« لن يذهب الرق من الوجود ، لكل عصر رقه وعبيد «
توفيق الحكيم
«أسود أبيض» هو عنوان الرواية البكر للكاتب المغربي مصطفى ماء العينين، جاءت في 119صفحة من الحجم المتوسط، وقد صدرت مؤخرا عن دار فضاءات بعمان في حلة قشيبة . هي رواية تهتم، بأسلوب واضح، بوضعية العبودية البيضاء بأمريكا، وتعرف أيضًا باسم تجارة العبيد البيض أو الاتجار بالعبيد البيض، وكلها تشير إلى الاسترقاق العنصري وأبشع الصور الإنسانية، مما يجعلها تتصل بالأفق الحداثي للكتابة الروائية بالمغرب، وأيضا تبين عن ثقافة الكاتب ومرجعياته الفكرية في فهم العالم وتفسيره.
وعليه، تكون «أسود وأبيض» قد اتخذت لنفسها مسارا خاصا ومتميزا ، باقترابها من موضوعة ظل مسكوتا عنها في تاريخ العبودية بأمريكا»، حيث تقدم لنا نظرة فريدة ومثيرة حول واقع العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ اكتشافها ووصول الأوربيين لها واكتشاف ما تزخر به من غنى طبيعي». نقرأ في الدفة الثانية من الغلاف للأستاذة «فرح أشباب».
تركز الرواية على شخصية « أوليغ» الشاب الأبيض والعشريني على متن سفينة كبيرة في عرض المحيط رفقة مجموعة من البحارة، سينسحب من يده الحبل ليضرب الشراع « إيريك» بقوة فتنكسر ذراعه، ليجره البحاران ويرميان به خارج السفينة في حين كان مصير «أوليغ» القبو مع البيض الجدد ، وكل الذي حدث كان بأمر من السيد «جون»، ثم تصل السفينة إلى الميناء ليتم عرض العبيد الجدد»، ويكون «أوليغ» من تصيب السيد « أومان «..
الرواية ضاجة بتنوع الموضوعات،ضمنها موضوع عبودية البيض التي يمكن اعتبارها هي التيمة المهيمنة، وحين نذكر العبودية البيضاء ، فلا نعني بها الأفارقة واستعبادهم قبل أن يتحرروا بعد نضال طويل، ولكنها عبودية من لون آخر، هي العبودية البيضاء التي عرفها التاريخ الأمريكي قبل قرون مضت .
فكيف تسائل رواية «أبيض أسود» مأساة البيض؟ تغوص في الذاكرة ؟ وتصغي للتاريخ المسكوت عنه؟
عطفا على ما سبق، تستوقف رواية «أسود أبيض»، قارئها وتفتح شهيته بواسطة سمة موضوعاتية مهيمنة على مجموع النص، سواء في لغته ، أو صوره أو متخيله ورؤيته الجمالية، فمنذ عنوانها المعلق في سقفها، وسطورها الأولى تحضر موضوعة مأساة العبيد البيض.
تنفتح أحداث الرواية على وقوع حادثة داخل سفينة تنقل مجموعة من البحارة البيض بلباسهم الرث. نقرأ في الصفحة 9:»يمر بجانبهما بادو، رجل أسود ثلاثيني مفتول العضلات، يرتطم بأوليغ فيختل توازن هذا الأخير ، لينفرط من يده الحبل فإذا بالشراع يضربه هو وإيريك الذي لم يكن يبعد عنه كثيرا، يضرب الشراع إيريك بقوة على مستوى ذراعه فتنكسر»، وبعدها يكون مصير «أوليغ» قبوا مظلما ومعتما :» قبل أن يعود جاكسون إلى قمرة القيادة صرخ بغضب في وجه أوليغ :- وأنت،-رجعوا هذا اللعين إلى القبو مع البيض الجدد « ص 11، ثم بعدها التخلص من إيريك برميه في البحر :» ايريك متشبث 65 مزري ، بل ستفتح أزرار صدرها لكثير من العنف بوجوه متعددة ، لوجه واحد اسمه، تعنيف البيض للبيض ، والأكثر منه سن قانون مجحف يكرس الرق .
