الذاكرة والاعتقال السياسي في السينما المغربية: فيلم «كيليكيس دوار البوم» لعز العرب العلوي لمحارزي نموذجا

باشتهاءٍ لطيفٍ ورغبةٍ جامحةٍ في إمتاع العين وإرواء عطش الذاكرة بكل ما هو سينمائي نبيل وراسخ، حضرت مساء السبت 10 ماي 2025 عرض فيلم «كيليكيس… دوار البوم» للمخرج الدكتور عز العرب العلوي لمحارزي، وذلك بقاعة العروض التابعة لمعهد الموسيقى والفن الكوريغرافي بتازة، ضمن برمجة أنيقة ومنظمة لفعاليات منتدى فريواطو للسينما والثقافة والإبداع.
الحضور كان نوعيًا بامتياز: جمهور متعطش، مثقفون، طلبة الإعلام والتواصل، وعشاق الفن السابع، يتقدمهم القاص الكبير أحمد بوزفور، والباحث المرموق في الحضارة التازية الدكتور عبد السلام نويكة، إضافة إلى نخبة من الأدباء والمفكرين والمهتمين بقضايا الذاكرة والسينما.
لقد خرجت من القاعة كمشاهد وأنا مشبع بجمال الصورة وقوة الخطاب البصري وعمق الحكاية. شعرت أنني أمام عمل لا يكتفي بسرد مأساة، بل ينسج صرخة سينمائية مؤلمة تدعو إلى فتح الجراح، لا بغرض النكء، بل بهدف العلاج، الاعتراف، وجبر الضرر. الفيلم تجاوز بعده الفني ليتحول إلى نداء حار من الذاكرة المغربية، وصوت لضحايا تم التعتيم عليهم لعقود، ممن سُلبوا الحلم، وسُجنوا في ظلال النسيان.
كيليكيس دوار البومشهادة على فترة من أحلك فترات المغرب المعاصر، بل هو رهان فني وسياسي في آن، يرفع شعار: لا مصالحة دون اعتراف، ولا عدالة انتقالية دون مواجهة حقيقية مع الماضي. فالفيلم يذكرنا بأن المصالحة لا تكون عبر تقارير شكلية، بل من خلال فن ملتزم يعيد الاعتبار للإنسان، وللمكان، وللحلم الجمعي الذي تم قمعه ودفنه.كما أن اختيار تازة لعرض هذا الفيلم له دلالة رمزية عميقة، فالمدينة بتاريخها النضالي وموقعها الاستراتيجي ومثقفيها الواعين، تظل منبراً للدفاع عن الحقوق والكرامة، ومنصة مثلى لتلاقي الفن والذاكرة والتاريخ.
لقد رسخ الفيلم قناعتي بأن السينما المغربية قادرة على أن تكون سينما مقاومة، وأن تحمل الكاميرا على كتفها مثل بندقية، تكتب بها ما لم يُكتب في كتب التاريخ، وتنطق باسم من لا صوت لهم. إنه عمل يجب أن يُدرس في معاهد السينما، ويُشاهد في المدارس والجامعات، لأنه لا يحكي فقط عن «دوار البوم»، بل عن أشباح الماضي التي لا تزال تسكن جغرافيا الذاكرة المغربية. أن القيمة السينمائية والسياسية لهذا العمل الفني والتاريخي يدخل ضمن سينما المصالحة والذاكرة، لأنه ينبه الضمير الجمعي ويطرح أسئلة مؤلمة حول من يعرف ولم يتكلم . من صمت وشارك. و من اختار أن ينسى أو يتناسى . وهل يمكن بناء مستقبل مشرق دون الاعتراف بالماضي الأكثر ظلمة في تاريخ المغرب الحديث؟ لذلك كله ، ومن فرط إعجابي وحماسي بالفيلم وللأهمية ، قمت بنقل بعض من فقراتها وبثها على الأثير. وتعميما للفائدة زرعتها على صفحاتي بمواقع التواصل الاجتماعي .
