يعتبر العلامة محمد بن الرافه البكري، من أهم المترجمين والسيميائيين المغاربة والعرب الذين كلما استحضرنا تاريخ الترجمة في المغرب المعاصر إلا وانبرى اسمه وترجماته المتميزة التي تغذت ذائقة جمهور كبير من القراء والدارسين عليها، قبل أن يكتشفه القارئ ناقدا وعلما في حقل العلامات والدلالة وملما بالإبداع، رواية وشعرا.
ارتبط اسم محمد بن الرافه البكري في البداية باسم الناقد الفرنسي رولان بارث، فهو كان أكثر المشتغلين على أعمال هذا الأخير، حيث وجد في ترجمة أعمال بارت ما يستجيب لأفقه الفكري والنقدي معا. هذا الأفق هو الذي وجّه، منذ البداية، كل أعماله الترجمية فكانت اختياراته «جوهرية» بالشكل الذي يضيف ويغني الساحة الترجمية، وبما يترجم رغبة مثقف ومناضل يؤمن بتجدید وخلخلة ما كان یجتره النقد العربي من مفاهیم أدبیة ونقدیة استنفدت إمكاناتها في التحليل والنقد.
ترجم الدكتور البكري لرولان بارت «درجة الصفر في الكتابة» و»مبادئ في السيميائيات» بعنوان «مبادئ علم الأدلّة» وبحوثاً مختلفة أخرى. كما ترجم لميخائيل باختين «الماركسية وفلسفة اللغة» (بالاشتراك مع الناقدة يمنى)، و»حركية الرأسمالية» لفردينان بروديل (بالاشتراك)؛ زيادةً على ترجمته مقالات وبحوثا لكل من جاك دريدا وجوليا كريستيفا ويورغن هابرماس ونصوصاً لسانية وسيميائية وفلسفية وفكرية متنوعة.
من أعماله أيضا، بحثان طويلان ورائدان بعنوان: «التحليل اللساني للخطاب السياسي: خطاب الحركة الوطنية نموذجاً»، و»خطاب الحركات الاستقلالية المغربية خلال الأربعينيات والخمسينيات «، صدر في جزأين عن مطبوعات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وجيش التحرير.
أسهم في التأسيس والتّسيير لمجلات ثقافية مغربية كـ «الثقافة الجديدة» و»عيون المقالات»، كما أسّس مجلة «فضاءات مستقبلية» ومنشوراتها.
في هذا الحوار، نطرح مع العلامة محمد البكري، واقع الترجمة اليوم في المغرب في غياب مؤسسة وطنية رسمية تعنى بالترجمة، وفي ظل تميز مغربي لافت للمترجمين المغاربة ولأعمالهم على الصعيد العربي، كما نطرح الإشكالات التي يعيشها المترجم المغربي، وصراع اللغات الثقافية الكبرى، والحروب داخل اللغة الواحدة، وإقصاء اللغات الوطنية من التداول في قطاعات عديدة داخل المغرب ومن يقف خلفه.
هل يمكن تحديد مفهوم دقيق للترجمة بعيدا عن التعريف العام لها كأداة تواصل بين الثقافات، فقد تكون حلبة صراع بين اللغات أيضا؛ بما أنها تتضمن «علائق القوة والانغلاق» وعدم التكافؤ بين اللغات والآداب؟
حرب اقتصاد/ حرب لغات/ حرب ترجمات/ حرب حضارات.
يمكن القول إن المستوى الأعلى من الترجمة في العالم يتجلى من خلال صدور الكتاب الواحد في ذات الوقت المحدَّد باليابانية (في اليابان) وبالإنگليزية (في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا..الخ..) وبالإسبانية (في إسبانيا وربما حتى في بعض عواصم أمريكا الجنوبية) وبالفرنسية (في باريس ومونتريال، ومن ثم إلى البلدان الفرنكفونية) وبالإيطالية (في ميلانو أو روما أو طورينو) وبالألمانية (في ألمانيا وما إليها) وكذلك في باقي العواصم الأوروبية بطريقة أو أخرى، وكل هذا على سبيل التمثيل لا الحصر…
الأولوية والأسبقية في الترجمة عبر اللغات العظمى للكاتب والكتاب والترجمة والناشر المنتمين إلى الدولة ذات اللغة الأقوى انتشارا والأكثر بيعاً، وتليها باقي اللغات الحية حسب قوتها.
