الروائي الرائد مبارك ربيع:المخلص لرواية واقعية متجددة

 

كيف تَكتب قصة، تصنع روايةً عن حدث واقعيٍّ صرفٍ وتام، وبشخصياتٍ وملابساتٍ حقيقيةٍ، أيضا، ولو وُضعت في قوالب كنائية وصور استعارية؟ إن ما يعلَمه الروائيون المحترفون، حقا، لا الهواة والعابرون لهذا الفن، أن الرواية وُلدت ونمت من قلب الواقع منبثقةً من بنياتِه المادية والشروط الموضوعية الكلية لمجموعات بشرية في أوضاع محددة، لا ميتافيزيقة ولا وهمية. وهي ظلت تتطور وتُغيّر لبوسَها وتُحوِّل أنهُجها دائماً وفق إواليات الواقع، حادثاً ومشهوداً ومتوارياً أيضا وراء حُجُبٍ، إمّا عينيةٍ أو كامنةٍ في أغوار النفس. هذا لا يعني أنها انعكاسٌ حرفيٌّ له ولا استنساخٌ لطبقاته السطحية وسرودُها محكياتٌ قِشريةٌ له، والمدرسة الواقعيةُ المزدهرةُ بقوةٍ كما جسّدها أونوريه دي بلزاك (1799ـ1850) ترسم ما نُعت ب» الكوميديا البشرية» مقابل الكوميديا الإلهية لدانتي، قدمت نماذجَ افترضت أنها تمثيلٌ لمجتمعٍ ورامزةٌ لطباعِ أفرادٍ وصراعاتٍ ومصالحِ تياراتِ مرحلة، أي أنها مُنمذجةٌ من خيال وصناعة كاتب بصير فَهِم مجتمعَه ووعَى تحولاتِه وببصيرته صنعَ واقعه الخاص، الذي جاء نقادُ الأدب واصطلحوا على تسميته بالتخييلfiction هنا مربط فرس هذا الجنس الأدبي، يوجد أو ينعدم.
إذا توافقنا على هذا الطرح النظريّ المجمَل، فإن مبارك ربيع(1935ـ) وهو الرّوائيُّ والقاصُّ المغربيُّ الرائدُ في هذه الكتابة في أدب المغاربة منذ منتصف الستينات، ذهب، ومرة أخرى، يواجه التحدي الذي لا بد أن يلاقي كلَّ روائيٍّ يتخذ من هذا الفن عُملته الذهبيةَ ومشروعَ أدبه. وربيع، بعد عبد الكريم غلاب(1919ـ2017) صاحب « دفنا الماضي»(1966)، هو المؤسس الثاني للرواية المغربية، للقصة القصيرة أيضا بمجموعته «سيدنا قدر»(1969)، ومنذ الستينات وهو مثابرٌ في الإبداع السردي متراوحٌ بين القصير والطويل الذي أصبح عنده التعبيرَ الأدبيَّ الأولَ أنتج فيه على مدى خمسة عقود أزيدَ من عشر روايات، أبرزها تمثيلا لنهجه ورؤيته « الطيبون»(1972)؛» الريحُ الشتوية»(1077)؛» بدر زمانه»؛» درب السلطان»(2000) انتهاءً بالعمل الأخير الذي بين أيدينا» أبيض وأسود»( المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022).
ذهب مبارك ربيع يواجه تحدّي تصويرِ الحياةِ الواقعيةِ الماثلةِ أمام عينيه في مظاهرَ اجتماعية وأوضاعٍ بشرية الأفرادُ فيها نواةٌ وبؤرةُ محيطٍ متنازعٍ بين الحاجات والرغبات وطموحِ الانتصارِ على الأزمات في مجتمع يرصُده الكاتب يتحول من البادية إلى المدينة والكائنُ بداخله يتحسّس موقعه في طبقة وسطى تتبلور منذ الستينات وتصبح متاعبُها شاغلَ الرواية ومسرَحها. سلخ ربيع عمْراً يرصد أهمّ التحولات الاجتماعية والمصائر الفردية الموتورة ضمن مسارات جماعية بما يجعل من رواياته شهاداتٍ ناصعة وقابلةٍ لتُدرَس من منظور سوسيولوجيا الأدب وثيقةً مضاعفةً عن مغرب بل عالمٍ عربيٍّ لما بعد الاستعمار وولادة أجيال تعاني من أجل غد. لم يكتف بهذا، تجاوزَ الرصدَ الواقعيَّ ولقَّحه بروافدَ من المخيال الشعبي وبرؤيةٍ استعاريةٍ رمزيةٍ حيث زاوج بين السرد التقليدي والحكاية الأسطورية برَع فيهما في روايته «بدر زمانه».