وكانت منصة العرض بمعهد الموسيقى والفن الكوريغرافي أكثر إشراقا وتوهجا يا عز العرب العلوي بإشراقاتك المستنيرة حول توريط المشاهد في لعبة الذكاء السينمائي بحضور الدكتور مصطفى اللويزي أستاذ وباحث في الصورة والإعلام . الذي أضاء كعادته جوانب عميقة من لغة الفيلم البصرية . الناقد السينمائي الأنيق هشام العيدي كان هناك و غاص في دلالات السرد السينمائي وأبعاده الفنية ومدارسه . وفيما تولى الدكتور بوجمعة العوفي إدارة النقاش ف بإحساس شعري ونفَس نقدي أنيق، تميزت الأمسية بالتنشيط والتقديم الأنيق البديع للإعلامية هلين بودور، عضوة المكتب التنفيذي لمنتدى فريواطو . تجدر الإشارة أن هذا الحدث الثقافي الهام و المميز يندرج في إطار شراكة بين وزارة الثقافة والشباب والتواصل والجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، وبدعم وتعاون مع المديرية الإقليمية للثقافة بتازة. ليلة قال عنها عريسها « تنبض بالصورة والمعنى، تؤكد أن السينما ليست مجرد فن للعرض، بل وسيلة للتفكير ومساحة للتأمل الجماعي في قضايا الإنسان والمجتمع».
كيليكيس دوار البوم” هو فيلم مغربي كتب له السيناريو واخرجه د عز العرب العلوي لمحارزي، وقام بتصويره اندرياس سينانوس الذي جعل منه تحفة فنية ملهمة وبديعة وشاهد عيان موثوق للحقيقة والتاريخ . مدة الفيلم ساعة و38 دقيقة. تم عرضه لأول مرة في العام 2018. وهو من الأعمال السينمائية الجريئة التي تطرقت إلى موضوع سينما حقوق الإنسان وحفظ الذاكرة الوطنية كموضوع شائك يسم تاريخ المغرب المعاصر. نعرفه نحن المنتمون إلى اليسار بداية من السبعينات بسنوات الرصاص . إذ يعالج قضية الاعتقال السياسي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال واحدة من أشد الحقب ظلاما وشراسة من تاريخ المغرب المعاصر. و تحديدا في فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني.
يتعلق الأمر بتجربة فيلمية حافلة بالمشاهد الدرامية والرسائل الترافعية وقد استغرق في إنجازه حوالي 5 سنوات، و تم نزوله إلى القاعات سنة 2018. وذلك بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية و المركز السينمائي المغربي من ناحية ثانية . وعلى المستوى الأخلاقي فقد ظل الشريط نظيفا خال من مشاهد الميوعة والإخلال وخدش الحياء محترما ذوق المشاهد مستحثا ذكاءه . ولعل قيمته ومستواه يتجلى من خلال عدد المهرجانات الدولية التي شارك فيها حوالي 64 مهرجان في مختلف بقاع العالم. عدد الجوائز التي حصدها الشريط: 17 جائزة مختلفة، من صربيا – وهران – كندا – أمريكا – إيطاليا – فرنسا – ألمانيا – مصر – هولاندا – المكسيك – بنجلاديش – جنوب أفريقيا…» كما كان محور اشتغال عشرات الأطاريح الجامعية داخل المغرب وخارجه .
ولأن الصدق دائما وأبدا يجب أن يقال، فإن كل مقطع من مقاطع فيلم «كيليكيس دوار البوم» يمكن اعتباره درسا سينمائيا بليغا في تقديم مفهوم متقدم لفكرة «الإيحاء» في السينما. واستنادا إلى هذا الفهم ، لا يجب أن يقتصر هذا الدرس على مجرد تقريره وتدريسه وبرمجته في كل المعاهد والمؤسسات الموضوعاتية، بل وأن يشكل درسا افتتاحيا نموذجيا في لغة الإيحاء السينمائية بكامل المؤسسات الموضوعاتية بالمغرب . وهذا بتقديرنا لا يعود إلى طبيعة المعالجة الذكية لإشكاليات عميقة في مغربنا المعاصر ترتبط بالأساس بالذاكرة والسلطة والتاريخ فحسب، وإنما بالنظر لطبيعة المعالجة ومقاربة السينما بهاجس الإنسان، بجرأة و لغة سينمائية شديدة المفعول ومؤثرات صوتية وأدوات فنية بالغة التأثير .