أما جل باقي العالم فلغاته محدودة الانتشار وسوقها ضعيف، ويشكل مستوى ثانياً يعتمد على المستوى السابق ويتوكّأ عليه، فالأول ينتج ويأتي بالسلعة الجديدة والاسم العلم، ويفرض، ويوزع، ويقيِّم ، ويحكم، والثاني يُعجَب ويتفاعل كتابع محدود الفعل. الترجمة من لغاته إلى لغات المستوى الأول ضعيفة القيمة والحجم.
وكما توجد حرب بين اللغات الثقافية الكبرى، توجد أيضا حروب داخل اللغة الواحدة حسب التيارات واللوبيات ومراكز القوى.. وكلها تتضافر لتتحكم في العالم الثقافي، أي في ما ينشر ولا ينشر، وفي ما يترجم ولا يترجم وفي تحديد الجيد والأجود والسيئ والأسوأ.
سيطرة كونية على سوق تجارية، تشكله كما تريد وتتوزعه في ما بينها وفق معاييرها . النشاط الترجمي الرئيس يتحرك عبرها وداخلها ووفق معاييرها وقوانينها، والباقي مجرد أسواق صغرى لها أهمية داخل حدودها فقط. لنتذكر أن كتابا كبارا بالعربية لا يستطيعون اختراق هذه السدود الخانقة، وذلك منذ عقود وعقود..في حين نجد كتابات تافهة تفرض علينا وكأنها براعة كونية. فقط لأن المركز يفرضها.
فوز المترجمين المغاربة بالعديد من الجوائز العربية، يدفعنا إلى الحديث عن واقع الترجمة اليوم بالمغرب في غياب مؤسسة وطنية موجهة ومؤطرة للممارسة الترجمة باستراتيجية واضحة المعالم، كما في بعض بلدان الجوار: مصر، الإمارات. كيف تقرأ هذا الواقع؟
لا جدال في أن حركة الترجمة في المغرب أصبحت تفرض نفسها – وإلى حد ما- منذ مدة غير قصيرة، من حيث النوعية والجودة والجدية، ولربما حتى من حيث كمية المترجمات، لاسيما في علوم الإنسان والأدب والفكر والاجتماع. وقد لفت انتباه المتتبعين مراراً عدد حضورها في السنوات الأخيرة وغلبتها على ما يسمى باللوائح القصيرة. وبذلك يمكن القول إن المغرب يشكل ما يشبه المركز الصاعد والبارز للترجمة إلى العربية في مجالات بعينها، إلى جانب المراكز التقليدية للترجمة المعروفة منذ زمان أو المحدَثة في العقود الأخيرة. المغرب كان دائما يلفت الانتباه- بقوة وبصفة خاصة – إلى قيمة «منتجاته « الفكرية والفلسفية والتاريخية والترجمية. إلى حد أنها أثارت «حقد» وردود فعل هوجاء لدى من خالط قلوبهم «مرض»من بعض المتتبعين أو المهتمين، هنا أو هناك.
من هذه المراكز الأخيرة ما يعتمد على قاعدة تجارية قوية، كالتحكم في سوق الكتاب العربي بواسطة دور نشر قوية، أو قاعدة تمويلية ( كما هو الحال بالنسبة إلى غالب الحركة الترجمية في لبنان )؛ ومنها مراكز تعود إلى مؤسسات ثقافية حكومية، منظمة ومُهيكَلة، تقود النشاط الترجمي (مصر، سوريا ، الكويت والعراق،) وأخرى ناشئة في بلدان خليجية.. كما لا يمكن نسيان حركة الترجمة في تونس التي تساهم أيضا بنوعيتها واستمراريتها.
