الشاعر محمد بنيس يعلن وصيته الشعرية

لامندوحة من القول إن الشاعر محمد بنيس من المثقفين العرب الذين تشبثوا بجدوى الشعر، في زمن التصحر الثقافي الذي أتى على الاخضر واليابس في أرض الثقافة العربية، حيث غاب السؤال وتم تهميش المعرفة، ولم يعد للمثقف المكانة اللائقة به كمنتج للرأسمال الرمزي، الذي في غيابه يفقد الإنسان القيم وإنسانيته، خصوصا في ظلّ هذا الجموح الرهيب للتكنولوجية. وأمام هذه الارتكاسة الحضارية والثقافية يعبّر محمد بنيس عن كون الشعر يعيد للعالَم وهجه الوجودي، ويشع الأرض بشموس الأبدية، ولا مهرب للإنسان من مطاردة هذا الكائن اللغوي بأبعاده الجمالية والفنية.

1 – خارج الشعر والشر:
قبل الحديث عن لقاء الشاعر محمد بنيس مع طلبة ماستر ودكتوراه كلية الأداب والعلوم الإنسانية ببني ملال الذي احتضنته المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية ببني ملال، لابد من الإشارة إلى كون الشاعر محمد بنيس من أبرز الشعراء المغاربة الذين واصلوا تجديد القصيدة المغربية المعاصرة، وأسهموا في تثويرها وتطويرها مغامرة ومغايرة، فاتحا أفقا شعريا عماده السؤال المعرفي، والبحث عما يميّز الشعر المغربي عن الشعر المشرقي، وما العودة إلى كتابة النصوص الشعرية بالخط المغربي ( الكتابة الكاليغرافية) ، إلى جانب الشاعرين أحمد بلبداوي وعبد الله راجع، إلا بيان عن حس المسؤولية التي كان يشعر بها محمد بنيس تجاه القصيدة المغربية المعاصرة ، دون إغفال جهوده الجبّارة بجعل الهامش الثقافي مركزا ثقافيا، من خلال، مؤلفات نقدية أضافت الشيء الكثير للممارسة النقدية العربية، وأضاءت دروب الشعر المغربي المعاصر، وتحولت إلى مرجع أساس في هذا المجال، أضف إلى هذا انخراطه المبكّر في السجالات النقدية والبيانات الشعرية، فتجربته الشعرية والنقدية والكتابية لم تزده إلا حضورا قلّ نظيره، فهو دائم الحضور في الأنطولوجيات و اللقاءات الشعرية العالمية، كما ترجمت أعماله إلى ألسن عديدة، فكان لهذا الحضور ألقه وأثره ودمغته في الشعرية الإنسانية. والمتأمل في مظانه سيقف على هذه الحقيقة، والتي تحتاج إلى نفض الغبار عليها بإعادة قراءة هذا المنجز الممتد إلى عقود ممتدة في تاريخ الثقاقة العربية، نظرا لما يميّز الكتابة الشعرية عند محمد بنيس من تفرّد وفرادة.

2 – على تخوم الشعر والشر :
يقرّ الشاعر محمد بنيس بأن مثل هذه اللقاءات، التي تتحدث عنه وتتكلم عليه، تجعله يتخيل أن الحديث يدور حول شخص آخر اسمه محمد بنيس،معتبرا نفسه شخصا بسيطا ، ولج محراب الدراسة في سن متأخرة، مما جعله يشعر بأنه غريب عن الدار / القسم، ولهذا آمن بأن الكدّ والاجتهاد هما سبيل التفوّق والتعلّم والمعرفة، ليتوّج مساره التعليمي بالحصول على شهادة الباكالوريا التي اعتبرها أمرا مستحيلا، مواصلا هذه الطريق التي شهدت انعطافات وتحولات كانت وراء بناء شخصية محمد بنيس الشاعر والناقد والمثقف. إذ كان هاجسه الأول والمهم هو الكتابة والاشتغال في صمت وعزلة منصتا لما يحبه ويكتبه، ومعلنا عن عدم التنازل عمّا يكتب. كما كان شغله الشاغل هو طرح السؤال والشغف بطلب المعرفة، هذا الانهمام كان سببا من أسباب الصراع الذي خاضه أثناء مناقشته لدبلوم الدراسات العليا، الذي لم يحصل عليه إلا بعد مشقة وعنت وصمود من جهته؛ وبإيمانه العميق بصدقية وجدية ما يطرحه من أفكار وتصورات لم تستوعب في إبّانها. لكن بعد نشرها أدرك قيمتها وأهميتها العلمية والأكاديمية، حيث غدت مرجعا أساسا في الثقافة المغربية والعربية، مؤكّدا على أن طريق المعرفة ليس بالأمر اليسير والسّهل، موضّحا أن اختيار منطق السؤال والمعرفة وعدم التنازل عنهما محفوف بالمخاطر والمعاناة، لأنه مرتبط بمفهوم الحرية رغم قساوتها، لهذا يوجه دعوة صريحة يعترف فيها بأن الدراسة صعبة وينبغي على طالب العلم والمعرفة احترام المعرفة فهي العلم، والتعليم مسؤولية خطيرة جدا على حدّ قوله، والمعلم يروم دوما إلى أن يكون طلبته أفضل منه، وعندما يلتقي بهم يلتقي بنفسه، لهذا يحب بنيس أن يبقى متعلما، وبهذا المعنى يحس بأنه مثلهم يتعلم، ومن تمّ يلح على ضرورة الإخلاص للمعرفة لأنها أعلى من كل شيء.فالمجتمع الذي ينبذ المعرفة مجتمع معوق ولن يكون له أيّ تأثير على مجريات التاريخ، ولن يسهم في الحضارة الإنسانية، بينما المجتمع المنتصر للعلم والمعرفة يؤدي وظيفة مهمة تتمثل في إشاعة نور العقل وحيوية الوجدان ونشر ثقافة المبادرة والتفكير.

