الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته -41- اعتقال عبد الرحيم بوعبيد والاستقالة من البرلمان!

ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان ” المغرب الذي عشته ” عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…

 

 

بعد العودة إِلى المغرب، وجَدْنا مناخاً من الخلط في الأَذهان، عكسته الصحافة ومُعَلِّقُوها. فعلى المستوى الداخلي لامتصاص الصدمة التي أحدثها هذا القرار، لم يكن الرسميون يتحدثون سوى عن استفتاء تأكيدي. أما المعارضة الاتحادية فقد دَعَتْ إِلى اجتماع لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان. هناك، جرى نقاش بين جميع فرق الأغلبية التي ساندت القرار وفريق الاتحاد الاشتراكي الذي أبدى عدم قبوله بمبدأ الاستفتاء، لأنه قد يوحي بأن استرجاع أراضينا في الجنوب ليس نهائيا، الشيء الذي سيشكل تهديداً لوحدتنا الترابية.
ما زلتُ أذكر عندما تناولتُ الكلمة كفريق للمعارضة الاتحادية وأيضاً كشاهد أتيح لي أن أتابع في عين المكان الوقائع التي جرت في نيروبي. تَدَخَّلتُ لأوضّح موقف الحزب وللدفاع عنه. وبعد مرور أيام على ذلك، أصدر المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بياناً يُعَبِّر فيه عن تحفظه الملموس من القرارات التي اتخذتها منظمة الوحدة الأفريقية في نيروبي. كما يبدي‏ «‏بكل التأكيد الذي تتطلبه المرحلة التاريخية التي تعرفها بلادُنا‏»‏،‏ عن عدم قبوله إِجْراءَ استفتاءٍ حول جزء من التراب الوطني، وبالتالي فإن الاتحاد يقترح أن ينظم استفتاء شعبي وديموقراطي طبقاً للدستور يدعو مجموع الشعب المغربي إلى التعبير عن موقفه بكل وضوح‏.‏
جَمعَ مَلِكُ البلاد مجلساً وزارياً، في تِلْكَ الليلة، إثْرَ صدور هذا البيان الشهير، وكان الوزير الاستقلالي عبد الحفيظ القادري وحده مَنْ أبدى تحفظاً فيما يخُصُّ القرار باعتقال عبد الرحيم بوعبيد. وتطورات هذا الملف أضحت اليوم معروفة. فقد اعتُقِلَ أخونا عبد الرحيم بمعية خمسة من أعضاء المكتب السياسي وإن احتُفظ لاحقا بالأخوين محمد اليازغي ومحمد الحْبَابي إلى جانب الكاتب الأول.
سيقول الملك الحسن لاحقاً بأَن عبد الرحيم ورفاقه اعتُقِلوا، ليس بسبب عدم موافقتهم على الاستفتاء في الصحراء، وإِنما للعبارات غير اللائقة التي استُعْمِلت في البيان.
هذه المرة، أُصِيبَ الاتحاد الاشتراكي في أَعَزِّ ما يَمْلِكُه، في قائده الأكثر جدارةً بالاحترام، في رَمْزٍ كان الاتحاديون، والمغاربة عموماً يعتبرون أنه لم يكن يُمَسُّ منذ انتهاء الحماية. ولكنَّ ذلك كان من أجل قضيةٍ عادلةٍ، القضية الوطنية.
عندما اعتُقِل سي عبد الرحيم كنتُ في ألمانيا الغَرْبية، ضمن زيارة دراسية في إِطار مؤسسة فريدريش إِيبرت. كنتُ في برلين، على أُهْبةِ الذهاب إِلى مدينة لوبيك حين تلقيت تلغراماً من فرع الاتحاد الاشتراكي في باريس بتوقيع محمد أيت قدور يخْبرُني فيه باعتقال سي عبد الرحيم ورفاقه، ويطلب مني أن ألتحق بباريس في أقرب الآجال.
