الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته : التعددية المنحرفة أفسدت الأحزاب وأفسدت المواطنين 19

علينا أن نَصُونَ الحق لبعض إِخوتنا الذين أبدوا تحفظهم خلال اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد التي اتخذت القرار بالمشاركة. لقد كانوا يَرَوْن أن لا نشارك إِلاَّ عَبْر صناديق الاقتراع، وأن الدخول على أساس تناوب تَعاقُدي سيكون محفوفاً بالمخاطر في غياب أي ضمانات، وخصوصاً بدون صناديق. ومُعْظَمُهُم تَبَنَّى –بعد النقاش والتوضيح، ثم عملية التصويت- رأي اليوسفي حين أوضح أنَّ شَرْطَ صناديقِ الاقتراع ليست لنا أَيُّ وسيلة لنضمن تحقيقه، فنحن لا نتحكم في صناديق الاقتراع، ولا نعرف كيف ولا متى يمكننا أن نحقق هذا الشرط، والمغرب لم يَعُد يَتَحمَّل. فبعد الخطاب الملكي الشهير حول‏ «‏السكْتَة القَلْبِية‏»‏،‏ وتَدهْوُر الوضع الصحي للملك الحسن الثاني رحمه الله، كان علينا أن نخلق نوعاً من الانفراج، أن ندخل مع الملك في مرحلةٍ من التوافق، ونخرج قليلاً من منطقة اللاَّءَات التي مكَثْنا فيها طويلاً بكل ما كانت تعنيه من تضحيات جسيمة ومحن وآلام وضرائب وتَحمُّل وصَبْر. صحيح أنها لاَءَات لم تكن عبثية ولا مجانية بل خدمت شعبنا وحَصَّنَتْ بلادنا، ولكن الرفض ليس هو الصيغة المثلى دائماً لممارسة السياسة وخدمة المصلحة العليا للبلاد.
نحن أيضاً كان علينا أن نلتقط ما كان يشْهَدُه العَالَم من تَحوُّل، ولم يَعُدِ المنطق السياسي يقْبَل بلغة الستينيات في القرن العشرين (إِقْضِ عَلَيَّ أو أَقْضي عليك!) بل أصبح التعايش لغة عصر جديد، سواء في السياسة الدولية أو حتى على مستوى السياسة القارية والجهوية والإِقليمية، فَلِمَ لاَ على مستوى السياسات الوطنية؟ وهو عكس العقلية أو الفلسفة السياسية التي كانت سائدة في عقد الستينيَّات. وهو عقد كانت تهيمن فيه حركات التحرير من الاستعمار والديكتاتوريات، وكذا استقلال عدد من شعوب العالم الثالث.
لاشك أَن المؤرخ أو الملاحظ السياسي الموضوعي، حين يتَحرَّى الدقة والرُّوح العلمية وهو يتأمل ذلك الحدث، سيُحيِّي جسارة وقوة وأهمية القرار الذي اتخذناه سنة 1998. صحيح أَنَّه لم يكن قراراً بدون كُلْفَة، فقد كان المشكل أَولاً أننا لم نَكُنْ مُلْتَحِمِين بالقَدْر الكافي داخل حزبنا، فرغم مصادقة اللجنة الإِدارية واللجنة المركزية على القرار، ظلت داخل صفوفنا، وحتى داخل قيادة الحزب، جملة من التحفظات والمؤاخذات على طرائق التصريف وعلى الأَشخاص.. وما إِلى ذلك. ولم نَتَخطَّ تماماً مشكل سي محمد البصري الذي ظل مع ذلك مشكلاً يلقي بظلاله. كما آثَرْنا، من جهة أخرى، أن نتحمل المسؤولية، مسؤولية المشاركة في تسيير شؤون البلاد، بوضوح في خطابنا وفي خطواتنا. لم نَكُنْ نتَكلَّم