الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته -42- حين اتهم الحسن الثاني حزب الاتحاد بالخروج عن الجماعة!

ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان ” المغرب الذي عشته ” عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…

أوضحت دوريةُ الاتصال (الصادرة عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي (أظن أن أخَانا عبد الرحمن اليوسفي هو مَنْ كان حَرَّرَها في أعقاب اعتقال الأخ عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه) فإن المسطرة التي اتبعناها في استقالة الفريق البرلماني تتكون من شقَّيْن، سياسي وقانوني.
«أولاً: وضع الانسحاب برُمته في إطار قانوني لتطويق المدلول السياسي للقرار، وذلك استناداً إلى تأويل خاص للفصل 43 من الدستور، وللاستفتاء الذي أُجْري سنة 1980 لتعديله.
«ثانياً: تنفيذ هذا القرار في إطار فردي باعتبار أن النيابة نَفْسَها فردية شخصية. وبناءً على ذلك، فقد قَدَّمَ كل نائب رسالة شخصية فردية يعلن فيها انسحابه من البرلمان على اعتبار أن المدة التي انْتُدب لها كنائب وهي أربع سنوات قد انتهت، وأن الاستفتاء التعديلي الذي أجري إنما يعني البرلمان المقبل.
«وقد قَدَّم النواب الاتحاديون فعلاً رسائلهم بهذا الصدد إلى رئيس المجلس يوم الثلاثاء سادس أكتوبر 1981، فكان ذلك تنفيذاً كاملاً لقرار الحزب».
وماذا وقَعَ بعد ذلك؟ (تضيفُ النشرة الداخلية الحزبية).
وبينما وَضَع النواب الاتحاديون قرار الحزب موضع التنفيذ، وفي إطار قانوني على مجلس النواب، جاء رد الفعل الرسمي على أعلى مستوى في الخطاب الملكي الذي أُلْقي في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة يوم الجمعة تاسع أكتوبر الجاري. وكان الخطاب على المستوى الذي سَمِعَهُ الجميع.
الواقع، لقد كان هناك مَخْرَجٌ للجميع، للحُكْم وللحزب معاً، وذلك بأن يُطْرَحَ السؤال على أنظار الغرفة الدستورية، وهي مؤسسة دستورية أنشئت أساساً لتأويل نصوص الدستور وللبَتِّ في مثل هذه الحالات الخِلاَفية، والتي تصبحُ قراراتُها مُلْزِمةً للجميع كما نعْلَم.
ولكنْ يبدو من جهة السلطات أن الإِرادة كانت جاهزةً لديها دائماً مُبيِّتَة النية لتصفية الحساب مع الاتحاد منذ نشأته. أما من جهة الاتحاد الاشتراكي، فقد ظَلَّ سجيناً لقراره الذي اتَّخذَهُ قبل سنة ونصف في ظروف سياسية لا صِلَة لها تماماً مع الظروف المُسْتَجَدَّة التي تم فيها تنفيذ القرار كما حَلَّلَ ذلك أخونا عبد الرحيم بوعبيد لاحقاً في لقاء بيننا.
القرار بالانسحاب من البرلمان اتُّخِذَ بعد الاستفتاء الذي قاطَعْنَاهُ في 30 ماي 1980، في حين أن التنفيذ لم يأْتِ إِلاَّ في سادس أكتوبر 1981. أكثر من سنة مَرَّتْ، في الوقت الذي شَهِدَت فيه الحياة السياسية تحولاتٍ جذرية عميقة. فقد كانت قيادة الحزب في السجن، والحزب شبه محظور بل والقرارُ بحظره رسمياً كان جاهزاً كسيف ديموقليس فوق الرؤوس، والتطورات التي عَرفَتْها قضية وحدتنا الترابية كانت متسارعة.
باختصار، في يوم الدخول البرلماني لم نَلْتَحِقْ جميعُنا بالبرلمان. وبالنسبة إِليَّ، فقد توجهت بمعية أحمد الحليمي إِلى بيت بوعبيد لمتابَعَةِ الخطاب الملكي بحضور الأخت نجاة بوزيد زوجة سي عبد الرحيم.