تبقى حركة الترجمة في المغرب حركة أشخاص ومثقفين هُواة – بمعنى خارج مؤسسات منظمة لتحقيق الهدف الترجمي- في الغالب، لكن، لهم اختيارات وازنة، وينجزون أعمالا جيدة، تنافس المترجمات المشرقية ( بدون أي إيحاء سلبي) الكبرى إن لم تتجاوزها أحيانا؛ إلا أن الترجمة ليست مهنتهم ولا هي اختصاصهم الرئيس، ولا هم يشتغلون في مؤسسات أو مقاولات للترجمة، تنتمي إلى القطاع الخاص أو إلى القطاع العام، أو – إذا أمكن مختلطة. وضْع يفرض -واقعياً وطبيعياً- العزوف عن هذه المهنة، ويقيد إمكانات التفكير في إنشاء مقاولات خاصة للترجمة، بسبب ضعف السوق الداخلية وصعوبات التسويق خارجيا. واقع يرفع سقف التنافس عاليا إلى حد المغامرة، من جهة، ويحد من تفتح كل الإمكانات المحتملة ويشل تنوعها وتعددها ورسوخها.
أمام واقع يسوده – من جهة أولى- خيار الترجمة « كنشاط (إنتاجي لـ) أشخاص»؛ لكنه متميز ونوعي، إنما غير كثيف من حيث عدد القطع المنتَجة؛ وأمام انعدام وجود مقاولات خاصة تنظم المجال – كما هو الحال في عواصم النشر العالمية الكبرى والصغرى الخ.. من جهة ثانية؛ وأمام انعدام تفكير سياسي جاد لإنشاء مؤسسة عمومية (أو شبه عمومية) للترجمة، إنتاجاً ونشراً.
يجثم أبو الهول في ملتقى الطرق شاهراَ أسئلته الحاسمة، حيث لا سبيل للإفلات ولا الخلاص: ما سياسة (عقيدة) الدولة- الأمة اللغوية تجاه اللغة – ـات الوطنية، نظرياً وكيف تطبقها فعلاَ، من حيث الفعالية والنجاعة؟ وبالمقارنة مع الوضع العالمي، في عالم تسوده حروب (بالمعنى الدقيق للفظ) لغوية شرسة ومدمرة؟ فالأمة التي تحترم سيادتها وشعبها تحترم – أولاَ- لغتها- لغاتها الوطنية، وتعمل على استقلالها وسيادتها وتطويرها ولا سبيل إلى ذلك غير الترجمة، والترجمة الشاملة لإحياء وتفعيل الرصيد الثقافي الوطني حقاَ، (هناك تيارات أو جهات ذات اختيارات مشوَّهة تحاول السيطرة وتحويل واقع الحال) فهي تفرنس أو تنجلز الفضاء الوطني العام بطريقة مكثفة تكاد تكون كلية وتقصي اللغات الوطنية من التداول في قطاعات عديدة، وتعمل على تحويل الشاذ إلى طبيعي.
من هنا يصبح الإنتاج باللغات الوطنية أمرا ضروريا والترجمة كذلك واجبا عموميا وشعبيا. لا مناص لأي مشروع وطني سليم في ميدان الترجمة، يتغيا خدمة الأمة وصالحها وربح رهان المستقبل ..من البناء العاقل والصارم والعملي على هذا المبدأ وترجمته في الواقع، لا سيما وأننا تأخرنا كثيراَ في معالجة المجال اللغوي بشكل عصري وحداثي..
