«  الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية» لمحمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي .. جدل الذاتي والموضوعي في بناء صورة الآخر

مهداة الى الاستاذ الفاضل هشام داني -كلية الادب والعلوم الانسانية – فاس سايس-

شكل أدب الرحلة أحد الأجناس الأدبية التي تنطلق من الذات كالمُذكِّرات واليوْمِيَّات والسِّيرة الذَّاتيَّة ومحكي الطُّفُولة، باعتبارها سِجِلًّا إثْنوغرافيًّا [1] يعمل على رصد أنساق الشعوب الثقافية عبر الجمع بين الكتابة الادبية و التَّأريخيَّةِ.
كما عمل أدبِ الرِّحْلَةِ أيضا من خلال السفريات المنجزة الى الغرب على محاولةً للوقوفِ على أسبابِ تقدُّمِ و اِزْدهار الآخر الغربي و بَحْثًا عن إجابات للأسْئِلةِ الَّتي أرَّقتْ هاجسَ العربيِّ حوْلَ سِرِّ تقدَّم هذا الآخر وتفوُّقهِ في مُقابل تراجع الذَّات العربيَّة المسلمة وتقهقرها. فالسفر وكما يرى فرانك ميشال فهو العبور من الذات نحو الآخر”. [2] مما يشكل انبثاقا عن إحساس بالأنا بالمقارنة مع الآخر، وهي بذلك تصبح تعبيرا أدبيا عن رؤية تجمع بين منظومتين من واقعين ثقافيين مختلفين في جميع الشروط الذاتية والموضوعية .
وتعد رحلة أبي الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي نحو إنجلترا «الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية» نموذجا لنص يحتوي على رصيد معرفي يرصد العلاقة مع الاخر وتبرز صورته من منظور إحدى نخب تلك المرحلة، وهي رحلة تأتي في سياق تاريخي لوضع أسس جديدة للعلاقات الاقتصادية والعسكرية نتيجة الهزائم المتتالية للقوات المغربية وخاصة مباشرة بعد هزيمة إيسلي العسكرية ، واحتلال الجزائر 1830، فكانت الرحلات السفارية مرجعا توثيقيا أيضا يتم اعتماده من أجل رؤية إصلاحية « فجميع محاولات الإصلاح التي شهدها المجتمع المغربي بعد معركة إيسلي ، وتلك التي بدأها سيدي محمد بن عبد الرحمن ، وتابعها مولاي الحسن الأول رحمهما الله ، كانت نتيجة لكل هذه الكتابات الكثيرة التي كان يضعها كتاب السفارات في الرحلات التي يؤلفونها، وفي التقارير التي كانوا يرفعونها للمسؤولين. [3] وهي السنة التي أرسل فيها السلطان بعثة أخرى إلى فرنسا بقيادة الوزير الكاتب إدريس بن محمد بن إدريس العمراوي.
فبثقافة فقهية بسيطة، وبلغة تنهل من القاموس الشعبي تتداخل معها كلمات من قاموس لغوي أجنبي يعيد صياغتها بشكل محرف، ويغلب عليها بشكل واضح الطابع الديني يعمل أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي على إبراز تجليات رحلته ومشاهداته وهو يدخل طنجة التي يصفها بدار الإسلام ، قبل الوصول الى لندن أو بلاد اللندريز والتي كانت تحضر في لاوعيه الجمعي على أنها دار للكفر التي كان لا يتم الوصول إليها إلا عن طريق الجهاد ، منبهرا باكتشاف قوة الدولة البريطانية من خلال التكنولوجيا، والجيش المنظم، وريادة الطبقة البورجوازية وفي رحلة بحرية مدهشة عبر «بابور البر» الذي يخترق الجبال الوعرة ويختزل المسافات الطوال في أقرب مدة، و«السلك» الذي ينقل الأخبار والأقوال والأفكار بين الناس مهما نأت ديارهم في لملح البصر.
لقد كان محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي بارعا في وصف مظاهر حداثة الدولة الليبرالية الإنجليزية من خلال البنيات التحتية والمنجزات كالسفينة البخارية والسكك الحديدية والباروميتر، واستعراض الجيش ومناورة حربية ومعامل السلاح والخشب والزجاج والتلغراف والغراسة بالتسخين الصباغي في حظائر مسقفة تنتج فواكه وخضر وميزان الطقس ومظاهر العمران والبناء مما «يذهل ذهن العاقل ويستريب فيه السامع والناقل « [4] ،مبرزا أن السر يكمن في الطاقة البخارية .