استمعنا إِلى الخطاب الملكي، فكان أحد أعنف الخطب التي أَلْقَاها الملك الحسن الثاني. صُعِقْنا بالعبَارَات التي كانت تزداد تهديداً أكبر وأكثر من سابقاتها كلما تَقَدَّم الملك في الخطاب الذي بَدَا أنه كان يُضَخّم ويهوِّل إلى حد أنه قال بأن‏ «‏هذا المشكل أكثر خطورة مما لو فقد المغرب الصحراء‏»‏.‏ وأَضاف بنفس الحدة، بأنه إِذا لم يكن الدستور يمنحه الإِمكانية فإنه سيتصرف بصفته أميراً للمؤمنين ضد أولئك الذين خرجوا من تلقاء أنفُسِهم عن الجماعة والإِجماع الوطني ضاربين بنتائج الاستفتاء على الحائط. وهذا ما يَسْتَحقُّون عليه أَقْسَى عقاب !
وفي ختام الخطاب، بقينا مَذْهُوليْن مستغربَيْن وغادرنا بيت سي عبد الرحيم دون تعليق من جانبي. سَارَعْتُ إِلى الاتصال بأَعضاء الفريق البرلماني لعَقْدِ لقاءٍ للتشاور. وفي المساء، تحت الضغط الذي لا يمكن تَصَوُّرُه من طرف السلطات المحلية والإِقليمية، على مستوى عامل الإِقليم ومساعديه، وبتوجيه من وزارة الداخلية، اضطر محمد بديع العَمْري البرلماني الاتحادي لدائرة العرائش إلى إرسال برقيةٍ إِلى السلطات يتراجع فيها عن استقالته ويَنْأَى بنَفْسِهِ عن فريقنا المتضامن (سيلتحق فيما بعد بحزب الحركة الشعبية).
في تلك اللحظة، أدركتُ الخطورة التي كانت تَتَرصَّدُنا، وفكرتُ في أن لاَ يَبْقَى أعضاء الفريق الاشتراكي معزولين فرادى، كل في دائرته وبالأخص في المدن الصُّغْرى والبوادي. فبَادَرتُ إِلى استدعائهم جميعاً إِلى الرباط لإبعادِهم عن ضغوط السلطات المحلية والإِقليمية.
وفي اجتماعنا الذي عقَدْنَاهُ في بَيْتِي في الرباط، اتَّفَقْنا أولاً على أن لا يَتَّخذَ أيُّ فرد منا قراراً فردياً؛ كلّ قراراتنا ينبغي أن تكون جماعية. وبَدَا أَن هذا القرار الذي اتخذناه مفيداً جدّاً بالنسبة لما سيأتي فيما بعد، فكونُنا بقينا على اتصال، وفي الرباط مع بَعْضِنَا البعض، حال دون أَيَّ اختراق أو تراجع آخر.
ثم جاءت أحداثُ گلْتَة زَمُّورْ في الصحراء، فاستثمر المَلِكُ الفرصة لدعوة البرلمان إِلى عَقْدِ جلسةٍ عامة. وفي انتظار الجلسة التي تم الإِعلان عنها، جَرَى الاتصال بي من طرف الديوان الملكي الذي دعاني إِلى لقاء مع مستشاري جلالة الملك في فاس.
طلبتُ من فتح الله ولعلو وإِبراهيم بوطالب أَنْ يرافقاني إِلى فاس حيث التقينا مستشاري الملك أحمد رضا اگديرة، محمد عواد وأحمد بن سودة. طلبوا منا أن نضعهم في صورة الاستقالة، فشرحنا لهم موقفنا مُلِحِّين أكثر على أن نص التعديل الخاص بتمديد الولاية التشريعية المعروض على الاستفتاء لا ينص على أَن التمديد يهم الولاية الحالية. ومن جهة أخرى، فإِن رسائل الاستقالة لم نتلَقَّ عنها، حتى تلك اللحظة، أَيَّ رد من رئاسة البرلمان ولا تَوَصَّلْنا بأي قرار صادر عن المجلس الدستوري حول الموضوع كان يمكنه أن يوضح لنا طبيعة التعقيد المطروح وإِمكانية التوصل إِلى أفق منصف.