تدور أحداث الفيلم في قرية خيالية تُدعى “كيليكيس” في الواقع توجد بين جبال الأطلس الكبير بالمغرب وهي في ظاهرها تجمع سكني معزول، لكنها في الحقيقة موقع سري لاعتقال المعارضين السياسيين للنظام والمناوئين لكل ما هو حكومي رسمي . وللإشارة، فإن الموقع يحيل مباشرة على معتقل تازمامارت سيء الذكر أو»غوانتانامو» المغرب (1971 – 1991)،. فجأة،اة درامية لسكان هذه القرية – المعتقل – فئة من الناس متباينة الطموح والانتظارات، تعيش وتتفاعل بإيقاع حياتي مهزوز على هامش ما يقع داخل هذه البناية الموبوءة . عناصر من هؤلاء يقضون حياتهم في التناوب على حراسة موقع عسكري يربطه بالدوار جسر معلق في الهواء على واد سحيق. فجأة ،نجد أمامنا العسكريللوطنية وهووهو رجل بسيط لم ينل حظه من الدراسة، يقضي حياته في التناوب مع حراس السجن الآخرين على بوابة المعتقل فضلا عن مساعدة فقيه الدوار على دفن الموتى. وكان يرى في عمله نموذجا للوطنية وهو يحرس من يعتقد أنهم يشكلون خطرا على أمن الوطن ، لكنه سيدرك في الأخير أن «دوار البوم» هو في الحقيقة مجرد سجن كبير .يحتجز الجميع حراسا ومعتقلين كل ذلك يقع وسط صمت مطبق و نظام تواطؤات محكم التصميم يؤثث مفاصله خوف مستمر ومتواصل على مدار الوقت.
والفيلم هنا يركز على نماذج حية من التوتر الناجم عن التفاعل الحياتي بين الجلاد والضحية بين السلطة والإنسان، فمن جهة ، يسلط الضوء على الذاكرة المنسية للضحايا الذين يموتون تحت شراسة التعذيب أو سادية القتل الرحيم خارج منظومة الاستجداء بالصور والاستقصاءات العائلية . ومن جهة ثانية ، يثير أسئلة أخلاقية وإنسانية حول التواطؤ المخدوم والصمت المكلوم وآليات المصالحة الاجتماعية الرجيمة تحت شعار جبر الضرر..
على الصعيد الفني يمكن التقاط بعض السمات الدالة على ذلك مثل حضور اللغتين العربية والأمازيغية والإنجليزية ما يمنح الفيلم طابعا ترويجيا الأقوى من نوعه على الصعيد العربي والدولي . على مستوى التصوير ثمة لقطات طبيعية قوية أجواء قاسية مظلمة عتمات ومشاعر صاخبة مكثفة تنقل الإحساس بالاختناق والعزلة أبدعها المصور اندرياس . أما على صعيد الأداء فقد تم توزيع الأدوار بذكاء مناسب حيث شارك عدد من الممثلين الرواد بعضهم انتقل إلى رحمة الله نعيمة لمشرقي .. ونجوم لا يزالون على قيد الحياة وبرزوا بشكل لافت في الساحة الفنية مثل محمد الرزين محمد بوصبع أمين الناجي حسن بيديدا كمال كاظمي فاطمة هراندي وفاء أسماء ساوري .. مثلوا وتقمصوا وأدوا الأدوار ببراعة تمزج بين الصمت المهني والتعبير الجسدي المكثف. ولعل السيناريو المحكم والإخراج الاحترافي هو ما أضفى بعدا جماليا وفنيا غاية في الجاذبية والتأثير . حيث استخدم عز العرب العلوي أسلوبا تأمليا عميق الدلالة ، يمزج بين الرمزية والواقعية ويحث على تنمية الإيحاء كلغة لتوريط المشاهد وقضمه من أذنه ليكمل بقية الحكاية ، مما جعل الفيلم يحمل أبعاداً فلسفية وسياسية. ويرسل إشارات على جانب كبير من الجرأة و الذكاء السينمائي.
حاز على العدالحقيقة،وائز، وتم تتويجه في العديد من المهرجانات السينمائية عبر العالم من بينها الجائزة الكبرى لمهرجان القمة السينمائي الدولي نيسفييل بصربيا، وجائزة أفضل إخراج بمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، وجائزة التميز لأحسن فيلم أجنبي بمهرجان كندا الدولي للفيلم، وجائزة أحسن دور رجالي، والتي توج بها الممثل محمد الرزين، ضمن فعاليات المهرجان الدولي مونتكومري بأمريكا. كما شارك الفيلم بعدد من المهرجانات الدولية بكل من إيطاليا وفرنسا وأمريكا وإنجلترا وسويسرا والهند ورواندا وكندا والمكسيك والبنغلاديش مهرجان قرطاج وغيرها. و كذلك داخل المغرب المهرجان الوطني للفيلم بطنجة ولاقى إشادة نقدية واهتمام إعلامي كبير بالنظر لجرأته في طرح موضوع سياسي ظل طي النسيان والكتمان .وكان من المحرمات لسنوات طويلة .
