إلى مصطفى جباري
الرجل:
الصمت موحش كما في خلاء مظلم ، ولم يكن أحد في البيت سوى ذلك الرجل المتقاعد الذي ماتت زوجته بسرطان الثدي ، يتابع برنامجا تافها على الشاشة الصغيرة.
فجأة افتض الصمت الموحش عواااااء البرد ، ومواااااء قطة في السطح،و.. انفتح شباك النافذة بعنف ، ليتسلل للغرفة الدافئة برد قارس ،ولينقطع التيار الكهربائي، ثم ريثما يعود.
سقط شيء ما في المطبخ ، والبرد يصفع بجنون دفتي الشباك.
أحكم الرجل القصير إغلاق الشباك ، بعدما أطل على الزقاق الذي بدا له ضيقا ، ساكنا،مظلما ، وكما لو كان ملفوفا في كتانة كحلة ،ثم عاد لمكانه ليتابع أخبار النشرة الأخيرة.
ملأت مخيلته في لحظة ما، صورة ثدي زوجته وقد نخره الداء الوبيل، التفت بهدوء ، فوقع نظره على صورتها معلقة على الجدار، بقي ينظر إليها صامتا، كان شعرها الأشقر مقصوصا باعتدال ، وكان صدرها منتفخا كالبالون.
تهشم صحن ما في المطبخ ، هكذا خمن الرجل ، وقد يكون تهشم بالفعل، انقطع الكهربائي ثانية ، انفتح الشباك بعنف ثانية .وعاد الظلام للغرفة ثانية. التيار
الرجل المتقاعد يشعر الآن بانزعاج خفي يتسلل إليه، عاد التيار الكهربائي، انفتح الباب من تلقاء نفسه ، نظر لعقربي ساعة الحائط ، لعقربي ساعة معصمه ، كانت متوقفة، سقطت صورة المرحومة ، تناثر زجاجها على أرضية الغرفة ، قام الرجل ليغلق باب الغرفة والنافذة ، محاولا أن يدفع عنه تهمة الخوف ، وحين هم بإغلاق الشباك وصل إليه مواااااااءالقطة ، وكان ثمة مطر يهطل في الخارج.
القطة:
القطة التي تتكوم على نفسها في السطح ، تحت السماء السوداء ، نظراتها تائهة في فضاء غير محدود ، تتلمظ طعم الفأر الذي نشبت فيه أنيابها العتيقة ، وافترسته على مهل قبل قليل.
تحرك البرد، اقشعر جلد القطة، سقط شيء ما في السطح المجاور ، وانتبهت القطة على قلبها يدق بسرعة، أرهفت أذنيها، وسقط شيء ما ثانية في نفس السطح ، لتطلق موووووواء عاليا.
حينها كان الرجل القصير جالسا بانكماش على مقعد قريب من الشاشة الصغيرة ، وقد جلب له قبل هنيهة كوب شاي من المطبخ ،وتأمل كأسا وصحنا مهشمين على الأرض ، وقد عرش شعر رأسه من الفزع.
توقف عواء البرد، وتوقفت مواء القطة، التي عادت تتأمل بعينين لامعتين نور نجمة صغيرة هناك في السماء.
بغتة ، سمعت القطة خشخشة ما في الجدران الوسخة ، لتتسع حدقتا عينيها حتى كاد بؤبؤاها يسقطان ويتدحرجان كالبلي الحليبي الذي يعشقه الأطفال ،بعدها بدأت إشعاعات ضوء خاطفة ، وتلتها أصوات الرعد.
القطة والرجل:
أحس الرجل المتقاعد ذو اللحية البيضاء التي تتخللها صفرة قاتمة ، بقشعريرة تتسكع في رجليه النحيلتين ، سحب اللحاف إليهما بقلق وتملظ فمه، كان ناشفا، احتسى جرعة شاي، ليلدغه طعمها المر.
الرجل أحس بارتباك وبانقباض في صدره ، بدت له الغرفة كئيبة وموحشة ، فخطر له أن يصعد السلم إلى السطح ، ليفتح الباب للقطة التي يشق موووواؤها الجدران ، فقد تؤنسه ، وقد يؤنسها.
كما خطر للقطة أن تقمش باب السطح ، فقد ينفتح الباب ، وقد تتلذذ بدفء الغرفة، وتتلمظ لذاذة الصراصير.
صعد الرجل القصير الدرج ، فتح باب السطح ، فدخلت القطة بين رجليه متمسحة ، حملها بين ذراعيه ، قبلها ، ونزل الدرج وهو يخلل ظهرها بأصابعه ، والقطة ترتعش.
كان المطر في الخارج يهطل بغزارة.
كانت القطة تنام على الكرسي.
وكان الرجل القصير قد وضع نظارتيه فوق التلفاز ، و أطفأ المصباح ، ثم استرخى على السرير مطمئنا.
وكانت عقارب الساعتين تتكتك… تك .. تك ..تك .. ت..ك..ت