ولم يَفُتْني أن أبدي رأيي في أَن الحلَّ كان ممكناً بالاكتفاء فحسب باللجوء إِلى المجلس الدستوري وطلب رأْيه. كما ذَكَّرْنا مستشاري الملك بموقفنا الحزبي الذي اتخذناه سنة 1980، وأنه سيكون من غير المقبول، من الناحية السياسية، أن يَمُدَّ حزبُنا في عُمْرِ برلمان انبثق عن انتخابات مزَوَّرة.
وفي سياق تبادل الحديث، وصل بي الأَمر حَدَّ القول لمستشاري الملكي بأنهم‏ «‏هم أيضاً، وبصيغةٍ مَّا، مسؤولون عن هذه الأزمة وعن كل ما سبقها من أزمات منذ الاستقلال، وأنهم كنخبة سياسية، لم يدبروا البلاد بما يمنحنا مغرباً موحّداً. وإن جيلهم أعطانا مغرباً منقسماً..‏»‏.‏
في نهاية كلمتي، طَلَبْتُ منهم تسهيل زيارتنا إِلى الأخ عبد الرحيم بوعبيد وإِخوانه من أجل التشاور. ومن جانبهم، فإن مستشاري الملك لم يَرُدُّوا على دُفُوعَاتنا ولا حمَلُوا إِلينا أَيَّ عنصر جديد، وإِنما اكتفوا بأَن قالوا لنا إِن البوليزاريو، مدعوماً من خصومنا، هاجم وقَتَل واختطف عدداً من مواطنينا، وأن هناك تهديداً جدّياً لوحدتنا الترابية، وأن المغرب أكثر من أي وقت مضى في حاجة إِلى أن يكون موحَّداً في مواجهة هذه التهديدات الخطيرة. ووعدنا السيد رضا اگديرة بأن ينظم لنا، في اليوم الموالي، لقاء مع عبد الرحيم.
وقضى القَدَر أن اليوم الذي ذهبنا فيه إِلى فاس صَادَفَ وفاة والدة سي عبد الرحمن اليوسفي في الدار البيضاء حيث التحق عدد وافر من أطر ومناضلي الحزب من مختلف المناطق، وطبعاً لم نكن هناك –نحن الثلاثة- لأننا كنَّا في فاس، وهو ما أَتاح للبعض إِطلاق الإِشاعات بأننا بدلاً من حضور مراسيم الجنازة، ذَهَبْنا إِلى القصر الملكي بفاس لتقديم اعتذارنا!
وفي هذه الظرفية، لم يكن يطغى سوى الجانب العاطفي والذاتي والإِشاعات الزائفة التي كانت تُضَخِّم الأشياء، والتي كان يتم نقلها وترويجُها كما لو كانت الاستنتاجات والافتراضات والافتراءات وقائع حقيقية.
وللأسف، فقد كانت الإِشاعة هي الصيغة التي تم نَقْلُها إلى أخينا عبد الرحيم ورفاقه في أَسْرهم.
بعد عودتنا من فاس وَضَعْنا باقي أعضاء الفريق البرلماني في صورة ما جرى خلال الاجتماع مع مستشاري الملك. وبعد أن نَاقَشْنا مع بعضنا البعض، قررنا بالإِجماع حَلَّ الفريق البرلماني للاتحاد الاشتراكي، وأَن البرلمانيين الاتحاديين كأَفراد –بالنظر إِلى مستجدات الوضع في الصحراء المغربية- سيحضرون، بصفة فردية مؤقتة طالما كانت الاستقالات فردية، الجلسة المسائية للبرلمان المخصصة لمناقشة العدوان على گلتة زَمًّورْ، على أن نقاطع الاجتماعات إِلى أن نلتقي عبد الرحيم ورفاقه.


بتاريخ : 20/05/2023