لم يَعْيَ الفارسُ القديم، باقٍ صهيلُه عالياً في المغرب الأدبي الذي تحرز فيه الرواية، شأن البلدان العربية كافة، حصةَ الأسد، يتوالى صدورُها بوتيرة متسارعة ووفرة لافتة للنظر، تتجاورُ الأقلام الشابةُ مع الرائدة والرّاسخة، وتتعدّد المقارباتُ والأساليبُ يلهث فيها هاجس جيل لاحق بفكرة وهمية يسميها التجاوز، بينما النتاج الأدبي لأيّ شعب هو سلسلةُ نماءٍ وحصيلةُ تراكمٍ بناءً على نصوص مؤسِّسةٍ وأخرى تليها إما تُقلد أو تجدِّد علاقة بسابق، وهكذا. لا يقنع مبارك ربيع، وهو مُحِقٌّ، بامتياز الرّيادة، ولا بالثمار الناضجة لبستانه الروائي الغنيّ، نراه يواصل كتابة السرد التخييلي بانتظامٍ وبتميّز أيضا، سيدٌ في قومه وعلامة، تراثٌ ومنارة. روايته الأخيرة إذ تشهد على استمراريته وحيويته الإبداعية، إشهارٌ منه أنه وهو الكاتب التليد قادرٌ أن يأتيَ بالطريف وعينُه على تجديد مدرسته الواقعية كما بلور طريقتها منذ نصف قرن ونيف، ومع كل نصٍّ يُشكّل لها صورةً تُجليها وتوسِّعُ إطارها وتبلغ مرمىً فصاحبها ذو رسالة. رواية» أحمر وأسود» رهانٌ آخر في هذا المسعى، وامتحانٌ له في منهج ورؤية مدرسته يُخضِع نفسه لها أولا ليُقِرّها، وثانيا، تذكرةً لمجايليه قلّة، وهدياً لللاحقين وهم كثرةٌ طافحة.
ما طبيعة هذا الرهان؟ لنستمع إلى هذه القصة كي نعرفه. قبل سنوات ارتُكبت جريمة قتل بالدار البيضاء راح ضحيتَها رجلُ أعمال ثري وسياسي برلماني سقط برصاص قاتله أمام مدخل دارته في حيّ بورجوازي. بعد تحقيق للشرطة لم يطُل توصلت إلى حبك خيوط الجريمة ومُنفّذها ومَن وراءها وسببها، تبين الآتي: القاتل وهو سمسار عقار عاشق زوجة المجني عليه، وكان يلتقي بها ويعاشرها في بيت سيدة وسيط، عندها تمّ تدبير خطة الجريمة من طرفه بواسطة بندقة صيد وتواطؤٍ مع قريب للوسيطة هو سائق السيارة التي ترصدت للزوج ونفذت الجريمة. هذه خطوطها العامة، لمن علم بها ولابد أن يستحضرها وهو يقرأ رواية « أحمر وأسود». معلومٌ أن كثيراً من الروايات تستقي حكايتها من أحداث فعلية أو تستوحي، وفي عتبة الكتاب إما يشير المؤلف إلى ذلك، أو يموّه بعبارةٍ متداولةٍ أن أيّ تطابق مع الواقع هو صدفة محض.
مبارك ربيع يضع عتبة مختلفة، خصّصها لشرح المراد من عنوان عمله. واضحٌ أنه استوحى عنوانه من آخر سابق عليه، من رواية «le rouge et le noir «( الأحمر والأسود)(1830) لستندال (1783ـ1842) أراد روائيُّ القرن التاسع عشر المارد بعلامتي اللونين: الجيش، للأحمر، والكنيسة، للأسود، وهما قوتان متعارضتان تعارُضَهما عند ربيع نوّه في العتبة بشرح لغوي مؤوِّل عند الأنباري في «كتاب الأضداد» ورَدَ فيه « يقال: رجل أحمر، إذا كان أبيض» وإلى استشهادٍ من أبي عمرو بن العلاء:» أكثرُ ما تقول العرب في الناس: أسودُ وأحمر، قال: وهو أكثر من قولهم أسودُ وأبيض». في الحالتين نحن أمام ثنائية متصادمة بُنيَ عليها الصراعُ يهمنا في النص المغربي المواجهة بين الخير(الأبيض) والشر(الأسود) واضحٌ أنها زوجٌ أخلاقي بامتياز، وتندرج في (إيتيقا) يتبناها الكاتب الواقعي المغربي الذي وظّف الأدب، الرواية منذ بدايتها، لخدمة قضية اجتماعية وبرسالة هادفة( ملتزمة) هي عند ربيع خُلقيةٌ وطنيةٌ بدون أن تتكئ على خلفية إيديولوجية شأنها عند آخرين ملتزمين سياسيا مثل عبد الكريم غلاب.
