصية “غرفة فيرجينيا وولف”؟
أثير الانتباه بداية، قبل الجواب عن هذا السؤال، أن ما أقدمه هنا عبارة عن ورقة نقدية لباحثة تلتمس البدايات الأولى في دراسة النصوص الإبداعية الأدبية، ألقي فيها الضوء على جوانب من العوالم المتخيّلة لقصص المجموعة السالف ذكرها، باعتبارها المجموعة الفائزة بجائزة القراء موسم 2018 وهذه الورقة النقدية، إذا اعتُبرت كذلك، تتأسس على ثلاثة محاور تتعلق ب:
-الذات والذاكرة
-الطفولة و الأحلام و الموت
-القصة و البناء
1 – سلطة الزمن:
الذات و الذاكرة
منذ السطور الأولى من قصة ” الغرفة المجاورة”و اشتغال الذاكرة ماض إلى آخر قصة في المجموعة وهي آيس كريم، يكشف سلسلة من المواقف و الانكسارات والحالات الإنسانية والمصائر لشخوص القصة، يطلعنا على واقع المرأة المغربية الأرملة ووضعها في عهد سابق، وأبعادها النفسية والرمزية من خلال شخصية “زبيدة” وجماعتها، أم الساردة، لبنى السريعة.
لقد اخترقت القصة جدار طفولة الساردة بضمير المتكلم، لتسترجع ملامح من حياة قديمة وهي في طريقها إلى بائع الخضر، من خلال أغنية شعبية قديمة منبعثة من مقهى الحي، تفاصيل ذكريات حياة قديمة جدا بمدينة صيفها حار جدا،وجزء من الأسرار ببيت العمة زبيدة المتسامح،والتي كانت تردد تلك الأغنية في مناسبات العائلة، قبل أن تصبح مومسا منبوذة، فتتذكر سعادتها مع شقيقها حليم عندما كانا يزورانها باستمرار لتذوق طبق الحلزون بالزعتر وقشور البرتقال، ومشاهدة التلفزيون رفقة جماعة نسوة من أعمار مختلف كن يمتهن نفس حرفة العمة (” بنت العسكري، بنت ماضي السكيرة)، ومع استنشاق كل نسمة ريح باردة تنتعش خواطرها الثائرة والرافضة للوحدة والغربة الذاتية،إلى ما هو أعمق تقول الساردة”ريح باردة مفاجئة تمسح وجهي وفي نفس الأثناء كانت قد بدأت تصلني تلك النغمة الأليفة من مذياع مقهى الحي…أغنية شعبية قديمة وحزينة…”، وتقول” الريح الباردة ما تزال تداعب وجهي …وتنشط ذاكرتي…” “الريح الباردة هذا الصباح حنونة تماما” مستعيدة أطياف الغرفة المجاورة لبيت التلفزيون، ولا تستيقظ من عالم الذاكرة إلا على صوت بائع الخضر: أش حب الخاطر؟
وفي قصة”تفاحة أدم”نعايش ذاتا متشظية مع لبنى السريعة الجريحة ذات الشعر الأصفر المصبوغ، والكحل الفائض، واللباس الجلدي الذي بدت فيه أكثر تماسكا عما كانت تبدو عليه قبلا. إنها ذات أنثوية تبكي حظها ورضيعها البعيد عنها في مدخل البناية؛ حيث عيادة الطب النفسي، وتتفضل بدعوة الساردة إلى مشاهدة الرسوم المتحركة ثلاث مرات في اليوم، وسهرة الميكيات لإبعاد الضجر !!
ولكن هذا لم يمنعها في غمرة الانكسارات المتلاحقة من الاستجابة لنبضات قلبها الذي لايزال يقاوم ويدق من حين إلى آخر، لتعلن أنها قادرة على الاختيار والحب و العطاء وذلك حينما أعجبت،برجل غريب “كتفاه واسعتان، قامته شامخة بدون تعال وتفاحة آدم في عنقه الجميل تدفع بنعومة ربطة عنقه السوداء التي تزيد بشرته بياضا مع حمرة خفيفة تعلو وجهه” ربما بسبب الجعة”. ولا تستطيع أن تبوح بأفكارها المنحرفة لأنها أنثى وعليها ان تتحلى بالتبلد العاطفي إن هي أرادت الفرح. هي الطبيعة البشرية تأبى الانزواء والتواري داخل جسد أنهكته الوحدة.