إذن، قَطَعْتُ إقامتي في ألمانيا وامتطيت أول طائرة صوب باريس، حيث التقيت أيت قدور الذي رافَقَني مباشرة من المطار إلى الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان). وكان قد عقد لي موعداً هناك مع السيد بيير جوكس رئيس الفريق الاشتراكي الفرنسي وبعض البرلمانيين من الحزب نفسه. وخلال اللقاء، عبر لي أصدقاؤنا الفرنسيون عن تضامنهم وتضامن حزبهم مع الاتحاد الاشتراكي وكاتبه الأول وأَعضاء مكتبه السياسي. تبادلنا بعض المعطيات حول الوضع في كُلٍّ من المغرب وفرنسا، حيث لم تمر سوى بضعة أشهر على وصول فرانسوا ميتران وأصدقائه إلى الحكم.
جريدة لوموند الفرنسية نَشَرتْ خبراً عن لقائنا هذا، وذلك في إِثر اعتقال الزعيم الاشتراكي المغربي، الشيء الذي أطلق حملة صحفية رسمية في المغرب (صحف، راديو، تلفزيون) إِلى درجة أن بعض الأصدقاء في الرباط اتصلوا بي هاتفياً لتَنْبيهي إلى احتمال اعتقالي غداة عودتي إِلى البلاد. ومن باب الاحتياط، انتظرني الأخوان الحبيب الشرقاوي ورشيد بنعبد الله في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء ورافَقَاني إلى بيتي في الرباط.
وعلى الفور، التحقت بإِخوتي في الحزب لنرى ما كان علينا أن نقوم به تُجَاهَ هذه الوضعية غير المسبوقة. ففي العادة، بعد اعتقال بعض إِخواننا كان أول ما نقوم به هو التوجه إلى لقاء عبد الرحيم لنقرر معه ما ينبغي أن نقوم به، لكن هذه المرة جاء دورُه هو لكي يُعْتَقَل. كان يمكننا أن نتوجه إلى سي عبد الرحمن، لكنه لم يكن موجودا في المغرب آنذاك. فكنا مضطرين لتدبير هذه اللحظة نحن أنفسنا، وأن نهيئ الشروط الملائمة للدفاع عن إِخواننا وعن كاتبنا الأول.
تَابَعْتُ، برفقة عدد من الإِخوان مسؤولي الحزب في الرباط، جميع جلسات المحاكمة من أولها إِلى النطق بالحكم. وقد قامت السلطات بكل ما رأته ضرورياً لتمنع المناضلين والمتعاطفين من الوصول إِلى مقر المحكمة الابتدائية في شارع مدغشقر، فأقامت عدداً من الحواجز الحديدية وأحزمة منتشرة من رجال الشرطة كانوا يُطَوِّقون المحكمة ويسدون مختلف المنافذ إِليها. كما أن قاعة المحاكمة كانت قد احتُلَّت مسبقاً من طرف جمهور من عناصر الأمن والاستعلامات والمكلفين بالمهام فلم يبق سوى حيز صغير لعائلات الإِخوة المعتقلين والمناضلين الذين تمكنوا من الدخول والذين جاؤوا لمساندة قادتهم.
هَزَّني النطقُ بالحكم بل صَدَمني بعمق. صحيح، كنتُ عشتُ من قبل بعض المواقف المأساوية وشَهِدْتُ محاكماتٍ أخرى منذ سنة 1963، لكن محاكمة 1981 بكلِّ رمزيتها كانت تعني بالنسبة إليَّ انجراف العالم الذي كنتُ أَحْلُم به طوال حياتي، والذي كان يتمثل في عبد الرحيم بكل مبادئه وقيمه التي كان يحملها وكرس حياته لزَرْعها في التربة المغربية والكفاح الدؤوب من أجل نَشْرها.