3 – في حضرة الشعر والشر:
«الشعر والشر في الشعرية العربية» عنوان لكتاب نقدي صدر مؤخرا للشاعر والناقد محمد بنيس يطرح فيه تصورا جديدا لإعادة قراءة الشعرية العربية، التي لا تزال في بداية استكشافها، وهي قراءة ترتكز على اللغة العربية أوّلا، وثمّ على الثقافة العربية التي ارتبطت بهذه اللغة ثانيا، عبر تاريخ طويل وعبر خطابات مختلفة تجمع بين الشعر والقرآن والحديث وفقه اللغة والنقد والبلاغة وعلوم القرآن وما كان لها من صلات متآخية أو متنافرة مع الفلسفة والتصوف، بعيدا عن المرجعيات الغربية، التي كانت تمثل للذهنية العربية مصدر الحقيقة الواحدة والكلية، تصورا قريبا من الإمبراطوريات الشعرية اليونانية والعربية والفارسية والهندية والصينية. معتمدا في هذه القراءة على اللغة باعتبارها خطابا له نسقه وسياقه أي تاريخيته، وقد استطاع الناقد إبراز تحولات مفهوم الشعر انطلاقا من ابن سلام الجمحي ثم الأصمعي وقولته المشهورة « الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل الخير ضعف، هذا حسان (بن ثابت) فحل من فحول الجاهلية، فلما دخل الإسلام سقط شعره» ثم ابن رشيق صاحب العمدة. وتؤطر قراءة الشاعر والناقد محمد بنيس مرجعيات أخلاقية ودينية وفلسفية، أبرز، من خلالها، موقف كل مرجعية من الشعر، ليخلص، في النهاية، إلى أنها مرجعيات تقف موقف النبذ والرفض للشعر سواء في الثقافة اليونانية حيث طرد أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة، ثم سقراط وأرسطو ونيتشه بمطرقته التي قوضت الأفكار واليقينيات السائدة داخل بنية الثقافة الغربية، أو الثقافة العربية التي تأبى إلا أن تحارب كل ما يحرّض على الهدم من أجل البناء، وما طرد ابن رشد منها إلا دليل على هذا الرفض، الذي لا يتماشى مع تطور التاريخ. فالجمحي اعتبر الفحولة معيارا لجودة الشعر بينما الأصمعي جعل الشر باب الشعر، أما ابن رشيق فجعل الطرب باب الشعر. من هنا يتبيّن أن محمد بنيس يطرح مصطلحا نقديا جديدا يتعلق الأمر بمصطلح الشر كآلية نقدية من الآليات الجديدة لقراءة الشعرية العربية, وأشار الناقد إلى ضرورة التمييز بين الدين والشعر، لكون الشر هنا لا علاقة له بالأخلاق أو الدين،لأن القرآن مختلف عن الشعر، وعليه فهو يشكّل أفقا جديدا لإعادة التأمل في الشعرية العربية، التي لم تؤسس بعد -حسب وجهة نظر محمد بنيس- فمثلث التحول الذي يؤطر مفهوم الشعر يتجلى في الفحولة والشر والطرب/ الغناء. وهو موضوع يثير الحساسيات والكثير من التساؤلات المحيرة والمربكة حول الشعرية العربية. وقد ميّز في الشعرية بين نوعين هناك الشعرية المكبوتة والتي ساهم فيها الفقهاء وعلماء الإعجاز والبلاغة اليونانية من تضييق الخناق عليها بتأويلاتهم المغرضة والبعيدة كل البعد عن جوهرها، بالفهم الكسول للآيات القرآنية وتأويلها التأويل غير السليم، والشعرية المفتوحة التي بإمكانها تجاوز هذه المعضلة، والانفتاح على التجديد والكوني والإنساني.ولابد من الإشارة إلى أن محمد بنيس عدّ الاصمعي ناقدا شجاعا لتناوله موضوعا خطيرا، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، من خلال، تعريف الشعر بأنه نكد بابه الشعر، وأن الشاعر حسان بن ثابت سقط شعره عندما دخل الخير، لان مقصديته تكمن في بناء المعرفة.واختراق الجدران الصامتة والصمّاء لثقافة تخاف من اقتحام المواضيع المحرجة والمسكوت عنها. ولن يتحقق هذا المراد إلا بإزالة الحجب الجهل وعدم العلم وغياب المعرفة، فبالعلم والمعرفة نستطيع تشييد فكر خلاق ومؤمن بالابتكار والإبداع.
وعلى ضوء ما سبق يؤكد بنيس على أن استيعاب هذا الطرح يستدعي التعلم لبناء المعرفة القمينة بمقاربة شعرية عربية مازالت لم تبدأ بعد.مما يطرح العديد من الأسئلة حول الحداثة الشعرية ومآلاتها التي بلغتها، حيث الباب المسدود هو العنوان البارز لهذه الشعرية العربية، ولفهمها بشكل جيّد وعميق لابد من قراءة اللغة العربية معتبرا ان الشعراء خالقو اللغات، موضحا أن قولة الأصمعي مازالت قائمة الذات تنطق بأسرار طبقاتها المحجوبة، لذا فاستئناف القراءة إشارة إلى أن القراءة تنتهي دائما لتبدأ، لأن الشعرية العربية – حسب تعبيره- متعدّدة الثقوب، ونحن لا نستطيع الوقف، مهما توغّلنا في النزول إلى الأسفل، وهذا يعكس أن الشعرية العربية في حاجة ماسّة لقراءتها قراءات لامحدودة ولا نهائية، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يعبّر عن قدرة هذه الشعرية على الانفلات واقتحام المجاهيل المبهمة.

