« لا تدع الماء الميتَ يلوث يديك!»
_ أدونيس
طفولةُ حلوان، تصقلُ الذات، وتعلم قراءة كتاب الحياة، وكيف يتم تأويلُ الطين في مراحله، بلولبة اليد، لتوسيع آفاق الخيال دنواً من المجاز وتحليقا من جرف الاستعارات.
طفولةُ حلوان، فطور بالزيت والعسل، ونشيد الفراشات، وهي تتباهى بألوانها.
طفولةُ حلوان، مطر ينعش العشب ويعلن صيامَ الحلازين.
طفولةُ حلوان، قراءة، وتهجي في الكُتّاب، وتسم رموز الصمغ، وليونةُ الصلصال.
طفولةُ حلوان، ركبة جدة، تروي حكايات من مروا ذات نسيان، يرافقهم الشدو الأمازيغي، مصحوبا بخرير السواقي والعيون.
طفولةُ حلوان، شعرٌ ( عارياً أحضنك أيها الطين )
بمباركةٍ طقوسية، بحبور الشاعر المرحوم عبد الله راجع، الذي رأى برؤياه شاعراً يأتي من « حلوان « إلى أربعاء « الفقيه بن صالح « وكأنها أربعاء الرماد لإيليوت، هكذا يحبو الشعر، وينمو عبر محطاتٍ: حلوان – الفقيه بن صالح – الرباط – الدار البيضاء، ولكن العقل والخيال، يحن دائماً وأبداً للربوع، وللهضاب، وللمجاري، ولنشيد الطيور، وشدو الأوتار ليلا.
كل ذلك، ينقشه الشاعر، في قصائده، وفي سيرته البوجبيرية، والتي تجبرك على مرافقة السيرة، من بدايتها إلى نهايتها، كما فعلت بي ذات أرقٍ، حتى الصباح، لتماسك السرد، وشعريته، وتمدد المرجعيات قراءة وحياة.
الشاعر محمد البوجبيري، هادئ في طبعه، يعشق الظل، وصمته، يعيش مع كتبه، وأغراسه، ليتخيل كل آنٍ مراتع الصِّبا، وبدايات البراءة.
الشاعر محمد البوجبيري، لا يوبخ أي مخلوق، ولكن يوبخ فراشات شعره، إذا رفرفت، وتغاضت عن ألوانها.
الجلوس معه يحلو، لأن الجلسة ثقافية بامتياز، بعيدا عن اللمز والهمز، وإذا لم يرُقْه المكان والزمان، يبتعد في صمت وهدوء.
عاشق للحرف، يقلبه ذات اليمين، وذات الشمال، دائمُ الاستماع لخطوات الطريق، حتى تؤدي إلى تجربة شعرية عميقة.
شعر السي محمد، كل بيت عبارة عن قرية أو دوّار، بالطين يلولب ألف سؤال وسؤال، مازجا بين الفلسفة والأدب، مصالحا ومرشدا بينهما، إلى أبعد المسافات.
يعبر الطريق، المؤدي إلى اللا نهائي، يحبذ الكهوف عوض كهف أفلاطون، يسأل الأحذية التي مرت، أيُّ غبار ثار؟ سائلا أنواع التربة، التي أثارها النقع، لأن ( كما لو أن الحياة يدٌ تصفق )، تجربتها ألف سؤال وسؤال، ما أصعب أن يكون السؤال ظلا لطفولة الاستعارات، والمجاز المرسل، ما بين المشابهة والمجاورة أو الكناية، يسخُن الكلام ويبرد، حديد عصيّ على الالتواء، ليّن بحد النار، التي تشرب الماء الزلال من قِربِ الشنفري، وقد أخفاها في الرمل.
لكي تقرأ السي محمد، عليك أن تعاشره، وتتلقى ما يلمح به، لتكوِّن مسرباً من مرجعياته، سواءٌ في الحياة، أم في الحنين، حيث الأم تترقب ظلا من بعيد، يتسلق الظلال، عالياً – دانياً، حتى الاقتراب من التنور، يلمس بأنامله الخبز الإيكولوجي ويشرب اللبن، استعداداً لملاقاة القصيدة، وقد تخففت من الريش، كأنثى حسن الشاطر، بعد معاشرةٍ جعلته، يراقص الفراغ، أما السي محمد فينضج الحرف على تنور، يدرك حكمته، وتأمله، ولو في ضجيج الدار البيضاء.
* ألقيت هذه الشهادة في الحفل التكريمي، للشاعر محمد بوجبيري، الذي أقامته جامعة المبدعين المغاربة، بالمكتبة الوسائطية بالدار البيضاء، يوم السبت 04 ماي 2024.