وتَذَكَّرْتُ في تلك اللحظة ما كان يُردِّدُهُ علينا عبد الرحيم نَفْسُه على الدوام، في لحظاتِ المحنة مخافَةَ أن نُصَابَ بالإِحباط:‏ «‏في المعركة القاسية التي نخوضُها، نحن الذين نوجد في الطريق الصحيح، نحن الذين على حق، وسَيأْتي يوم لنَنْتصر فيه. لن تدوم الوضعية الحالية للبلاد إلى الأبد‏»‏.‏
للحقيقة، لم أُخْفِ الخَيْبَة التي استَشْعَرتُها أمام غياب رَدِّ فعلٍ تضامني حقيقي من جانب المواطنين مع أحد الآباء الفعليين والرمزيين لاستقلال المغرب، وأحد بناة المغرب الحديث. ولكنْ عَليَّ أن أقول بأنهم مع ذلك عادوا فاستدركوا الموقف وأَنْصَفُوا عبد الرَّحيم غَداةَ وفاته رحمه الله بتلك الجنازة المهيبة التاريخية التي لم تكن مسبوقة.
ولكن كما يقول المثل الفرنسي‏ «‏un malheur ne vient pas seul‏»‏ ‏(المصيبة لا تأتي أبداً وحدها). ففي النصف الثاني من سنة 1981، ستتلاحق مجموعة من المِحَن التي ستمس بالمغرب والاتحاد الاشتراكي ومناضليه.
وبالفعل، فقد أشرنا إِلى ما تعرضت له الكونفدرالية الديموقراطية للشغل والنقابة الوطنية للتجار الصغار وعدد واسع من مناضلينا، وذكَّرْنا بالأحداث المرتبطة بقضية الصحراء المغربية التي قادت إِلى اعتقال أخينا عبد الرحيم بوعبيد وإِخوانه. وهاهي ثالثة الأزمات، ثلاثة أسابيع بعد ذلك، تَلُوحُ في الأفق، ويتعلق الأَمر بالأزمة المبَاشِرَة مع الحسن الثاني نتيجة استقالة البرلمانيين الاتحاديين.
نَذْكُر أن جلالة الملك الحسن الثاني كان قد عَدَّلَ، في استفتاء 30 ماي 1980، مدة الولاية التشريعية من أربع إِلى سِتِّ سنوات، وذلك بدون تحديد واضح في النّص لِمَا إِذا كان هذا التعديل يَهُمُّ الولاية القائمة أو سيتم تطبيقه في الولاية التشريعية المقبلة.
وانسجاماً مع موقفنا الرافض للتمديد الذي عَبَّرْنَا عنه في الاستفتاء المذكور، ومع قرار اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بانسحاب فريق المعارضة الاتحادية من البرلمان، استَنْتَجْنا بأننا لم نَكُن مَعنيِّين بالتعديل. وتركنا للمكتب السياسي للحزب اختيار المناسبة الملائمة.
أياماً قبل فتح الدورة الجديدة من الولاية التشريعية، أي يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، توجَّهْنَا كأعضاء فريق المعارضة الاتحادية إِلى مكتب رئيس البرلمان وتَقَدَّمْنا فردياً، كلُّ واحدٍ باسْمِهِ، برسالة الاستقالة. وعَبَّر لنا المرحوم الدَّايْ ولد سِيدِي بابا (1921-1983)، بعينَيْن مغرورقتَيْن بالدمع، عن حزنه وأَسَفه العميق قائلاً إنه‏ «‏يُمَاهِي بيننا وبين المؤسسة، وأنه بعد انصرافنا، لن يبقى البرلمان كما كان‏»‏.‏ ولكن الرئيس ولد سيدي بابا لم يُجِبْنَا عن رسائلنا أو يُبْدي من جانبه تفسيراً أو تأويلاً مَّا.
لمَاذَا اخْتَرْنَا صيغة الاستقالة الفردية؟ لأننا عَلِمْنا عَبْر بعض التسريبات (هل كانت عفوية أم ممنهجة؟) بأن السلطات كانت قد اتخذت قرارها بأن الاتحاد الاشتراكي إِذا ما قَرَّرَ كحزب مغادرةَ البرلمان سَيَتِمُّ حَظْرُه. ولحماية الحزب، وأَخذاً بالاعتبار كل الحسابات والمعطيات، قَرَّرْنا أن تكون الاستقالة فردية. ما يعني من الناحية القانونية والمبدئية أن هذه الطريقة ستحمي حِزْبَنا. أما من الناحية السياسية، فيمكن القول اليوم إن هذه الصيغة التي اعتمدناها لَرُبَّمَا سَهَّلَتْ مَهَمَّةَ السلطات التي كان عليها أن تُواجهَ أَشخَاصاً فرادى بدلاً من مواجهة مؤسسة، مع كل ما يَسْتَتْبِعُ ذلك من انعكاساتٍ سلبية على صورة النظام في الدَّاخل وفي الخارج.