بخطابَيْن، خطاب المشاركة وخطاب المعارضة. وبصورة عامة، فقد دافع الحزب عن الحكومة، إِلاَّ من بعض الانتقادات التي لم تكن صحافة الحزب تتردد في توجيهها إِلى العمل الحكومي، مما يندرج ضمن حق الصحافة في ممارستها المِهَنية. ولكنَّ الحزب لم يتصرف أَبداً على أَساس أن الحكومةَ حكومتُه وحده لا غير، وإِنما كنا نتصرف باعتبارنا مكوِّناً ضمن ائتلاف حكومي يوحده التصريح الحكومي الذي تمت صياغته على ضوء الحَدّ الأَدنى للبرامج الانتخابية لمكونات الائتلاف. وأساساً، كان تصريحاً منسجماً مع التوجه العام لحزبنا. ولَعلَّ أهم ما أَلْحَحْنَا عليه كثيراً هو جانب الحريات، جانب المساواة بين الجنسَيْن، جانب العدالة الاجتماعية…، ومثل هذه الجوانب لا يَترك آثاراً ملموسة بالنسبة لعموم المواطنين. لقد كانت هناك مبادرات هامة اتخذت لإِصلاح الأَوضاع الاجتماعية، وتقررت زيادات ملموسة في الأجور. وكانت ثمة عدة مبادرات في المجال السياسي والاقتصادي والحقوقي والثقافي والتربوي والتعليمي، لكن الناس تَنْسى بسرعة ولا تنتبه على العموم إلى الإِصلاحات البنيوية وإِنما تولي أهمية قصوى للمتغيرات العابرة. يكفي أَن نستحضر قطاع التعليم على سبيل المثال، فقد اتخذت قرارات أساسية لتحسين أوضاع نساء ورجال التعليم لم تُتَّخذ أبداً في أي مرحلة أخرى، ولكن لم يكن لهذه القرارات أَيُّ مفعول انتخابي إِن سمحتُ لنفسي بهذا الحساب البسيط على سبيل التمثيل فحسب. والواقع أيضاً أَننا –كحزب- لم نستأْثِرْ لأنفُسِنا بوزارات لها مفعول انتخابي بل أخذنا حقائب وزارية لها طابع سياسي تُسَهِّلُ العمل الحكومي كالوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان أو وزارة الثقافة. والأَهم من ذلك كُلِّه أننا لم نشارك في تلك التجربة الحكومية بعقلية انتخابَوية، ومع ذلك حظينا بالرتبة الأولى في الانتخابات.
كان رهاننا أكبر وأَعمق لمصلحة البلاد، ولم يكن ظرفياً أو تاكتيكياً. وقد رأينا ما حدَثَ من ردِّ فعل حين تَمَّ الخروج عن المنهجية الديموقراطية سنة 2002. وهي نقطة كبيرة في مسار تحويل أفق تلك التجربة ككل.
أولاً، لأن تجربة سي عبد الرحمن الحكومية لمدة خمس سنوات (الحكومة الأولى، سنتان و176 يوماً، من 14 مارس 1998 إِلى 6 سبتمبر 2000. والحكومة الثانية، من 6 سبتمبر 2000 إِلى 7 نونبر 2002، سنتان و62 يوماً) أبرزت لنا المشاكل وأَسباب الخلل القائمة، وبدا واضحاً أن دستور 1996 لم يعد يوفر سقفاً كافياً. ومن ثَمَّ لم نتوقف عن تجديد مطلبنا بضرورة إِصلاحات دستورية. وتصرفنا بهذا المعنى لأننا نؤمن بالتراكم. ولأننا لم نَصْدُر عن تصورات ذهنية، وإِنما من خلال اختبارنا للواقع القائم، فكان لابد أن نرفع صوتَنا بضرورة تمكين السُّلَط من آليات دستورية للقيام بمسؤولياتها وأداء عَمَلِها.