ما الفرق ما بين الترجمة والتعريب؟
منذ عهد النهضة الثقافية والاجتماعية والسياسية في مصر والشام والعراق ، ثم بعد ذلك في البلدان الأخرى المتحدثة بالعربية، وسوق القراءة لا تكف عن التوسع وعن طلب هذا الأجنبي الوارد في الآداب والفنون وفي الفكر والعلم والخبر الخ. وأصبحت الترجمة مطلوبة بشدة في الصحف والمجلات والكتب ومؤسسات التدريس والحياة العامة. وأصبحت تكوَّن مع الوقت – بسبب كثرة الترجمات المتسرّعة والتجارية المبتذلة، وغير المضبوطة، والمرتكِبة لأخطاء شتى ومتكررة وفظيعة – وليس أخطاء قليلة ومحدودة، يمكن تجاوزها فحسب – ترجمات ساقطة في سوء الفهم الشنيع، والحذف، والتشويه، والركاكة والبعد حتى عن الأساليب العادية والمتوسطة، فبله تلك القويمة والرفيعة؛ يغلب عليها الابتذال والبعد عن إدراك النص ومغزاه، الخ.. كل ذلك خلق لدى الجمهور المتقبِّل والفاعلين- من أنصار ترجمة جيدة- آراء شديدة السلبية، بلغت حد التندر والتجافي، ولربما لذلك أراد البعض أن يتجنبوا حمل هذا اللقب السيئ الذكر والإيحاءات، وأن يجنِّبوا «ترجماتهم»حمله أيضا.. فاقترحوا لأعمالهم اسم « تعريب».
مصطلح «ترجمة»، يعني عموما، منذ العربية القديمة: «نقل الكلام من لغة إلى أخرى».وهي، إذن، نتيجة فعل اجتماعي وهي حرفة ووظيفة، أو بعبارة ثانية: عمل يؤدي إلى جعل النص أو الكلام المصوغ قبلاً بلغة معينة – هي مثلاً – اللغة أ – مصوغاً بلغة أخرى – هي اللغة – ب-؛ مع بذل المترجم لكل جهده الفني والتقني قصد تحقيق التساوي والتوازن بين الأصل والنسخة في العبارة والمحتوى والإيحاءات الخ..
نقصد أن المفهوم السليم لمصطلح ترجمة منذ قرون بريء من كل الأدران والأمراض التي يلصقها به – حتى صارت، ظلما، وكأنها من جوهره – ممارسة ترجمية طاغية يمكن نعتها بأنها غير أخلاقية وغير مهنية ولا محترمة وضارة بالمشروع الوطني والإنساني.
أما «التعريب» فمن معانيه: قديماً: الإبانة والإفصاح والاحتجاج والدفاع، وكذلك العيش وفق نمط عيش العرب. ووظفه قدماء اللغويين: ليعني أخذ الإسم الأعجمي والنطق به وفق قواعد النطق العربي الفصيح. مثل من strat: «.stratum..وتحويلها إلى « الصراط
لكنه شاع بكيفية خاصة منذ خمسينيات القرن السابق، حيث أصبح يدل على عملية تستهدف إضفاء الدولة القومية أو الوطنية، بعيد استقلالها، للطابع الثقافي واللغوي العربي على واقعها الثقافي واللغوي والمعاملاتي، الذي كانت قد حولته الدولة المستعمرة بالقوة ،خلال أيام استعمارها أو احتلالها للبلدان المتحدثة باللغة العربية ، كليا أو جزئيا، إلى واقع متفرنس أو متأسبن أو متنگلز أو متطلين مختلَق بقوة الهيمنة الاستعمارية، عسكرياً واقتصادياً وإداريا كليا.
يمكن، إذن، لمصطلح التعريب أن يستمد بعض مكوناته الدلالية والمعنوية من هذه المصادر كلها لكي يدل على ترجمة إلى العربية تجعل من النص الأجنبي نصا عربيا قويماَ، ترجمة تتوخى الصياغة السليمة والأسلوب الفصيح والوفاء للأصل والدقة التي لا تنفر الذوق ولا تخدش الفكر القويم.