وكما أوضحت دوريةُ الاتصال (الصادرة عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي (أظن أن أخَانا عبد الرحمن اليوسفي هو مَنْ كان حَرَّرَها في أعقاب اعتقال الأخ عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه) فإن المسطرة التي اتبعناها في استقالة الفريق البرلماني تتكون من شقَّيْن، سياسي وقانوني.
«أولاً: وضع الانسحاب برُمته في إطار قانوني لتطويق المدلول السياسي للقرار، وذلك استناداً إلى تأويل خاص للفصل 43 من الدستور، وللاستفتاء الذي أُجْري سنة 1980 لتعديله.
«ثانياً: تنفيذ هذا القرار في إطار فردي باعتبار أن النيابة نَفْسَها فردية شخصية. وبناءً على ذلك، فقد قَدَّمَ كل نائب رسالة شخصية فردية يعلن فيها انسحابه من البرلمان على اعتبار أن المدة التي انْتُدب لها كنائب وهي أربع سنوات قد انتهت، وأن الاستفتاء التعديلي الذي أجري إنما يعني البرلمان المقبل.
«وقد قَدَّم النواب الاتحاديون فعلاً رسائلهم بهذا الصدد إلى رئيس المجلس يوم الثلاثاء سادس أكتوبر 1981، فكان ذلك تنفيذاً كاملاً لقرار الحزب».
وماذا وقَعَ بعد ذلك؟ (تضيفُ النشرة الداخلية الحزبية).
وبينما وَضَع النواب الاتحاديون قرار الحزب موضع التنفيذ، وفي إطار قانوني على مجلس النواب، جاء رد الفعل الرسمي على أعلى مستوى في الخطاب الملكي الذي أُلْقي في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة يوم الجمعة تاسع أكتوبر الجاري. وكان الخطاب على المستوى الذي سَمِعَهُ الجميع.
الواقع، لقد كان هناك مَخْرَجٌ للجميع، للحُكْم وللحزب معاً، وذلك بأن يُطْرَحَ السؤال على أنظار الغرفة الدستورية، وهي مؤسسة دستورية أنشئت أساساً لتأويل نصوص الدستور وللبَتِّ في مثل هذه الحالات الخِلاَفية، والتي تصبحُ قراراتُها مُلْزِمةً للجميع كما نعْلَم.
ولكنْ يبدو من جهة السلطات أن الإِرادة كانت جاهزةً لديها دائماً مُبيِّتَة النية لتصفية الحساب مع الاتحاد منذ نشأته. أما من جهة الاتحاد الاشتراكي، فقد ظَلَّ سجيناً لقراره الذي اتَّخذَهُ قبل سنة ونصف في ظروف سياسية لا صِلَة لها تماماً مع الظروف المُسْتَجَدَّة التي تم فيها تنفيذ القرار كما حَلَّلَ ذلك أخونا عبد الرحيم بوعبيد لاحقاً في لقاء بيننا.
القرار بالانسحاب من البرلمان اتُّخِذَ بعد الاستفتاء الذي قاطَعْنَاهُ في 30 ماي 1980، في حين أن التنفيذ لم يأْتِ إِلاَّ في سادس أكتوبر 1981. أكثر من سنة مَرَّتْ، في الوقت الذي شَهِدَت فيه الحياة السياسية تحولاتٍ جذرية عميقة. فقد كانت قيادة الحزب في السجن، والحزب شبه محظور بل والقرارُ بحظره رسمياً كان جاهزاً كسيف ديموقليس فوق الرؤوس، والتطورات التي عَرفَتْها قضية وحدتنا الترابية كانت متسارعة.