سيختلف الأَمر في الإصلاح الدستوري لشهر يوليوز 2011، فقد توفر لمجلس الحكومة عدد من الصلاحيات وآليات العمل التي، للأسف، لم تكن متوفرة لنا خلال حكومة اليوسفي. آنذاك لم يكن للمجلس الحكومي نفسه، رسمياً، أي وجود. لم يكن موجوداً بل كان ينعقد سيراً على العادة والتقليد. لم يكن المجلس الحكومي موجوداً في الدساتير السابقة منذ دستور 1962 إِلى أَن نصَّ عليه دستور 2011. كان المجلس الوزاري وحده هو الذي يُشَارُ إِليه. الآن، ومنذ دستور 2011، اختلف الوضع. أصبح المجلس الحكومي مؤسسة دستورية، وله صلاحيات بل إِنَّ القرارات التي تُحَالُ على المجلس الوزاري هي التي أصبحت محدودة.
*
خلال الأربعين سنة المنصرمة، منذ سنة 1960، كانت الأَزمة السياسية قد خلقت مسلكيات سياسية، فرسَّخَتها وعَمَّمَتْها. وفي العمق، تم المساس بالتعددية السياسية ووظائف الأحزاب. ورغم أن النظام الدستوري في المغرب، منذ أول نصّ دستوري مُعْتَمَد في سنة 1962، منَعَ بوضوح الحزبَ الوحيد، مع ذلك –كما قال أخونا عبد الرحيم بوعبيد في حوار صحفي-‏ «‏كان يتم في الواقع إِرساء نظام الحزب الوحيد، أي حزب الإِدارة والأَمن‏»‏ ‏مُحذِّراً من‏ «‏بداية نظام فاشي حقيقي‏»‏ ‏(انظر حواره مع مجلة جون أفريك، أبريل 1963).
إِن التعدديةَ شرطٌ للديموقراطية، وهي الضمانة الأكيدة ضد نظام وعقلية الحزب الوحيد.
الحزب الوحيد هو الفكر الوحيد، أي الديكتاتورية.
التعدديةُ الحقيقيةُ تُتَرجم بالضرورة تعددية الحلول الممكنة أو الرؤى الواقعية أو المشروع المجتمعي الممكن. وليس هناك ثلاثون برنامجاً حكومياً، كما يمكننا أن نتصور ذلك بكلِّ بساطة، وبالتالي فالتعددية ينبغي أن تكون واقعية، تعكس تمثيلية ملموسة وامتداداً حقيقياً في قَلْبِ المجتمع. معناه أَن التعددية لا تعني التشتت والتشرذم بفعل سلوك وتصرفات السلطات الإِدارية. ولا يمكن أن يكون التشتيت سوى تعددية منحرفة (Pluralisme dévoyé) تتحول إِلى آلة حرب ضد الديموقراطية. لماذا؟ لأَنها تسهل عملية التزوير، وذلك بمحاربة النُّخَب الحقيقية أو بالعمل على تقسيم النُّخَب وإيقاد الحرب فيما بينها أو بإِفسادها. ومن ثَمَّ، ظلت التعددية المنحرفة في بلادنا تشجع الانتهازية والطموحات غير المشروعة، وتستهدف الأَحزاب الحقيقية قصد إِضعافها وشَقِّها، والتلاعب ببعض عناصرها أو مكوناتها، والعمل على إِفساد العلاقات بين الأفراد وأَحزابهم من خلال التشجيع على ظاهرة الترحال والتنقل من حزب إلى آخر، ومن نقابة إِلى أخرى. وخلاصة ذلك كُلِّه هي فقدان مصداقية الأحزاب السياسية والفاعلين السياسيين.
من هناك، من هذا المنطلق ينبغي أَن نقارب فكرة التناوب السياسي أو الديموقراطي في المغرب، فحين تم إِفساد التعددية جَرَى المساس بأي مشروع للتناوب. ففي العمق، تم المساسُ بوظائف الأَحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الوطنية ذات المصداقية وذات التمثيلية الاجتماعية أو المِهَنِيَّة.
