أَكْتُبُ قَصيدَةً أُمَزِّقُها،
أُبْصِرُ امْرَأَةً أَتْبَعُها وفي جَيْبي مَناديلُ مُلَوَّنَةٌ،
المَرْأَةُ تَدْخُلُ القاعَةَ الكَبيرَةَ وتَخْلَعُ ثِيابَها،
فَتَتَطايَرُ حَماماتٌ مِنْ جَسَدِها العاري..
حَدَثَ هذا مُنْذُ صِرْتُ ساحِراً،
وصارَتْ لي بِطاقَةٌ وَطَنِيَّة للدُّخولِ إلى السِّرْكِ،
وصِرْتُ البَهْلَوانَ الأَوَّلَ،
أَمّا المَرْأَةُ التي قادَتْني قَديماً إلى القاعَةِ الكَبيرَةِ،
فإنَّني ما زِلْتُ أَبْحَثُ عَنْها،
وكُلَّما رَأَيْتُ حَمامَةً حَسِبْتُها هِيَ،
فَدَعَوْتُ اللَّهُ لِيَهَبَني جَناحَيْنِ ومِنْقاراً رومانْسِيّاً،
لَكِنّني لَنْ أَكونَ إلاّ السّاحِرَ في السِّرْكِ التراجيدِيِّ!
في المَساءِ حينَ تَسْقُطُ الشَّمْسُ وَراءَ البَحْرِ،
أُصْبِحُ وَريثَها وأُشْرِقُ عِوَضاً عَنْها!
بَعْدَ أَرْبَعينَ عاماً مِنَ النَّوْمِ،
قَرَّرْتُ أَنْ أَصْحُوَ لأُنْجِزَ تَمْرينَيْنِ أَخيرَيْنِ:
اِعْتِزالُ العَتَمَةِ، والانْتِسابُ إِلى حِزْبِ الشَّمْسِ!
لأَنَّني صَقْرٌ فَمَقْدوري أَنْ أُقيمَ في الرّيحِ،
لأَنَّها قِرَدَةٌ فَمَقْدورُها أَنْ تُقيمَ في السِّرْكِ!
اِعْتَزَلْتُ المُظاهَراتِ التي تُنادي بِإِسْقاطِ الشَّمْسِ،
اِعْتَزَلْتُ العَجَلاتِ الفولاذِيَّةَ التي تَدوسُ الأَرْضَ.
اِعْتَزَلْتُ مُسَيْلِمَةَ،
وتَرَكْتُ جِيادَهُ تَسْقُطُ تِباعاً بَيْنَ يَدَيْ أَبي بَكْرٍ.
اِعْتَزَلْتُ بَني أُمَيَّةَ ولَمْ أُشارِكْ في مَقْتَلِ الحُسَيْنِ.
اِعْتَزَلْتُ الأَتْراكَ ولَمْ أَتَحَسَّرْ على قَمَرِ القُسْطَنْطينِيَّةِ.
لَمْ يَكُنْ لي رَأْيٌ بِخُصوصِ الغَزَواتِ،
ولا رَأْيٌ بِخُصوصِ حَريمِ السُّلْطانِ،
ولا رَأْيٌ فِقْهِيٌّ في الزَّواجِ بِالحورِيّاتِ..
ماذا يَحْدُثُ لِلْعالَمِ لَوِ اقْتَحَمْتُ مَقْهىً بِحَيٍّ صَفيحِيٍّ،
أُتابِعُ مُباراةِ الكْلاسيكو في شاشَةٍ بِالأَبْيَضِ والأَسْوَدِ،
إِلى جانِبِ باعَةِ التّينِ والخُضَرِ وأَوْراقِ اليانَصيبِ،
وباعَةِ الحَساءِ الذينَ رَكنوا عَرَباتِهِمْ في الرَّصيفِ،
أُصَفِّقُ على الذي يَفوزُ،
وأُقَدِّمُ لَهُ كَأْسَ شايٍ بالنَّعْنَعِ الأَصيلِ،
ورُبَّما أَدْعوهُ لِيَنامَ لَيْلَةً بِجِوارِ الحورِيّاتِ،
ورُبَّما أُقَدِّمُ لَهُ صَوْتي في الانْتِخاباتِ القادِمَةِ،
تِلْكَ التي يُنَظِّمُها الأَمْواتُ تَحْتَ التُّرابِ،
أَمّا الذي يَنْهَزِمُ في المُباراةِ،
فإِنَّني أَرْميهِ مِنَ النّافِذَةِ ذاتِ الأَلْواحِ المَكْسورَةِ،
ولَنْ أَلْتَفِتَ قَطُّ إِلى جٌثَّتِهِ وهِيَ تَسْقُطُ فَوْقَ الرَّصيفِ.
