السياسة المائية الفرنسية في مغرب الحماية: الاختلالات البنيوية الكبرى

 

جرت في مغرب ثلاثينات القرن الماضي تحولات كثيرة عرّت عن تناقضات السياسة الكولونيالية، ولم تكن السياسة المائية الفرنسية بمنأى عن هذه التناقضات. آنئذ دفعت هذه السياسة بإجراءاتها نحو تشكيل هندسة اجتماعية جديدة، وأزاحت المالكين الأصليين وذوي الحقوق للماء، وصعدت بفاعلين جدد عرفوا كيف يربطون مصالحهم بمصالح الاستعمار الفرنسي. خلال هذه اللحظة طوقت الأفكار النقدية مدبري الحماية، وضغطت عليهم من أجل القيام ببعض الإصلاحات المائية مثل تطبيق برنامج تنمية الموارد المائية، وعصرنة التقنيات لسقي مليون هكتار.
لا يجب أن نقرأ هذا المعطى كما لو أنه تم في سياق اقتناع الإدارة الفرنسية بضرورة مراجعة وتقييم السياسة المائية في الثلث الأول من الحماية، بله من زاوية الضغط والاستجابة لطلبات المعارضين لتوجهات قسم التدبير المائي الفرنسي. ثم لماذا هذه «الإصلاحات» اقتصرت فقط على السهول دون الجبال؟ ولماذا اقتصرت على أراضي الملك الخاص دون باقي الأراضي؟ ولماذا أيضا لم تبتغ إعادة توزيع الأراضي من جديد؟
في البدء هناك توضيح هام حول هذه المسألة، على المستوى السياسي، لقد فتحت هذه اللحظة الفارقة من تاريخ الحماية لأول مرة قوسا جديدا، حينما توافقت أفكار المعارضين الفرنسيين ذوي التوجهات اليسارية مع أفكار شباب الحركة الوطنية. لقد كان لهذا التوافق أن ضيَّق الطوق على عنق الإدارة الفرنسية، وجعلها تتلقى النقد الصريح تجاه تدبيرها المائي.
صحيح أن المشاريع المائية الفرنسية منذ بدء لحظة الحماية قد مكَّنت من تحديث جزء من البلاد، مثلما قامت بعصرنة أنظمة الري وبناء السدود الكبرى والأوراش المائية، وحسَّنت من تقنيات الإنتاج…لكن لا يجب أن نغالي كثيرا في شأن ذلك مهما كانت حصيلته، ونعتبره غاية في حد ذاته، إذ لم يكن لمفعول هذه الإجراءات أثر بالإضافة إلى أنها لم تكن تخدم سوى فئات محدودة مشكلة من المعمرين الأروبيين وخدامهم من المغاربة.
عودة إلى مسألة التدبير المائي الفرنسي، راهنت الإدارة الفرنسية في أول الأمر على تعزيز الترسانة القانونية الضامنة لإنجاز الأوراش المائية الكبرى، وأصدرت في سبيل ذلك رزمة من الظهائر التي سمحت بعملية تفويت الأراضي والعقارات نحو المعمرين الجدد، خاصة في المناطق السهلية الخصبة. وفي مستوى ثان، انتقلت الإدارة الاستعمارية نحو تشييد البنيات المائية الكبرى لتزويد الأراضي بمياه السقي، وكان الرهان حينها على السدود والقنوات المائية لاستغلال منابع الأنهار.
حول هذه النقطة، يخبرنا الجغرافي جان دريش عن جانب من جوانب إخفاقات السياسة المائية الفرنسية في المغرب نتيجة ارتفاع تكاليف تجهيز شبكات السقي، وتعرض حوالي الثلثين من حقينة السدود لظاهرة التبخر، بالإضافة إلى مشاكل انجراف التربة، ومشكل التوحل في السدود. لقد كانت السياسة المائية الفرنسية ضحية لنجاحها النسبي، ووفائها لفكرة الحفاظ على المزاوجة بين الهياكل العصرية والهياكل التقليدية، لكن تداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية عرّت عن الاختلالات البنيوية الكبرى، وعمقت من فجوة الانفصال بين المزارعين الأروبيين والسكان المحليين.
وبقدر ما ينصرف الحديث عن مسألة التدبير المائي الفرنسي في مغرب الحماية، بقدر ما ينصرف إلى إعادة تقييم مسألة التمويل الفلاحي. إذ لا يمكن فهم تطورات اللحظة الاستعمارية دون بحث في استثماراتها المائية. مثل المقولة التي تنسب لماركس: ابحثوا عن الحقيقة في المال، حيثما وجد المال توجد الحقيقة. والحال أن هذه النقطة ظلت مُحاطة بكثير من الاحتراس من طرف مدبري الفعل الاستعماري لأغراض سياسية. وهو موضوع يُحوز قدرا كبيرا من الأهمية بما يكشف عنه من عثرات السياسة المائية في مغرب الحماية. وحتى تتوضح حقيقة هذا الاستنتاج، يضعنا جان دريش أمام نموذج تحقيبي للاستثمارات الفرنسية في المغرب:
المرحلة الأولى: مرحلة الاستثمار الفلاحي التي امتدت من بداية عقد الحماية إلى غاية 1939. والملاحظ أن هذه المرحلة تصاعد فيها حجم الاستثمارات الفرنسية في المغرب، إذ تجاوزت فيها حصة المغرب 29% من نسبة الاستثمارات الخارجية الموجهة للمستعمرات الفرنسية، وهي حصة خصصت في مجملها لتشييد ودعم الأوراش المائية الكبرى.
المرحلة الثانية: مرحلة الاستثمار الصناعي بعد سنة 1939 التي جعلت الإدارة الفرنسية تنصرف نحو الاهتمام بالصناعات المنجمية والتحويلية في خضم التحولات الديموغرافية التي شهدتها المدن الصناعية الكبرى.
يسمح هذا النموذج التحقيبي الخاص بالمرحلة الأولى بفرز مستويين في التحليل: مستوى أول جعل مدبري الفعل الاستعماري يركزون الأنشطة الاقتصادية في النشاط الفلاحي، مع الحفاظ على الازدواجية في الإنتاج، وتجزيئ الملكية العقارية…نتيجة ذلك كانت ارتدادية: تزايد أراضي المعمرين مقابل تزايد بؤس السكان المحليين، ما دام عائد القطاع الفلاحي كان غير متناسب مع الطفرة الديموغرافية لمغاربة ما قبل الحرب العالمية الثانية. ومستوى ثان، خضوع قوى الإنتاج للتحولات المناخية والاقتصادية الظرفية، مما كان ينتج عنه حركية القرويين نحو المدن، وتكديس الأهالي في ضواحي المدن الناشئة.
الماء والحماية: تحول ارتدادي
مع الحماية حدث انقلاب في نمط الإنتاج، من بلد كان يعتمد على الرعي وتربية الماشية، إلى بلد صار يعتمد على الفلاحة، من بلد كانت فيه الملكية الجماعية أساس البنية العقارية إلى بلد صارت تهيمن عليه الملكية الخاصة للأرض والحقوق المائية الخاصة التي جلبها الاستعمار من السدود المشيدة. من مجال كان يجعل لكل قبيلة مجالا يمتد بين السهول والهضاب والجبال في إطار دورة رعوية معروفة تتيح استغلال الأرض والماء إلى انعدام امكانية تنظيم الحياة الرعوية بين السهول والجبال، وتقلص الملكيات في السهول، وظهور أعمال السخرة ونظام الخمَّاسة والعمل المأجور.
حينما نُقيِّم حصيلة هذه التحولات نصل إلى ما سماه جان دريش Dresch بوضعية «البنية الاجتماعية السيئة». بنية انطلق تشييدها في البدء اعتمادا على ضرورة تجزيئ الأراضي الفلاحية، وفي مرحلة موالية على ضرورة تركيزها في يد معمري وخدام الاستعمار، وفي مرحلة أخيرة على دمجها قسرا في بنية النظام الرأسمالي. وإذا أضفنا إلى ذلك، تجاذب سنوات القحط والجفاف وقلة التساقطات واستدامة الجفاف لفترات في بعض المناطق، تكون جل عناصر إعاقة التحول قائمة.
في ما مضى نحت جل الأبحاث التي أنجزت خلال الفترة الاستعمارية إلى تفسير ذلك بالمعطى الطبيعي، وعتاقة التقنيات وتأخر وسائل وتقنيات السقي…لكن سيتضح في ما بعد مع تطور الظاهرة الاستعمارية أن تأخر التنمية نتاج بشري وإخفاق إداري وسوء تقدير اقتصادي…ومن بينهما الرهان على تعدد أنماط الانتاج والمزاوجة بين قطاعين متناقضين: تقليدي معاشي تصرف مواده داخل شبكة الأسواق الداخلية، ومحدود من حيث الانتشار، وقطاع عصري يُوجه إنتاجه نحو تلبية رغبات السوق الفرنسية.
قطاع تقليدي – ملكيات صغيرة- وسائل سقي تقليدية – انتاجية ضعيفة
قطاع عصري- ملكيات كبيرة – وسائل سقي عصرية- انتاجية مرتفعة.

خلاصات وامتدادات:
لحظة تفكيك الخطاب الإستوغرافي الفرنسي حول المغرب، تعود دوما إشكالية المعرفة والسلطة، في البدء كانت منطلقا لغزو الجبال والسهول، وصارت في النهاية جهلا بتحولاته، وضدا على رغبات أفراده. كان طبيعيا أن يتصدر البحث الجغرافي واجهة الغزو، وأن تقحم المعرفة الجغرافية في الإجابة عن الأسئلة المجالية لمالكي وسائل الإنتاج والإكراه. وقع الإقرار بعد طول بحث وتدقيق على تنزيل مقتضيات السياسة المائية على نحو يخالف التقاليد المرعية، وجرى تدعيمها بأسس قانونية، مالية وتقنية…وفي مرحلة موالية، جرى تفكيك هذا الخطاب المخاتل، ومكَّن من الوقوف على بنية الإنتاج، ظرفيات الإنتاج، وقوى الإنتاج…وجعل من الماء في البدء والمنتهى رهانا سياسيا بامتياز.


الكاتب : ذ: مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 21/02/2022