ما الذي يميز ترجمة النص الأدبي عن غيره في العلوم الإنسانية؟ وهل يتفوق النص المترجم أحيانا في إبداعيته على النص الأصلي؟
الرأي الشائع الذي يضيق مفهوم الأدب ويحصره في إطار أجناس بعينها كالشعر الغنائي و والرواية والقصة والمسرحية الخ..يقابله تصوُّر آخر يوسع المفهوم كثيرا خارج هذا الإطار، وله نظرياته وأنصاره المنافحون عنه. ولربما كان من الأفضل، في هذا الحال، الحديث عن «الأدبية» أو «الشعرية»أو «الإبداع» أو «الإنتاجية» النصية، حيثما وُجِدت وتجلَّت في أبهى صورها، إن في الأدب، بمعناه الضيق، أم في نصوص متنوعة تنتمي إلى أجناس أخرى، وفي مقدورها أن تحقق في الواقع مستوى «كتابياَ» رفيعا ومبدعا وممتعا ومفيدا. قد لا تحققه نصوص تنتمي إلى الأدب بمعناه الضيق .. ولنفكر في أساليب فلاسفة ومفكرين ومؤرخين وساسة الخ …كتبوا نصوصا رفيعة جدا.. دون أن ندخل إلى مجال النصوص المقدسة التي بلغت جودتها إلى درجة أن صُنِّفت في إطار «المعجز» (الذي يصعب إدراكه من لدن البشرالعادي )؟
التميز يحصل حيثما تضافرت الكثافة الشعرية و «الإبداعية» الرفيعة والإمتاع الفني الجمالي، وحيث يحس القارئ بأن الكتابة تشتغل في أقصى حدود الممكن وأصعب مناطق التجريب، وجها إلى وجه مع المستحيل.. وهو أمر يحصل لا في الأدب (بمعناه الضيق) فقط ،وإنما يتجاوز حدود الأجناس..
والترجمة الحقيقية هي التي تدرك جوهر هذه النصوص القصوى في « أدبيتها « وتدرك كل نأمة وحركة، مهما دقت ومهما كانت تفصيلية أو ثانوية، وتعمل على صياغتها بلغة الترجمة دون ضياع لأدنى عنصر – وبدون تحريف ولا إسفاف- لا في الجهاز «التعبيري» بكل مكوناته، ولا في الحمولة «الدلالية»، ولا في الكون «التخييلي» ولا «التداولي» والإيحائي، ودون تأخر عن منجزات «النص الأصل» ، ولا إثقاله بما لا يحمله ولا يشير إليه ولا يتغياه.
يمكن للمترجم أن يكتب نصا أفضل من الأصل، لكنه سيصبح نصا آخر، يصير عبارة عن نتيجة فعل لكاتبين بلغتين مختلفتين. حينها، قد يتساءل البعض: لماذا لا يكتب «نصا» خاصا به هو، إذن؟ أو لماذا لا يختار نصا آخر أرقى لترجمته، يشبع تطلعاته ويأتي فيه المترجم في الحلبة مساويا تماما للنص موضوع ترجمه ؟ !
واقعياَ، تعاني الترجمة العربية، في أحوال شتى، من القصور في مجاراة النص. وكما أشرنا فإن نقادا كثيرين بينوا مكامن قصور شديدة السوء وكثيرة هنا أو هناك
.