إن الحديث عن تجربة الإحساس بالخواء بعد موت الوالد، وهجران الزوج، والشعور باليتم الإنساني، في غياب أي شعور آخر يعوضه، يختزن كل معاني البؤس والألم التي تعيشه امرأة لا تنام.تقول الساردة: “أنا إذن، هي هذه السيدة العجوز بالجلباب البني و المنديل الأبيض …التي تمر في هذه الأثناء بظهرها المحني و رأسها المتجه نحو الأسفل… أنا المرأة التي لا تنام ..لا تنام أبدا”.
2 – الطفولة و الأحلام والموت
إن الساردة مسكونة بحرقة الموت حتى النخاع، هذا القدر الذي غيب عنها رجلا تحن إليه، وتشتاقه في لا وعيها شابا سليما، كما كان قبل ثلاثين سنة، فيتمثل لها في الحلم مبتسما ومسرورا في كامل أناقته وعافيته يمسك بيدها ويأخذها معه، وهي على هيأتها امرأة ذات الخمسين ربيعا، “متشنجة ترتدي طقما أسود لا يساير الموضة إلى مكان تعرفه جيدا ” لم أكن حتى لأشعر أنني أرافقه، كنت أحس أنني أمشي في الاتجاه الصحيح…كمن يعود إلى المكان الذي أتى منه”. لقدخطرت ببالها فكرة تعقب أبيها المحتمل مروره بأحد الفضاءات التي جمعتهما يوما قبل سنوات بعمر 12 سنة،ساحة باب لعلو، وحي المحيط، والمدينة القديمة، والسويقة أو ديور الجامع ، وبلاس بيتري، الحانة العريقة. كلها أماكن يمكن أن يعرج عليها قبل العودة من حيث أتى، ولكنه أخلف الموعد.هذه إشارة مباشرة إلى ارتباط الذاكرة بالأمكنة، ثم تحاول العودة إلى الحلم، ليستمر الارتياح النفسي بوجود رجل كان يتبول على العالم من النافذة،هذا الوالد الذي لا يكترث للعالم بعد ليلة من الشرب، فتتمنى لو أنها استطاعت أن تتصرف مثله وتكره الخوف: “كنت أشبه ذلك الرجل الذي يستقر الآن داخل حفرة باردة … اعتقدت ذلك طويلا وكنت أعلم أنه تشابه على الورق فقط وليس أبدا في الحياة…”وستموت أيضا مثلما مات ذات يوم بغرفة الأطفال…”أشعر أن جسدي مصاب بالموت… وأنه سيستقر قريبا داخل حفرة باردة…باردة” وحيدة هي الساردة في بيت حزين وبارد كالقبر، وهي حية/ شبه ميتة تعيش فيه مع الذكرى، ككومة بقايا إنسان لن يقلق عليه أحد عندما يغيب،لن تحقق مشروعا من المشاريع التي سطرت كبقية الناس،ستستسلم وتمتطي صهوة الأرقام مستعملة أصابع يديها ورجليها باحثة عن حلم مع الأموات تغمس فيه خيباتها المتكررة.
