الزميل لحسن العسبي: مولاي الطاهر.. صلصال المعاني

طائر نادر يغادر دنيانا اليوم. علامةً من علامات مراكش، تلك المدينة العريقة التي وحدها من تعرف كيف تهب لنا قيما فنية مماثلة. لم يكن مولاي الطاهر الأصبهاني مجرد فنان ضمن واحدة من أشهر وأروع المجموعات الغنائية المغربية (جيل جيلالة)، بل كان معنى مغربيا لجيل كامل من فناني الشعب الصاعدين من تربة البلاد الخصبة المعطاء. لهذا السبب، سيبقى اسمه خالدا في ذاكرة المعنى المغربي، لأنه بصمة فريدة خاصة.
مولاي الطاهر الأصبهاني “بَلْدِي”، بالمعنى الأصيل والعميق للكلمة. أي أنه نسخة مغربية أصلية نحتها صلصال المعاني مثلما يصنع ماء جبال الأطلس الصخر الصلد في أودية الحياة. وواهم من سيبحث له عن أشباه أو نظائر قبل وبعد، فهو نسخة واحدة فريدة، تماما مثل نجم يولد من تفاعل عناصر النار في ديمومة الأبد وضمن صراع المجرات.
مع مولاي الطاهر الأصبهاني، تستشعر الإنسان، ذلك الكائن الشبعان روحيا، ذلك الذي يمشي في الطرقات بخجل الصوفيين حتى وهو جبل عال من القيم. نعم عاش محطات كثيرة من الألم في بلاد لا تعرف غير أن تكون جاحدة مع أخلص أبناءها المَرْضِيِّينْ (من معنى رضى الوالدين)، لكنه بقي شامخا بعزة نفس أصيلة، قبل أن تنصفه أعلى سلطة بالبلاد (جلالة الملك محمد السادس) منذ سنوات، حين خصصت له ما يليق به من تقدير كواحد من علامات الثروة اللامادية للمغرب.
كلمته عبر الهاتف في الأسبوع الأول من رمضان، بمبادرة كريمة من أخي وصديقي العربي رياض (أكثر الصحفيين المغاربة معرفة بالرجل وبالمجموعة وإنصافا لها أيضا)، حين جاءني بهاتفه قائلا: “مولاي الطاهر يسأل عنك”. تحدثنا مثل طفلين أحمقين وضحكنا مطولا، وكان صوت مولاي الطاهر هو هو صافيا وحييا. قلت له لأول مرة: “مولاي الطاهر هل تعرف أن لك ربما قرابة مع حماتي والدة زوجتي، فاسمها فاطنة الأصبهاني، وهي من حفدة الزاوية الناصرية وأن أصولكم من بلاد أصفهان هناك في بلاد فارس ولهذا السبب أغلبكم بيض البشرة زرق العيون”. فضحك عاليا، دون أن يترك لك الفرصة لتستشعر أنه مريض (من جميل ما قام به فريقه الطبي وعائلته أنهم لم يخبروه قط بإصابته بالمرض اللعين)، وقال لي: “نعم، هناك آثار للزاوية الناصرية فينا. ونورك لله أن نورتني معرفيا بقصتنا الأصفهانية”. مضيفا في شغب كلام اعتدناه بيننا: “شوف، من الآن فصاعدا، انس العربي رياض بيننا. أنت ولد الدار. تعال وادخل بصباطك نعام آس”. وضحكنا مطولا.
رحمك لله أيتها العلامة المغربية الأصيلة والفريدة.
وداعا مولاي الطاهر الأصبهاني.
أُنصتُ لك الآن في أغاني الشمعة والعيون عينيا والليغارة بدبيب آخر، كما لو أنني أنصت لنداء خالد قادم من السماء.
رحمك لله رحمة واسعة يا ولد الناس.”


بتاريخ : 04/05/2023