تمت ترجمة العديد من الأعمال التي عملت على ترجمتها من قبل.ما الذي يدفع المترجِم إلى إعادة ترجمة المترجَم؟
لم أسْع بتاتاَ إلى الرد على «النغزات» السجالية الحاقدة ولا على أشياء مثل هذه، وغالباً ما تحدثت عن الظواهر، لا عن الحالات الخاصة. وما مادام سؤالك يعيد طرح القضية من حيث الدوافع فسأقول، إن لكل دوافعه الخاصة والقوية. تبدأ من المصلحة الذاتية أو الدراسية أو الرغبة الجامحة في «تسمين» السيرة الذاتية، أو حب النشل إلى الخطأ غير المقصود (وهو البرئ أو وقوع الحافر على الحافر) وخوض التنافس غير المشروع والاستغفال الخ.. لكن – ما لم يكن الدافع بريئا وبنية حسنة- فالأولَى إظهار البينة والحجة الدامغة. وليس اللجوء إلى التعويم والتلبيس وما شابه.. هنا، تُطرَح مسألتان متلازمتان: ضعف النقد الترجمي (وقد أشرنا إلى المظاهر المرَضية الخطيرة التي تستشري في المجال الترجمي) وهشاشة مترسخة للعدالة والعقلانية في مجتمع، المفروض أن يحرسهما المواطن – كل مواطن- قبل الموظف ، فما بالك بالمثقف حين يمارس أمورا كهاته ويسكت عنه، أو تُغفَر له، أو يدَّعي أنه يصحِّح سابقه وهو لا يفعل أكثر من استغلاله بانتهازية؟
لقد اكتشفت أخيراَ جدا – وأنا بصدد تهيئ مواد كتاب «في النظرية والمنهج والممارسة: مترجمات فلسفية . الجزء .1. «- حالتين مؤسفتين: «نص « لجوليا كريستيفا عن «السيميائية والعلمية»، ترجمته – حوالي 1985 تقريبا؟- ووزعته كمطبوع لطلبة السيميائيات بكلية آداب جامعة القاضي عياض، وجدته ، بعد سنوات، قد أعيدتْ ترجمتُه من لدن غير المختص ونُشِر في المشرق، ثم نص ثان لميشال فوكو نشرته في «مجلة شبابية سياسية» وأعيدتْ ترجمته بدوره وتم نشره في المجلة نفسها باسم آخر، وإلخ..
يطرح عبد السلام بنعبد العالي أن اللغة الموظفة في الترجمة هي التي تمكن من الحصول على المشروعية والنبالة الأدبية، وأخص هنا لغات المركز الانجليزية والفرنسية. هذا يطرح مسألة الحديث عن الأصل والنسخة المترجمة.
سبقت الإشارة – ولو بإيجاز- في معرض هذا الحديث إلى المظهرين الكوني – الكِبْري (الماكرو) والمحلي – الصِّغري (الميكرو) للترجمة، والاختلال الخطير بينهما، كما وقعت الإشارة- في الوقت ذاته- إلى «حرب أو صراع» بين اللغات الحية الكبرى على المستوى الكبري والصِّغري وإلى «حرب أو صراع» داخل اللغة الواحدة ذاتها، وفي إطار المجال الثقافي الواحد. لكن كل هذا تحكمه أقطاب ومراكز صراع وهيئات مهيمنة هيمنة كاملة، تفرض على المستهلك والمتلقي سلاليم من القيم والأحكام والأذواق والسلوكات وعلى جميع المستوىات، يتأثر بها ويعمل وفقها في غالب الأحوال.
من ثم، كان هذا العدد الهائل – لا يكف عن التزايد كل يوم- من الكتاب والكاتبات والإعلاميين والمعلقين الخ.. الذين يهاجرون لغاتهم الوطنية وأوطانهم من شرق أوروبا ومن أرجاء آسيا والصين وإفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية ليكتبوا إما بالإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية حتى يمكنهم الولوج إلى العالمية و»النبالة «. وفي المقابل، يلاقي كثير من الكتاب والكاتبات يكتبون بهذه اللغات الحية، ومن داخل أوطانهم، عنتا وضنى شديدين في الكتابة والنشر بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية ، لأنهم ينطلقون من ممارسة مضادة ترفض هذا الوضع بقيمه وهيمنته وأقطابه المكرسة والمقدسة التي تريد تدجينهم وترويضهم وفق هواها. كما يوجد عبر العالم كتاب وكاتبات كثيرون يناضلون، بقوة، لأجل الكتابة بلغاتهم الوطنية الهامشية – أو المنسية – المسألة مسألة اختيار. لكنه اختيار حاسم وقوي، يكمن في جوهر الوجود والكتابة والعمل لدى هذين الصنفين الأخيرين. لا سيما وأن الصراع لزحزحة المركز وتغييره، في الأخلاق كما في التفكير وفي الاقتصاد، صراع بشري مستمر ودموي أحيانا – والكتابة الحقيقية، وكذلك الترجمة، منخرطتان فيه دائما وبنبالة ذات طعم آخر، بشري وحداثي ومستقبلي.