وزوج غاب وماعاد يقاسمها الشقة والحياة تقول الساردة: “عندما ينصرفون ينهمر الموت حولي مرة واحدة..مشكلتي مع غيابه كانت تجعلني أستيقظ في الرابعة ليلا…فأصاب بالفجيعة ثم يشرع”الهلال” في أنينه..أعرف حينها أنني تورطت فيه وأنني لن أستطيع العودة إلى النوم. أستسلم بضعف كامل لذلك الصوت الرهيب القادم من صومعة الحي…وأظل أتخبط داخل ذاكرتي…”
ولعل الحديث عن الموت والوحدة القاتلة الموجعة لا يفارقها.لهذا ففي كل قصص المجموعة يحضر كشاهد على امرأة على شفا جرف هار يهوي بها في ملكوت لا يعرفه سوى العجزة الغرباء، أهو قدرها أن تعيش وحيدة ولها أم على قيد الحياة؟ هل اختزلت الحياة في شخص الوالد؟
إن الفراغ الموحش بعد رحيل الأب، يزداد وحشة مع الأخبار السيئة التي قذفها الطبيب في وجهها بلغة جامدة، سيستأصل رحمها. إنّ عملية بتر الرحم بالنسبة للساردة هو اجتثاث لكل أعضائها، وبالتقسيط: “سوف أنسحب بالتقسيط…شعار الفقراء… الفقراء الشامخين الذين يقفون أمام بائع اللحم ويطلبون عشرة دراهم من الكبد( ويلحون أن يكون طريا) ليتوجهوا بعد ذلك الى دكان البقال ليطلبوا منه درهما من الشاي وآخر من السكر… وسيجارة (ديطاي)…هو موت معلن.
و”للمرة الثالثة في نفس الأسبوع ستتقاطع طريقي بطريق “دنيا” في الحلم “شخصية أخرى من العالم الأخر تطالعنا بها الساردة، شخصية ممزقة لحقها الانهيار بعد الزواج، تلتقيها في الحلم مرة بالماضي وأخرى بالمستقبل لإحياء الصداقة التي جمعتهما قبل أن يتحولا إلى بقايا إنسان، “فالحلم هو الإطار الوحيد الذي يمكننا فيه أن نقذف بعامل الزمن وبكل الحزازات الشخصية الغبية الى الجحيم، نحن الان في زمنين مريحين و مناسبين لكلينا: دنيا قبل الزواج، الفتاة المرحة المقبلة على الحياة و انا بعد توقف نشاطي الجنسي الملتبس وتحرري من عبوديتي المهنية، هادئة ومسالمة.”
غرفة فيرجينيا وولف
غرفة فيرجينا وولف[الأمريكية] كانت لإخفاء الأسرار الخاصة بها، و لكن غرفة فريجينا وولف المغربية كتبت لكشف الذات، وجعل وجودها قائما على [حبل] الاعتراف.لهذا، تتجلى القصة وكأنها بوح امرأة تعاني في صمت، تستحضر الماضي من الذاكرة البعيدة، لتخفف من أعباء الحاضر عبر الأمكنة والأزمنة والأصدقاءالقدامى. وتدور القصة حول امرأة أمام المرآة تعيش حالة مسنة نال منها غدر الزمان و عقوق الولد، لكنها حققت مطلبها في امتلاك غرفة خاصة ،ثم تعود لطبيعتها الشامخة مستمتعة بالفراشات الموسومة على ستارة الحمام الصفراء.
3 – القصة والبناء
من أهم ما تميزت به المجموعة القصصية”غرفة فيرجينيا وولف” ذات القيمة الفنية والدلالية، ميلها إلى استخدام الأحلام بصيغة رمزية وبناء إيحائي، في بعض القصص وهذا ما يقربها من الوظيفة الشعرية، فمجموعة الكلمات والإشارات تقود حتما إلى قراءات تأويلية مفتوحة ومركبة .وهذا هو دور الأدب.
كما اعتمدت الكاتبة لغة فنية توهم بحقيقة المحكي، وتجعل القارئ متورطا في الحكي من خلال فعل التذكر، تذكر مرحلة الطفولة بكل حمولاتها كجسر مهم في حياة الساردةالتي شعرت بالامتلاء، فكان لابد أن تنغمس في الأحلام كتعويض عن حالة الشجن التي سكنتها منذ الصفحة الأولى والى آخر سطر في المجموعة القصصية. وتبوح لقرائها همسا حديث نفس أتعبتها الوحدة وأرهقتها العزلة والعلة.