من السياقات التي تحكم الرؤية الموضوعاتية للرحلة، ثنائية الكفر والإيمان والتي تحضر بقوة في إيجاد تبرير لما يوجد عليه الآخر، وذلك بنعت محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي أهل الانجليز ب» الكفار»، فهو مسلم ينتمي إلى دار الإسلام وسفره هذه المرة لبلاد الكفار لمهمة سفارية دبلوماسية ، فقبطان السفينة التي سافر فيها مثلا لم تشفع له أخلاقه وأدبه مع الكاتب ، متمنيا لوا أنه كان مسلما وأن ما وصلت إليه إنجلترا من المخترعات و المستحدثات التكنولوجية التي تعتمد عليها الحضارة الإنجليزية، لا قيمة لها في نظر محمد بن الطاهر الفاسي لأن الله سخر لهم الأشياء مع اتباعهم الأهواء ، ذلك نصيبهم وحظهم وفيه إشارة إلى أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة »[ 5] ، وهي ميزة شكلت مرجعا بارزا في المحكي الرَّحلي العربي والإسلامي، التي لا ترى في الغرب من الناحية الدينية إلا عدُوًّا مارقًا خارجًا عن المِلَّةِ، تحدده نسقية معجمية محددة منها «الصَّليبيُّون، المُشركون، الكافِرون، الوثنيُّون ودارهُم دار حَرْبٍ. أمَّا من الناحية السِّياسية فهَي مجتمعات وضيعةٌ لا مُسْتقرَّ فيها للرُّوحانيَّةِ، ثم إن استعمار المغرب . لا يعود إلى أسباب داخلية مغربية بحتة، بل يعود في نصيب كبير منه إلى هذا الآخر»،[6]
إن حضور الآخر في تصور محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي بشكل سلبي، جاء كانعكاس مقارن بين ما يشكل وجوده كعربي مسلم له ثقافة محددة ودين معلوم، إلى جانب ما حصله من مشاهدات وما كونه من صور عن الآخر المتعدد، في مقارنته مع البيئة التي ينتمي إليها.
إن العلاقة مابين الذاتي والموضوعي في بناء صورة الآخر في رحلة محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي، وهي صورة لم تكن صورة نمطية أو قبلية وجاهزة، وإنما تأسست نتيجة الاحتكاك معه ومعرفته عن قرب، تأتي من مفارقة لا تعكس من الناحية الموضوعية إلا بناء صورة إيجابية تمثلت في تميزه الحضاري والعلمي والثقافي، وهو ما نتج عنه نوع من الانبهار والإعجاب والاندهاش بمنجزاته وبسلوكه، فيه نوع من الإقرار بعجز الأنا لكن من الناحية الذاتية تتدخل المرجعية الدينية والفقهية من أجل تبخيسه لأنه لا يساوي شيئا ما دامت الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن كما نجد في الادبيات الفقهية السلفية، بل هو يرجع كل ذلك إلى القدرة الإلهية وتكون بذلك النتيجة النهائية هي صدام بين الأنا والآخر جعله في بعض المرات يدعو عليهم يقول وهو ما ليس من أخلاق الإسلام « والحاصل أنهم – دمرهم الله – يستعملون أشياء تدهش «،[7] بل إنه يتمادى في ذلك، حيث يقول «فالأمر لله نعوذ بالله من شرورهم وشرور غيرهم وجعل كيدهم في نحورهم ، آمين» . [8]

الهوامش:

Frank Michel, Désirs d’ Ailleurs, Québec, les presses de l’Université Laval, 2004, p.19, cité par Tania-1
.-2ابراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الجزء 3- م، مذكور، ص 255
.-3 محمد بن ادريس العمراوي ، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، تقديم وتعليق زكي مبارك ، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع طنجة 1989، ص86.
محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية-م. مذكور- ص 19
.- 5محمد بن ادريس العمراوي ، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، تقديم وتعليق زكي مبارك ، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع طنجة 1989، ص86
-6 محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية-م. مذكور- ص 19
نفسه : ص28
نفسه 28


الكاتب : ذ. محمد دخاي

  

بتاريخ : 08/01/2021