ماذا يَحْدُثُ لَوْ مَزَّقْتُ كِتابَ المَوْتى الفِرْعَوْنِيِّ،
وفَتَحْتُ مُتْحَفَ المومْياواتِ لِتَعيشَ فيهِ الخَفافيشُ،
وقاطَعْتُ المِهْرَجاناتِ التي يُتَوَّجُ فيها الخِرْفانُ،
وقَطَّعْتُ الحِبالَ التي في السِّرْكِ القَوْمِيِّ،
حَيْثُ يَلْعَبُ السّاسَةُ أَمامَ الجَماهيرِ!
المُباراةُ مُتَواصِلَةٌ والمُعَلِّقُ يَنْبَحُ.
المُدَرَّجاتُ مَرْصوصَةٌ كَجَثامينَ في ثَلاّجَةٍ عِمْلاقَةٍ.
القَهْوَةُ تَبْرُدُ سَريعاً في الزِّحامِ الجَماهيرِيِّ.
الضَّوْءُ تُغْرَسُ فيهِ أَنْيابُ الظُّلْمَةِ.
الظُّلْمَةُ تُغْرَسُ فيها أَنْيابُ الضَّوْءِ.
القَذيفَةُ تَمْرُقُ وتَدْخُلُ الشِّباكَ.
قَذيفَةٌ أُخْرى مُغايِرَةٌ في مَقْهىً مُجاوِرَةٍ،
تَمْرُقُ وتَدْخُلُ الجَسَدَ.
الحَكَمُ يُصَفِّرُ في المَقْهى،
وسَيّارَةُ نَقْلِ الأَمْواتِ تُصَفِّرُ في الشّاشَةِ الأُخْرى؛
حَيْثُ السُّيوفُ يُقَبِّلُ بَعْضُها بَعْضاً،
وحَيْثُ الأَخْبارُ المُباشِرَةُ عَنْ حَرْبِ البَسوسِ!
أَعْرِفُ أَنَّني قُتِلْتُ مَرَّةً.
لَنْ أَسْمَحَ بِإِعادَةِ المَشْهَدِ.
أَموتُ مَرَّةً واحِدَةً فَقَطْ.
لا أَمْلِكُ روحَيْنِ اثْنَتَيْنِ في حَقيبَتي.
لا مِفْتاحَ بِحَوْزَتي كَيْ أَفْتَحَ وُجوداً آخَرَ.
لا نَظَرِيَّةَ في جَدْوَلِ أَعْمالي لإِنْشاءِ كَيْنونَةٍ أُخْرى.
الذينَ قَتَلوني مَرْضى وسادِيّونَ.
الآنَ أَقْتُلُهُمْ كَما يَقْتُلُ ضَوْءٌ سورْيالِيٌّ ظِلاًّ لَقيطاً.
الآنَ أُريدُ ما أُريدُ: الحَياةَ؛
الحَياةَ التي يَنْزَعُها النَّسْرُ مِنْ بَيْنِ مَخالِبِ الزَّمَنِ.
الحَياةَ التي تَجْعَلُ الأَسْماكَ تَسْبَحُ في الأُكْوارْيومِ.
الحَياةَ التي عَبَرْنا مِنْ أَجْلِها القارّاتِ وحارَبْنا الغيلانَ.
الحَياةَ التي فُزنا بِها في لُعْبَةِ الشَّطْرَنْجِ.
الحَياةَ التي رَبِحْناها في اليانَصيبِ..
أَتْرُكُ بُيوتَ الشِّعْرِ،
وحَوانيتَ الثَّقافَةِ التي تَعْرِضُ العُطورَ في زُجاجاتِ البِلَّوْرِ.