باختصار، في يوم الدخول البرلماني لم نَلْتَحِقْ جميعُنا بالبرلمان. وبالنسبة إِليَّ، فقد توجهت بمعية أحمد الحليمي إِلى بيت بوعبيد لمتابَعَةِ الخطاب الملكي بحضور الأخت نجاة بوزيد زوجة سي عبد الرحيم.
استمعنا إِلى الخطاب الملكي، فكان أحد أعنف الخطب التي أَلْقَاها الملك الحسن الثاني. صُعِقْنا بالعبَارَات التي كانت تزداد تهديداً أكبر وأكثر من سابقاتها كلما تَقَدَّم الملك في الخطاب الذي بَدَا أنه كان يُضَخّم ويهوِّل إلى حد أنه قال بأن‏ «‏هذا المشكل أكثر خطورة مما لو فقد المغرب الصحراء‏»‏.‏ وأَضاف بنفس الحدة، بأنه إِذا لم يكن الدستور يمنحه الإِمكانية فإنه سيتصرف بصفته أميراً للمؤمنين ضد أولئك الذين خرجوا من تلقاء أنفُسِهم عن الجماعة والإِجماع الوطني ضاربين بنتائج الاستفتاء على الحائط. وهذا ما يَسْتَحقُّون عليه أَقْسَى عقاب !
وفي ختام الخطاب، بقينا مَذْهُوليْن مستغربَيْن وغادرنا بيت سي عبد الرحيم دون تعليق من جانبي. سَارَعْتُ إِلى الاتصال بأَعضاء الفريق البرلماني لعَقْدِ لقاءٍ للتشاور. وفي المساء، تحت الضغط الذي لا يمكن تَصَوُّرُه من طرف السلطات المحلية والإِقليمية، على مستوى عامل الإِقليم ومساعديه، وبتوجيه من وزارة الداخلية، اضطر محمد بديع العَمْري البرلماني الاتحادي لدائرة العرائش إلى إرسال برقيةٍ إِلى السلطات يتراجع فيها عن استقالته ويَنْأَى بنَفْسِهِ عن فريقنا المتضامن (سيلتحق فيما بعد بحزب الحركة الشعبية).
في تلك اللحظة، أدركتُ الخطورة التي كانت تَتَرصَّدُنا، وفكرتُ في أن لاَ يَبْقَى أعضاء الفريق الاشتراكي معزولين فرادى، كل في دائرته وبالأخص في المدن الصُّغْرى والبوادي. فبَادَرتُ إِلى استدعائهم جميعاً إِلى الرباط لإبعادِهم عن ضغوط السلطات المحلية والإِقليمية.
وفي اجتماعنا الذي عقَدْنَاهُ في بَيْتِي في الرباط، اتَّفَقْنا أولاً على أن لا يَتَّخذَ أيُّ فرد منا قراراً فردياً؛ كلّ قراراتنا ينبغي أن تكون جماعية. وبَدَا أَن هذا القرار الذي اتخذناه مفيداً جدّاً بالنسبة لما سيأتي فيما بعد، فكونُنا بقينا على اتصال، وفي الرباط مع بَعْضِنَا البعض، حال دون أَيَّ اختراق أو تراجع آخر.
ثم جاءت أحداثُ گلْتَة زَمُّورْ في الصحراء، فاستثمر المَلِكُ الفرصة لدعوة البرلمان إِلى عَقْدِ جلسةٍ عامة. وفي انتظار الجلسة التي تم الإِعلان عنها، جَرَى الاتصال بي من طرف الديوان الملكي الذي دعاني إِلى لقاء مع مستشاري جلالة الملك في فاس.
طلبتُ من فتح الله ولعلو وإِبراهيم بوطالب أَنْ يرافقاني إِلى فاس حيث التقينا مستشاري الملك أحمد رضا اگديرة، محمد عواد وأحمد بن سودة. طلبوا منا أن نضعهم في صورة الاستقالة، فشرحنا لهم موقفنا مُلِحِّين أكثر على أن نص التعديل الخاص بتمديد الولاية التشريعية المعروض على الاستفتاء لا ينص على أَن التمديد يهم الولاية الحالية. ومن جهة أخرى، فإِن رسائل الاستقالة لم نتلَقَّ عنها، حتى تلك اللحظة، أَيَّ رد من رئاسة البرلمان ولا تَوَصَّلْنا بأي قرار صادر عن المجلس الدستوري حول الموضوع كان يمكنه أن يوضح لنا طبيعة التعقيد المطروح وإِمكانية التوصل إِلى أفق منصف.