4 – وصايا محمد بنيس الشعرية:
في ختام اللقاء وجه الشاعر والناقد محمد بنيس، ولأول مرة، يقترح مفهوما جديدا للشعر باعتباره الكلام الأصفى الموجه نحو العلاقة بالأمس بالآخر، القريب والبعيد ، الحاضر والغائب، والعلاقة معناها الحوار المفتوح الصامت في القراءة ومع القراءة، بهذا المعنى يكون الشعر رسالة للأخوة، زمنها هو الحاضر دائما، متواصلا ولانهائيا. في ضوء هذا المفهوم للشعر أشار بنيس إلى موضوع منسيّ يتعلّق الأمر بصورة الشاعر مبرزا أن صورته قد تكون مفيدة في الإعلان وتعبير عن استئناف الحوار في المستقبل. لهذا يوجه دعوة لقراءة صورة الشاعر، فرغم دراسة مؤلفات الشاعر إلا أن التفكير في صورته تتشكّل بفضل أعماله القيمة والإبداعية والمعرفية، متطرقا إلى أن اسم كل واحد مقدس لا يمكن العبث به،وأن الحديث عن الأنا مرفوض في حياتنا، لذا يجب الخروج من هذا المأزق بإتاحة الفرصة للذات لتعبّر وتفكّر، لتشاكس وتقترح، ومعلنا أنه من أهل لا وليس من أهل نعم. لهذا يجب تجاوز -حسب قوله- ثقافة الإعلام التي عدّها سهلة إلى ثقافة المعرفة، المتّصفة بالصعوبة والمشقة. ويرى محمد بنيس أن الصورة الإعلامية هي المهيمنة والسائدة بينما الصورة المعرفية مغيبة، مشيرا إلى أن الثقافة المغربية لاوجود لها وأن الأدب المغربي الحديث مغيّب داخل الجامعة المغربية، ومن تمّ ليست لنا معرفة بالثقافة المغربية الحديثة، ويرى الشاعر والناقد المغربي أن السياسة لا تبني امجاد الشعوب لكونها عابرة، لكن الذي يبني الأمم هي المعرفة. وأن الكتابة بدون نظرية تكون خارجة هذا الزمن.
ويمكن القول إن انشغالات الشاعر محمد بنيس قد لخصها في النقط الآتية:
– اعتبار الكتابة الشعرية رهانا وجوديا منذ الطفولة إلى آخر رمق.
– توقف الدراسات الجامعية بانتهاء الدراسة الجامعية.
– ممارسة الترجمة في تساوق مع الكتابة الإبداعية والنقدية.
– الاهتمام بالفن التشكيلي من خلال إنجاز أعمال شعرية مع فنانين تشكيليين.
وعليه يبقى السؤال المعرفي الهاجس الأول والأخير لمحمد بنيس، وهذا ما تعكسه مؤلفاته وكتبه ومشاريعه الثقافية، والإخلاص للمعرفة بدون تنازل، لأنها أعلى من كل شيء، وهي السبيل الأنجع لشعرية عربية مفتوحة على المستقبل.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 07/07/2023