المُثَقَّفونَ صاروا تُجّاراً،
والقُرّاءُ يَبْحَثونَ عَنْ صَفْحَةِ الأَبْراجِ.
الصُّحُفُ ثَعابينُ تَتَلَوّى،
والمَجَلاّتُ أَسْمالٌ بالِيَةٌ في صُنْدوقِ قُمامَةٍ.
الجَوائِزُ في حَلَبَةِ السِّباقِ،
الأَرانِبُ لا تَتَوَقَّفُ والكاميرا فَمٌ جائِعٌ،
والرِّجالُ يُصِرّونَ على المُشارَكَةِ في العَدْوِ،
بِأَرْجُلٍ صِناعِيَّةٍ وعُكّازاتٍ من القَصَبِ.
تَكْبو الخُيولُ وتُتَوَّجُ الكِلابُ في مِنَصّاتٍ مِنْ عِظامٍ.
لَنْ أَكونَ حاضِراً.
سَأَحْتَجُّ على اللُّعْبَةِ واللاّعِبينَ والحُكّامِ،
عِظامُ أَجْدادي تُصْنَعُ مِنْها المِنَصّاتُ،
الكَراسي الخَشَبِيَّةُ تُصْنَعُ مِنْ جُثْمانِ أُمّي،
الميدالِيّاتُ تُلَمَّعُ بِدُموعِ عائِلَتي..
لَنْ أَكونَ حاضِراً.
قَتَلوني مَرَّةً.
لَنْ أَموتَ مَرَّتَيْنِ!
تَنْتَهي المُباراةُ تَنْطَلِقُ أُخْرى،
وفي الشَّوْطِ الثّاني تَتَأَلَّقُ المُراوَغاتُ.
الثَّعابينُ التي في الأَحْراشِ،
والسّاسَةُ الذينَ في التِّلْفازِ،
والمُهَرِّجونَ في حَديقَةِ الحَيَوانِ بِالعاصِمَةِ،
لا أَحَدَ يَتَوَقَّفُ عَنِ المُراوَغَةِ البارِعَةِ:
المُراوَغاتُ الفَنِّيَّةُ،
المُراوَغاتُ السِّيّاسِيَّةُ،
المُراوَغاتُ الاجْتِماعِيَّةُ،
المُراوَغاتُ الرِّيّاضِيَّةُ،
القَذْفُ مِنْ بَعيدٍ في اتِّجاهِ شِباكِ الآخَرِ:
أَخْطَأُوا جَميعاً،
الكُراتُ لَمْ تَكُنْ مَنْفوخَةً كَما يَنْبَغي،
لذَلِكَ لَمْ تُصِبِ المَلائِكَةَ الذينَ يَعيشونَ في قَلْبي!
وحَدَثَ ما لَمْ يَكُنْ في الحُسْبانِ؛
أَمَرَ شُيوخُ الفَتْوى بِتَحْريمِ الهِجْرَةِ إِلى النَّصِّ.
كُنْتُ في القِطارِ السَّريعِ،
جِوارَ مَحَطَّةٍ مَأْهولَةٍ بِالجَماجِمِ الأَليفَةِ،
وكانَ الماضي يَتَسَلَّلُ مِنَ النَّوافِذِ كالشُّعاعِ،
وكانَتِ المَحَطَّةُ قَريبَةً مِنْ حَواسّي.
لا يُمْكِنُ إِلْغاءُ الهِجْرَةِ مَهْما كانَتِ المُبَرِّراتُ،
لا يُمْكِنُ إِرْغامُ القِطارِ على العَوْدَةِ إِلى الأَرْضِ؛
الأَرْضِ التي لا تَصْلُحُ للرّومانْسِيَّةِ،
الأَرْضِ التي يُحَرِّكُها الشُّيوخُ كالخُذْروفِ،
الأَرْضِ التي تَمْكُرُ بِالسُّنونو والخُطّافِ والدّورِيِّ،
الأَرْضِ التي تَخْتَطِفُ الفَراشاتِ رَهائِنَ في أَخاديدِها،
الأَرْضِ التي عرائِسُها بَناتُ آوى،
الأَرْضِ التي لا أَرْضَ فيها،
الأَرْضِ التي لا أُحِبُّها،
الأَرْضِ التي لا تُحِبُّني..