ولم يَفُتْني أن أبدي رأيي في أَن الحلَّ كان ممكناً بالاكتفاء فحسب باللجوء إِلى المجلس الدستوري وطلب رأْيه. كما ذَكَّرْنا مستشاري الملك بموقفنا الحزبي الذي اتخذناه سنة 1980، وأنه سيكون من غير المقبول، من الناحية السياسية، أن يَمُدَّ حزبُنا في عُمْرِ برلمان انبثق عن انتخابات مزَوَّرة.
وفي سياق تبادل الحديث، وصل بي الأَمر حَدَّ القول لمستشاري الملكي بأنهم‏ «‏هم أيضاً، وبصيغةٍ مَّا، مسؤولون عن هذه الأزمة وعن كل ما سبقها من أزمات منذ الاستقلال، وأنهم كنخبة سياسية، لم يدبروا البلاد بما يمنحنا مغرباً موحّداً. وإن جيلهم أعطانا مغرباً منقسماً..‏»‏.‏
في نهاية كلمتي، طَلَبْتُ منهم تسهيل زيارتنا إِلى الأخ عبد الرحيم بوعبيد وإِخوانه من أجل التشاور. ومن جانبهم، فإن مستشاري الملك لم يَرُدُّوا على دُفُوعَاتنا ولا حمَلُوا إِلينا أَيَّ عنصر جديد، وإِنما اكتفوا بأَن قالوا لنا إِن البوليزاريو، مدعوماً من خصومنا، هاجم وقَتَل واختطف عدداً من مواطنينا، وأن هناك تهديداً جدّياً لوحدتنا الترابية، وأن المغرب أكثر من أي وقت مضى في حاجة إِلى أن يكون موحَّداً في مواجهة هذه التهديدات الخطيرة. ووعدنا السيد رضا اگديرة بأن ينظم لنا، في اليوم الموالي، لقاء مع عبد الرحيم.
وقضى القَدَر أن اليوم الذي ذهبنا فيه إِلى فاس صَادَفَ وفاة والدة سي عبد الرحمن اليوسفي في الدار البيضاء حيث التحق عدد وافر من أطر ومناضلي الحزب من مختلف المناطق، وطبعاً لم نكن هناك –نحن الثلاثة- لأننا كنَّا في فاس، وهو ما أَتاح للبعض إِطلاق الإِشاعات بأننا بدلاً من حضور مراسيم الجنازة، ذَهَبْنا إِلى القصر الملكي بفاس لتقديم اعتذارنا!
وفي هذه الظرفية، لم يكن يطغى سوى الجانب العاطفي والذاتي والإِشاعات الزائفة التي كانت تُضَخِّم الأشياء، والتي كان يتم نقلها وترويجُها كما لو كانت الاستنتاجات والافتراضات والافتراءات وقائع حقيقية.
وللأسف، فقد كانت الإِشاعة هي الصيغة التي تم نَقْلُها إلى أخينا عبد الرحيم ورفاقه في أَسْرهم.
بعد عودتنا من فاس وَضَعْنا باقي أعضاء الفريق البرلماني في صورة ما جرى خلال الاجتماع مع مستشاري الملك. وبعد أن نَاقَشْنا مع بعضنا البعض، قررنا بالإِجماع حَلَّ الفريق البرلماني للاتحاد الاشتراكي، وأَن البرلمانيين الاتحاديين كأَفراد –بالنظر إِلى مستجدات الوضع في الصحراء المغربية- سيحضرون، بصفة فردية مؤقتة طالما كانت الاستقالات فردية، الجلسة المسائية للبرلمان المخصصة لمناقشة العدوان على گلتة زَمًّورْ، على أن نقاطع الاجتماعات إِلى أن نلتقي عبد الرحيم ورفاقه.