ووظائف الأَحزاب –كما نَعْلَم- تتمثَّلُ في تأطير المواطنين والمواطنات، وجمعهم حول مشروع فكري سياسي اقتصادي وثقافي له برنامج، وتكوين واختيار النُّخَب على أساس الكفاءة لا على أساس الولاءات الشخصية أو العلاقات الزَّبُونية. وبالتالي، من واجب الأَحزاب أن توفر أسباب التكوين السياسي للمواطن(ة)، وتسليحه بالحِسِّ النقدي والاستقلالية الذاتية في التفكير قصد امتلاك القدرة على الغربلة والفرز والاختيار، لأن الديموقراطية هي الاختيار، أي قدرة الفرد على أَن يختار بكيفية حُرَّة ومسؤولة.. إِلخ.
والذي حدث منذ بدايات الستينيات في المغرب أَن التعددية المنحرفة أفسدت الأَحزاب، وبالتالي أفسدت المواطنين مادياً وأَخلاقياً. تم تعميم الانتهازية واللاَّكفاءة والوصولية والتزوير والغش حتى باتت هذه الظواهر تصبح كما لو أنها سلوك عادي. وهكذا جرى تبخيس السياسة، وجَعْلُ النَّاس تشمئزُّ وتَنْأَى بنَفْسِها عن المشاركة السياسية. وتأثرت صورة العمل الحزبي بل وفسدت مكونات عديدة داخل المجتمع المدني. كما فسدت الإِدارة التي فقدت حِيادَهَا وموضوعية عملها وأَدائها، الإِدارة التي في الأَصل ورثها مغربُ الاستقلال عن المرحلة الاستعمارية فَبدَتْ مهيأةً لِمِثْلِ هذا الانحراف وللتقاليد التكنوقراطية المتعارضة مع نموذج الإِدارة المُوَاطِنَة التي وُجدت لتكون في خدمة المواطن. وفي هذا السياق، جرى الاستيلاء على اختصاصات الفاعلين السياسيين كما ظَهَرَ ذلك بوضوح في تجربة الجماعات المُنْتَخَبة قبل سنة 1976 حيث كان يستولي القايد (كسلطة إِدارية) على اختصاصات رئيس الجماعة (كسلطة سياسية)…
*
هكذا، حين أصبحتِ البلادُ عاريةً أَمام احتمالات‏ «‏سكتة قلبية‏»‏،‏ حسب تعبير الراحل الحسن الثاني، أصبح التناوب السياسي النقطة الوحيدة في جدول انشغالات الملك. ولم يكن هذا‏ «‏التناوب‏»‏ ‏يعني شيئاً آخر غير اللجوء إِلى جانب من المعارضة السياسية التي ظلت مَقْصِيةً عُنْوةً من أي مشاركة فعلية في التدبير السياسي وفي الحكم.
فَهِمَ الجميع أن الملك يُوَجِّهُ الدعوة إِلى الاتحاد الاشتراكي وكاتبه الأَول، من خلال خطابه المعلن والواضح عن السكتة القلبية (أكتوبر 1997)، وكذا من خلال الإِشارات التي أصبح حريصاً على إِرسالها منذ بداياتِ التسعينيات. أدركنا أن الملك لم يَعُد قادراً على الانتظار، وأصبح في حاجة مستعجلة إِلى‏ «‏الحزب الذي ظل خارج الحكومة يناضل من أجل الديموقراطية طوال أربعين سنة، والذي اكتسب المصداقية الضرورية لِلَعِب الدور الضروري في اللحظات العَصِيبَة‏»‏،‏ وأستعمل هنا عبارات سي عبد الرحمن.
ولكن التناوب الحقيقي شيء آخر، ذلك المبدأ المركزي والركن الأساس في البناء الديموقراطي. المبدأ الذي يعطي معنًى للتعددية السياسية من خلال الاختيار والتجديد.


بتاريخ : 19/04/2023