في العمق ، يعالج الفيلم موضوع الاعتقال السياسي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال سنوات الرصاص في المغرب، وهي فترة مظلمة عرفت بالقمع والتعذيب والإخفاء القسري. لكن المخرج هنا لا يقدم الأحداث بشكل مباشر أو توثيقي، بل ينسج حكاية رمزية عبر – دوار البوم- الذي يرمز إلى الصمت الظلمة والموت المعنوي. وبينما يظهر الجلادون في الفيلم كأشخاص عاديين يأكلون يشربون ويصلون ويستمتعون. نجد في الجانب الآخر أصوات ضحاياهم وصرخاتها المكتومة بالموت . ونقتفي آثارهم عبر الأنين الغارف في الصمت القاتل . والوجود الخافت المنغرس في الظلام ، وآثارهم الدموية الجاثية خلف الجدران.
ولعل ما يضفي على الفيلم بعدا إنسانيا مرعباً ، ويسمه بنوع القتامة والمأساة هو هذا البارادوكس PARADOX الصارخ حيث يمارس الناس العنف المميت الظالم داخل السجون والمعتقلات السرية، لكنهم يحتفظون في الشارع العام بمظهر العادي والطبيعي .ما يعني أن الوضع بقتامته يمكن أن يتسلل إلى هنا والآن و في أية لحظة في حال التكرار كما يستحث التعاطي بموضوعية وواقعية مع الماضي . وفيه أيضا إدانة لهذا الصمت القاتل والتواطؤ والخذلان المريب .
على صعيد اللغة البصرية ،يعتمد التصوير على لقطات طويلة، وزوايا ضيقة ومظلمة توحي بالعزلة والانغلاق الألوان يغلب عليها الرمادي والقاتم، مما يعكس الكآبة واللايقين. الصوت والصمت الطويل، والهمسات وصرخات أليمة بعيدة تخلق توترا دائما، وتشعر المشاهد بأنه هو نفسه في قلب “دوار الرعب”. رمزيا يحضر البوم في الثقافة الشعبية المغربية نذير شؤم وموت وفأل غير حسن وهو ما نجع عز العرب العلوي في ترجمته سينمائيا في “دوار البوم” الذي لا يمكن اعتباره مكاناً حقيقياً فقط، بل هو رمز لكل الأمكنة التي يدفن فيها الإنسان حياً. كل مغربي يسمع بالدوار دون أن يجرؤ على السؤال عنه، كما لو أن الجميع يعرف الحقيقة. لكنهم يتجاهلونها خوفاً أو اتقاء شر ما . الصمت في الفيلم ليس غياب الكلام، بل هو لغة الخوف والخذلان. حتى من يعرف الحقيقة ، يختار الصمت تقية .المخرج يستخدم الصمت ليقول ما لا يمكن قوله بالكلمات، مستلهماً رمزية صوفية وسياسية مسجلة بالتاريخ العربي والإسلامي على نحو خاص .
من هنا يبرز السيناريست عز العرب أهمية السينما كأداة حقيقية للنبش في الذاكرة التاريخية ومساءلة السلطة عن أعطابها وانتكاساتها والدفع بها قدما نحو تعزيز المصالحة ومطالب جبر الضرر . إنه يقدم دروسا فنية وتقنية عالية الذكاء ويوضح للهواة والمحترفين كيف يمكن للفيلم أن يعكس واقع الاعتقال السياسي وينبش في الاختفاء القسري ويستقصي العلاقة بين القرية الدوار والسلطة الحاكمة. أن لغة الصمت الظلال، والصرخات الخافتة ليست مجرد أدوات ترف فني ،وإنما جاءت للتركيز على الزمن الدائري والفضاء المغلق. وتطرح السؤال كيف يعيد الفيلم بناء ذاكرة مسكوت عنها والدور الهام الذي يمكن للصوت والصورة أن تلعبه في تحفيز الذاكرة وإذكاء التأمل الجماع.؟ ما يؤشر على ضخ وتجسيم الإشارة إلى وظيفة ومسؤولية هيئة الإنصاف والمصالحة كخلفية سياسية لكيليكيس. يتبع


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 16/05/2025