تطرح رواية «أسود أبيض» تعدد أشكال المعاملات المتوحشة للمستعبدين البيض في الولايات المتحدة ، ونمثل لها بالمتواليات السردية التالية :
حيونة الرجل الأبيض–المملوك:»يدخل البيض إلى الحظيرة عبر باب ضيق 14
تبضيعه وتسليعه، ومن ثم الانقضاض عليه لتعليب حياته والتحكم فيه: «يأمرون العبيد بفتح أفواههم ليظهروا للعيان ألسنتهم وأسنانهم ، يشيرون إلى عضلاتهم، شعرهم ونقاء جلدهم من العيوب «15
المعاناة من الجوع وسوء التغذية :»يوزع عليهم أحد الحراس السمر أكلا يشبه العصيدة، يطرحه مباشرة في أيديهم الممدودة التي تستجدي كل ما يمكنه أن يسد رمقهم، الكل يحاول أن يحصل على النزر القليل ليدسه في أفواههم الجافة « 17
التعرض لكل أشكال التعذيب الشنيعة :» ما إن يصعد العبيد البيض إلى السفينة حتى يبدأ الجلد العشوائي لكل من تطأ قدماه السفينة، ويزج بهم بعد ذلك في القبو وسط صياح وعويل البيض نساء وأطفالا»23
المعاملات المعادية والطبقية والسادية من أجل الربح المادي والمتعة الضارة :»يجب على كل واحد منكم ملء حصته في آخر اليوم، ومن لم يكمل حصته سيطبق عليه القانون وستقرر العقوبة حسب الكمية التي تنقصه « ص.34
الاستخفاف بالأرواح وبقيمة الحياة من دون وجه حق «هنا تسمع رصاصة من مسدس ماركون تستقر في ظهر زوجة سانتي فتسقط على ركبتيها « ص 60.
وتتدرج مستويات المأساة في الرواية لتشمل النساء والرضع لنقرأ في الصفحة 37:» يتقدم مانان إلى المرأة لأخذ الرضيع منها، تحاول المقاومة فتضم ذراعيها حول طفلها وتغوص بوجهه في صدرها، لكن ما إن يهم بانتزاعه منها حتى تعطيه له وهي تبكي محاولة تهدئته كي لا يؤذي صغيرها «ص37
هكذا يحيّن الكاتب منسي ذاكرة الرق الأبيض، حيث كل أشكال وتفاريق العنف المادي والرمزي لتتوالى صور القتل والجوع والمهانة والتحقير ، لكن بوعي جديد حيال واقع مثقل بتبخيس الإنسان وكرامته .
في خضم هذا الممارسات اللاإنسانية تحضر أصوات ورؤى مغايرة مثل صوت «أوليغ»، وصوت «سانتي «، اللذين يحملان في أحشائهما نقطة ضوء تعاند وتحتج ضد استئساد الرق. نقرأ لأوليغ في حوار له مع «سانتي» :» ليس المؤلم أن يباع المرء هنا في هذه الولاية، أو تلك، بل الألم كل الألم أن يباع أصلا كسلعة في الأسواق»، وفي سياق تصعيد التحرير» ص 22.
وفي سياق تصعيد فكرة التحرير، يفكران في الهجرة إلى الجنوب هربا من الشمال بعد معاناة من المطاردة والإفلات من ميتات محققة :» في الجنوب كل شيء مختلف، الشوارع، الناس .. حتى الشمس غير الشمس» ص105، حيث استقبال واحتفاء هذا الجنوب بكامله، ومن ثم يتبخر الشمال، لكن يظل الأمل منتصبا لتحرير الشمال في أفق تحويله للإفلات من إسار الرق وتسليع الإنسان، نقرأ في قفلة الرواية :» ليست هذه نهاية الطريق « ص119.
وقبل إسدال ستار هذه القراءة العاشقة، لن نغفل البنية الجمالية للغة الرواية « أسود أبيض» التي تمس مكوناتها ، ويمكن تسجيل ما يلي :
تجاوز الحكي الموسع لعوالم النص لصالح التقتير السردي .
توظيف لغة نوستالجية وحنينية عبر تذكر « أوليغ» لماضيه قبل مملوكيته :» يتوقف قليلا وكأنه يستجع ذكرياته قبل خمس سنوات :
في ما يبدو أنه احتفال القرية، وسط جو من الضحك والمرح « ص17
لغة ثقافوية تمتح من المرجعيات التاريخية والحقوقية ، ونمثل لذلك بالجملة الأولى من الرواية :»صيف 1784، جو مشمس مع قليل من الرياح، مجموعة من البحارة البيض بلباسهم الرث مجتمعين في جانب سفينة كبيرة « ص9 ، و بقراءة السيد « هاويت» ملخص نقاط القانون المصادق عليه .
لغة محايدة تروم الموضوعية بعيدا عن الإنشائية والتعبير والتصوير المباشر واللغة الموغلة في الاستعارات .
ومجمل القول، رواية « أسود وأبيض « لمصطفى ماء العينين، استطاعت أن تلامس موضوعة ظلت في غياهب التهميش ومسكوتا عنها، في عالم يهيمن فيه الشر رموزه بقوة العنف والبطش والتقتيل ، لكن الأمل لم ينعدم ، ويظل الضحايا يقاومون من أجل ضفة أخرى أكثر نقاء وسموا وإنسانية، ضدا على زمن الثورة الفردية المتوحشة .