في البرلمان، لم نجلس في المكان الذي اعتدنا الجلوس فيه، ولم نتناول الكلمة لنسجل أننا لم نَعُد ناطقين باسم الاتحاد الاشتراكي. ولم يكن موقفنا هذا ليعجب السلطات.
عند الخروج من البرلمان، اقترب مني أحد مسؤولي الأمن، بلباسٍ مدني، ونَبَّهني إِلى أَنهم يفكرون في اعتقالنا، واختفى. كان إِدريس البصري لا يزال قريباً مني فقلتُ له:‏ «‏نحن نعرف أنكم تفكرون في اعتقالنا‏»‏.‏ ولم يكُن له من جواب سِوَى القول‏: «‏شْكُونْ قَالْهَا لك؟ وفينْ هو؟‏»‏.‏ وعلى الفور، طلبتُ من أعضاء الفريق البرلماني الاتحادي الالتحاق ببيْتِي فوراً لتقييم الوضع على ضوء ما وَقَع.
وظل رجال الأمن خلفنا إِلى أن وصلنا، واكتشفنا أن الأخوين فتح الله ولعلو والمدني عياش لم يلتحقا بنا، إذْ لم يتمكن أحد من إِخبارهما. فتح الله التحق ببيته بينما ذهب المدني إلى غرفته في فندق روايال. كنا عشرة برلمانيين في البيت. وما إِن تأكد رجال الشرطة من أننا اجتمعنا، حتى قاموا بتطويق البيت. ثم طرقوا الباب وأبلغوني رسميّاً بأننا في إِقامة إِجبارية، ما يعني أننا لم يَعُد لنا الحق لا في الخروج ولا في استقبال أي أحد. وبعد ذلك، اقتحموا البيت ونزعوا الخيوط الهاتفية في الطابق السفلي وحتى في الطابق العلوي، وذلك بدون أن يُعيرُوا انتباهاً إِلى حالة الهلع التي تركها عبُورُهم داخل البيت في نفسيات الأطفال.
وبعد لحظات من انصرافهم، عاد بعض أفراد الشرطة مُجدَّداً وقَامُوا بتثبيت سمَّاعة هاتف وحيدة بعد أن‏ «‏خَدَمُوها‏»‏ ‏قصد تسهيل التنصُّت.
في صباح اليوم الموالي، لم يَعُد فقط لقاؤنا مع عبد الرحيم (في سجنِ لَعْلُو في الرباط) متاحاً بل كانوا أيضاً قد اقتادُوهُ ورفَاقَهُ بعيداً إِلى مدينة ميسور (تبعُد بحوالي 400 كلم عن الربـاط وحوالـي خمس ساعـات –آنذاك- ذهاباً ومثلها إِياباً) حيث ظلوا هناك إِلى حين إِطلاق سراحهم في إِثْر صدور عفوٍ ملكي، وذلك دون أن يتاح لنا لا لقاؤهم ولا هُمْ كذلك.
فيما يخصُّنا نحن، لم يَجدُوا ما بِهِ يتَابِعُونَنَا. وفي ظرف أسبوعَيْن، انْسحَب رجالُ الشرطة. واسترجعنا حرية تَنَقُّلنا، وعاد إِخواني البرلمانيون إلى بيوتهم ومُدُنِهِم وبَقيَ من بَقيَ منا في الرباط.
فيما بعد، قَرَّرْنا أن نتنازل عن المهام التي كانت لدينا كفريقٍ برلماني داخل مكتب المجلس، وفي اللجن، وحتى في الدبلوماسية البرلمانية. واتفقنا فيما بيننا أَلاَّ نتناول الكلمة إِلاَّ إذا تَعلَّقَ الأَمرُ بمناقشة قضية الصحراء المغربية والقوات المسلَّحة المرابطة في الصحراء، وبكلِّ ما يَتَعَلَّق بملف وحدتنا الترابية.