ماذا صنع مبارك ربيع بالحكاية الحقيقية الأصل، معلومةً عند القارئ أو مغيّبة؟ سنقول، إنه أخذ هيكلها العظمي وغطّاها لحماً وألبسها كسوةً تناسب مجموعَ الشخصيات( العاملين) الفاعلة فيها من أطراف الجريمة ومن محيطها، ورسم لها ملامحَ وسماتٍ تجعلُها حيّةً حاضرةً بصفتها الروائية، لتنخرط في الفعل الروائي وتؤدي أدوارَها بأسماء موضوعة صانعة محافل سردية، هي بالتسلسل التالي: هناء، فتاة قروية تنتقل إلى المدينة بحثاً عن حياة أفضل، وتتنقل بين البيوت خادمةً إلى أن ترسوَّ في ملجأ لنسوة متخلّى عن أبنائهن، هنا إشارة إلى مأوى حقيقي كانت تديره سيدة فاضلة من أجل عمل الإحسان هي عائشة الشنا رحلت أخيرا ومعروفة وطنيا ودوليا. بعد ذلك تعمل الفتاة في مؤسسة تموين للحفلات حيث تقع عليها عينُ أحد الأثرياء ممّن يرتادون الأعراس ويتعلق بها لينتهي الأمر بزواجٍ وإنجابٍ ونرى الشخصية في بحبوحة لكن في عيش غير مريح مع زوج منصرف لأعماله، ليقودها الفراغُ وسأمُها إلى الرذيلة انتهاءً بما ذكرنا. رضوان، هو العشيق الذي سترتمي في أحضانه، شابٌّ عاطلٌ من وسط شعبي رثّ يعيش في رعاية أخته التي ربته من صغره بعد يتمهما، ويصبح بيتُها مسرح عشرة للعاشقَين. عائشةُ تيسِّرُ العشرة وتحرّض أخاها ليفوز برضا المحبوبة التي تغدق على كليهما. أخيرا، مهدي عياش، الزوج المخدوع واللا مبالي من سيذهب ضحية مؤامرة ثلاثية للخلاص منه يفك غموضها تحقيق الشرطة.
هذا تشريحٌ إجماليّ للرواية، لكن من يقرأها سيجد عوالمَ ومحكياتٍ ومعضلاتٍ غير ما يطفو على السطح، لأن الكاتب اختار أن يسرد قصته وبوصفه السارد العليم باستبطان كل شخصية على حدة منتقلاً بينها ومستبطنا ًمشاعرها واصفاً أحوالها بجزئياتها معيداً بالتكرار والاستنساخ مشاهدَ وصراعاتٍ نفسية واصفاً مظاهرَ اجتماعية وتقاليدَ وطقوسا للكشف عن تناقضات طبقية وتضاربِ قيمٍ وصراع بين الرغبة والغواية والنفس الأمّارة بالسوء، وبين الفضيلة الخُلقية الكامنة والمسكوت عنها. يتنقل السارد بين الضمائر مُلِحّاً على ضمير المتكلم الذي تتماهى معه في الوظيفة الأخرى، فهو واحد. وتنمو حول كل شخصية فعلا وشعوراً دوائرُ وصفيةٌ وتتوالدُ سلسلةُ استيهامات تُثقلُ كاهلَ السرد كثيراً ما يتفكك في ثناياها مع لغة إيحائية ذاتِ عبارةٍ شعرية بما يُخرج الشخصيةَ عن سياقها ويأتي أعلى من ثقافتها لنصبح أمام خطابات للمؤلف يطبعها التجريد وبحوارات مُملاةٍ ومتكلّفة، أو تشخيصٍ يُؤول إليه، هو من أدوات الروائية الواقعية التي يمهَر فيها ربيع، وفي هذا العمل نراه وكـأنه يصنع سيناريو بمشاهد سينمائية وتوترات تشويقية، خاصة في نهايةٍ تسكت عن نهايتها وتترك القارئ نهباً للتساؤل والحيرة حول مصير (البطلة) هناء لا تُرى أبداً طرفا في جريمة محتملة ولا أن مصيرا مأساوياً هو خاتمتها.
في طفولة الرواية الواقعية المغربية كانت المواقف معلنةً والمعاني صريحةً والقضية ُجهيرة، وبعد أن اكتمل نضجُها على يد مبارك ربيع وكتاب جيله، تسعى للارتقاء إلى مدارج الإيحاء والرمزية واستبطان الذوات، وإيلاء العناية لصَنعة التخييل ضمان جعلِ الرواية احتمالا وتكهّناً بواقعٍ وحياةٍ أوسعَ وأبهرَ من أصلهما، كلّ هذا ومجترِحُها مخلصٌ لمشروعه التركيبي للتاريخ والمجتمع وكينونة متفردة في إطار ومن وحي فلسفة خلقية واجتماعية ملتزمة وإنسانية.


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 17/02/2023