الترجمة نموذج تأويلي، لأنها تعيد بناء المعنى الأصلي للنص، في أفق لغوي جديد. ألا يصطدم المترجم بمحدودية المعارف حيث أنه لا ينقل لغة فقط، بل ثقافة وتصورات اللغة المترجَم منها؟
الترجمة في الدول الغربية- رغم كل شيء- لها تاريخ ثري، وتجارب شديدة التنوع وحاسمة، والنظريات فيها كرصائدها مشتركة ومتبادلة بين الفاعلين. والنماذج التي تناولت الترجمة كثيرة ليس التأويلي إلا واحدا من ضمنها. لذلك، لا أحد يبدأ من الصفر، أو يغض الطرف عما سبقه؛ لأنه مراقَب من لدن مؤسسات شديدة اليقظة، فضلاً عن شراسة النقد وحرارة التنافس. ومن ثم، فالعمل الترجمي يتطوَّر مهنيا وتقنياَ ويبذل جهوداَ مضاعفة للتغلب على العوائق والعراقيل، لأن لا مجال فيه للهواية و التجريب الفج أو ضعف الإمكانات أو التهاون. إن احترام القارئ وضرورة تجويد السلعة لازمان وضروريان، ولا تشذ إلا الاستثناءات.
محدودية المعارف – كما تفضل وقلتِ- واختلاف الثقافات، وتباين التصورات قد تصبح عوائق يعاني منها مترجم لا ينتمي إلى نفس المحيط ولا إلى نفس الثقافة أو مبتدئ أو هاو أو مستهين بما يفعل، لكن لا يعاني منها محترف مُراقب من دار نشر دولية تخاف على سمعتها، ويتتبعه نقاد حادُّو الألسنة.
تجربتكم أستاذ البكري في عالم النشر (عيون المقالات، فضاءات مستقبلية) تمثل نوعا من المقاومة الفكرية والحرص على اختيار الأجود لتقديمه للقارئ. كيف تنظر إلى وضعية النشر اليوم، خاصة في شقها الترجمي؟
أشكرك شكرا جزيلا على هذه الإشارة اللطيفة، والحكم الموجز والدقيق. فعلا، لقد كان ذلك هو الهدف، لا سيما من خلال عمل كله تطوعي صرف. إنما التجربة بدأت قبل ذلك، وكانت شاقة ومضنية، واستمرت سنوات، وتمثلت في العمل على إصدار مجلة «الثقافة الجديدة» بانتظام منذ حوالي منتصف العقد الثامن من القرن الفارط. واستمر العمل بعد توقيفها – القسري- في «عيون»، وفق ما تفضلت بذكره. أما بخصوص وضعية النشر في البلدان المتحدثة باللغة الغربية، فليست بالسيئة اليوم. دور نشر عديدة ومتنوعة، المشكل في القراءة، والجودة، والنقد والتحليل، والتتبع للفحص والغربلة، وتبادل الرأي بكثافة.. أظن أن الترجمة يجب أن تكون عمل جهات متخصصة على مختلف المستويات: منذ مسألة اختيار ما ينبغي ترجمته، أولاَ، ونوعية الترجمة وكيفية إنجازها، وحتى المراجعة والتدقيق، ثم التعليق والنقد، مع بعض الصراحة والنزاهة في ما ينبغي قوله بصدد ما سبق. الترجمة هي الرافد أو النهر أو الساقية، التي تحمل «الماء» لتغذية «المدينة» وسقياها، تربوياَ وفنيا وعلمياَ وفكرياَ وسلوكاَ. فلينظر «أهل المدينة» ماذا يريدونه ويرضونه لمدينتهم من شراب وتغذية؟.