سيقول أخونا عبد الرحمن بنعمرو في تصريح له للصحافة آنذاك، إِنه زار عبد الرحمن اليوسفي، بمعية مجموعة من المناضلين، ليستفسره‏ «‏حول ما ينبغي أَن نقوم به تُجَاهَ البرلمانيين الاتحاديين‏»‏.‏ وحسب بن عمرو، فقد أجابه سي عبد الرحمن بأن البرلمانيين‏ «‏نَفَّذُوا مقتضيات التزامهم الحزبي كاملةً، ذلك لأنهم جميعاً وَضَعُوا رسائل استقالتهم ونفذوا القرار. أما ما حَدث بعد ذلك فهو أمر آخر‏»‏.‏
وكانت دورية الاتصال الصادرة عن المكتب السياسي لحزبنا (التي سَبَقَتِ الإِشارة إِليها) قد أكدت «على جملة من الحقائق الهامة بصدد هذه القضية وأَوضاعها وملابساتها المحيطة رفعاً لكل التباس» (ص. 3):
«وهي أَن قرار الاتحاد بالانسحاب من البرلمان، الذي وُكِّلَ إِلى المكتب السياسي أَمْرَ تَنْفيذِهِ مصحوباً بالصلاحية الكاملة في اختيار الزمان والظرف والصيغة والأسلوب، قد نُفِّذَ بكامله دون تردد ولا تَلَكُّؤ، وفي الوقت المناسب والظرف الملائم. ونَفَّذَهُ النواب وفق الخطة المرسومة والأسلوب المُقَرَّر. كما أن تنفيذ القرار أعطى مفعوله السياسي التام، ونتائجه الإيجابية الكاملة في المحيط السياسي وعلى جميع المستويات».
وأظن أن الزوار الذين كان مسموحاً لهم بالتردد على أَسْرَانا في ميسور لم يكونوا يتوفرون على جميع المعطيات والمعلومات الخاصة بالفريق البرلماني الاتحادي، فقد كانوا ينقلون ما كان رائجاً من حولهم من إشاعات. وللأسف، لم يطلب منا أحد منهم المعطيات كما هي ولا حضر أحدهم أو بعضهم اجتماعاً من اجتماعاتنا للاطلاع مُبَاشَرةً على الوقائع الحقيقية باستثناء المرحوم محمد بوزوبع الذي كان مُطَّلِعاً نسبيّاً على حقائق الأَشياء، هو الذي بذل مجهوداً ملحوظاً في التوضيح وإِنْ ظَلَّ جُهْدُهُ محدوداً.
وكان أَسْرَى ميسور، الذين أتيح لهم هناك وقتٌ كافٍ للقراءة، يطلبون كُتباً وعناوينَ مخصوصة. وللاستجابة لرغباتهم، أَذْكُر أنني كنتُ أبعث إِليهم بكُتُبٍ قديمةٍ نادرة على أَمل أن أسترجعها عند مغادرتهم سِجْنَ ميسور. ولكنَّني عَلِمْتُ أن الكتب التي تدخل السجن لم تكن تُغَادِرُه، وأنها تبقى مبدئياً في مكتبات السجون.
وعند خروجه من السجن، كانت لي المناسبة للحديث رَأْساً لرأس مع أخينا سي عبد الرحيم حول هذا الموضوع. وبعد أن وضعته، وبتفصيل، في صورة كُلِّ ما حَدَثَ، قال لي:‏ «‏لقد كانت السلطات تعرف ما تفعل حينما حَالَتْ دون أن تقوموا بزيارتي، على ضوء الظرفية والمعطيات الجديدة، لأنني كنتُ سأَدْعُوكُم إِلى العودة وحضور الجلسة الخاصة بالوحدة الترابية دون أدنى شك‏»‏.‏
وتَجدُر الإِشَارَةُ إِلى أن الأجهزة الحزبية الوطنية لم تَعُد مطلقاً إِلى فتح هذا الموضوع. ولعل عبد الرحيم آثَرَ أَن يُطْوَى الملف كي لا نعود إِلى مناقشات أو دُفُوعاتٍ كانت قد تُجُووزتْ عمليّاً، وإِنْ كنتُ جاهزاً لها.


بتاريخ : 19/05/2023