الشعر ترياق حياة

«الشعر هو فن جمع المتعة بالحقيقة»
صمويل جونسون

من العسير أن تجد تعريفا دقيقا للشعر، كل التعريفات تبقى محاولات ككل الإشكالات والأسئلة العميقة التي تستغرق الكون. فإن كانت لكوكب الأرض جغرافيات محددة، فجغرافية الشعر ترسم خطوط العرض والطول بمداد شغاف القلب، ولا يكتب الشعر إلا وفق موسقة النبض.
القصيدة حمالة بهاء أسرار الجمال، والمتلقي لابد أن يجد مفتاحا للبحث عن دهاليز القصيدة والمجازات التي تمضي صعدا في معارج التأويل ورؤية / رؤيا ، والقصيدة ـ في حدتها ـ غواية ومن أين للقارئ العاشق أن ينفذ من خلال أحد أبوابها وهي متاهة دلالات؟ من أي اتجاه يمكنه الولوج إلى حدائقها وأعراسها وهي المتمنعة العصية كالحسناء الزاهية بفتنتها ودلالها الأنثوي الأخاذ بسحره الألباب؟ .
لئن الشعر أصل الجمال، والشاعر يسعي لحبك أنسجة الجمال ، لما تتغشاه الحالة الشعرية ، يدرك بالحس والحدس جوهر الفكر، ومنبع تدفق المياه الجوفية الثاوية في حنايا الأعماق والتي لا ينطقها إلا سحر الكلمة التي تأخذ شكلها فوق واقعي ،القول الشعري هو لغة داخل لغة بسمو ورفعة .
لامرية بأن المتعة الجمالية تتماهى في تجلياتها وشطحاتها مع جوهر الفكر وتتشابك مع الملقي ـ الشاعر ـ مع القارئ ـ المتلقي، ليشتركا في العمق والجوهر الإنساني، هل هو محض وهم أم يصدح بالحقيقة، الشعر توليفة غنائية تولد ما نشعر به ونطرب ونسلو ونعجز عن وصفه والتعبير عنه .
” الشعر هو اتحاد كلمتين، لم يكن يتوقع المرء بأنه يمكن جمعهما أبدا” على نحو ما ذهب إليه فدريكو كارسيا لوركا ، أو “الشعر هو موسقة الأشياء التي تنبعث كموجات من خلق صور ترى بالكلمات، وهو الشعور الذي يعتصر من القلب ويخرج منفتلا من أصابع يديك ، فالقصيدة الحقة ـ في حد ذاتها كينونة منتظمة متكاملة كأي كائن يعيش بأشراط الحياة الطبيعية، فإذا اعتورها عطب سواء كانت كلمة في غير محلها أو مجرد علامة ترقيم زاغت عن موضعها، انهار البناء !
الشعر لما تتلبسه لغة مائزة، يرق ويشف، وتصبح الكلمة زهرة تتفتح بأكمام المعاني، فعلاقة  الترابط بين الشعر والشاعر علاقة عاشقين تسري بهما الغبطة والشوق في مراقي اللامتناهي !
كما لو أن الشاعر يقدح البرق، ويذهله قصف الرعد ويدهشه غيث قصيدة تفيض وتترنح بين يديه، يظل الشعر ذلك المجهول الذي لا يقطع كأداء عسره إلا شاعر حق يروض الكلمة ويطوعها حتى تستوي لبنة في معمار ما يشيده من أبهية الجمال .
تقول نازك الملائكة “قد يخترق الشاعر قاعدة لغوية بدافع إحساسه الفني فلا يضير اللغة بل يشدها إلى الأمام”، فالشعر حليب يطفح من نهد اللغة، والحياة بدون شعر وجمال متاهة خراب وخواء .
لامراء بأن الشعر يحدث في الوجدان خلخلة ورجة، والشعراء يتكلمون لغة القلب التي لا تطالها اللغة المتداولة إلا بكد وكدح العناء” يسوق أمبرتو إيكو “الشعر ليس مسألة مشاعر، بل هو مسألة لغة، بل الشعر لغة تخلق المشاعر” وفي ذلك يقول الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما          جعل اللسان على الفؤاد دليلا

الشعر صعب المراس كما وصفه الفرزدق:

تمر بي ساعة وقلع ضرس من أضراسي      أهون علي من قول بيت من الشعر

كم يقاسي الشاعر وهو يروض البياض ويعيش محنة صراعه ومعاناة ولادة القصيدة، والتي تكون ولادة قيصرية دائما.فلا يصفو ويروق والشاعر السابح في خضم موجة تصده لموجة . القصيدة غوص حواس من أجل استجلاء صدفة قصيدة .
القصيدة تجنح بأكثر من  جناح : حيث الحب، والفرح، والدهشة والمتعة. كم جميل أن ينعكس نور القمر على الجدول وأنت تتأمل، ويتم ذلك التشابك العميق بين الأمواج المتصارعة في الدواخل ـ بين مدها وجزرها ـ متسربلة بتداعيات الخيال وشطحات الأحلام .
لحظة الشعر تجذب الشاعر ـ متى حانت وأينعت ـ فتدخله في بوتقتها حيث تماس الضوء بالعتمة واللغة داخل اللغة، ونقطة التقاء الشعر بالفلسفة رغم ما بينهما من تناقض. فالشعر لغة قلب والفلسفة تخاطب بمهماز الأسئلة العقل، ولكن هناك رابط اشفيفا بينهما.
بيد أن هذا الاختلاف الذي يبرز في السطح ، وبين الشعر والفلسفة وشائج وأكثر من علاقة . فالفيلسوف الألماني “هايديغر” يرى “بأن كل تفكير تأملي يكون شعرا ، كما تحمل النصوص الشعرية بدورها بذور التفكير الفلسفي”، وفي الجوهر الشعر هو اللغة بأسمى صورها، وتعجز اللغة لما لاتمسك بجمرة الفكر وتعيد صياغة أسئلة العالم الحارقة لا لهثا عن جواب وإنما عن تناسل أسئلة منتجة ، تفكك بعض ألغاز العالم ومراميه المطلقة. وكثير من الفلاسفة توسلوا الشعر للتعبير عن أفكارهم في الإطار الشعري، والشعر ليس عراء من الفلسفة بل يسقى ويتغذى بها ومنها والعكس ـ لا مندوحة ـ صحيح .
قواسم مشتركة بين الشعر والفلسفة، فكل الغاية تتمثل في المعرفة والكشف عن أستار الحقيقة وتأسيس الوجود بما هو موجود، وتأكد الكثير من المقولات الفلسفية بأن للشاعر أثرا وجدانيا وفكريا لا يقل عن رتبة الفيلسوف .
اللغة تجمع بين الفلسفة والشعر، الفلسفة تبحث عن الحقيقة متوسلة اللغة، والشعر يزدهي باللغة ويزهر، كما أن هناك علاقة وطيدة بينهما، تتجلى في المعرفة. فما تتوصل إليه الفلسفة ، يتجسد في الشعر وشتى الأجناس الأدبية التي تروى بدفق زلالة الشعر وبهائــه.
الفيلسوف يسعى لسماع صوت الحقيقة كما تبدو له، الشاعر يقاربها بأحلامه وشط خياله ويتوجها بتوهجات روحه وإشراقات تتوقد متوجهة في وردة القلب .
جان بول سارتر عبر عن فلسفته الوجودية بوسيط الأدب والفن، توغل “ميلان كونديرا ” في البحث عن العلاقة المتواشجة بين الفلسفة والشعر والأدب عموما، وتقصى ” سيغموند فرويد ” أعمال الرسام ” ليوناردو دوفانشي” و “تيودور دوستويفسكي” وكذا شعراء اشتغلوا بأسئلة الجمال والحرية وحب الأوطان .
باستثناء أفلاطون الذي طرد الشعراء من مدينته الفاضلة، دافع العديد من الشعراء عن الشعر والشعراء، وفي مقدمتهم “فريدريك نيتشه” حيث كتب ” نحب العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائية من أجل الارتشاف من نبع العاطفة ولو أدى ذلك إلى تحطيم الفكر التحليلي”. فالفلسفة تتوسل الحقيقة بطرق أسئلة على العقل، في حين الشعر يبحث عن حقيقته بالحس ونبض القلب، وكل واحد منهما يكمل الآخـر.
الشعر يتيبس ويذبل شاحبا دون لغة ترقى إليه ويرقى إليها، ودون أن يتشبع بالعمق الفكري والإنساني. فالشعر ديوان العرب، أرخ ووثق الحياة العربية بزخمها وتجلياتها المختلفة، بيد أن القصيدة ـ راهنئذ ـ مطالبة بتغيير جلدها بالبحث عن أراض بكر ومدارات جديدة تحتضن وتتبنى زوايا جديدة تتجدد مع التحولات العميقة التي مست الحياة العربية والكونية. إن الفلسفة ألقت بدلوها وساهمت في تطور القول الشعري، والشاعرالعربي ـ سابقا ـ كان الناطق الرسمي باسم جماعة القبيلة، أما ـ الآن ـ فيبحث الشاعر عن صوته الخاص وسط صخب العالم ، فما الجدوى في تكرار المسكوك وحرث المحروث منذ عشرات القرون. الشاعر ينصت لصوت ذاته، وقد غادر الشعر ـ على الأرجح والعام ـ الشعر الخطابي المتوجه للسماع والإنشاد، وحضر الشعر المقروء بهندسة المتحررة مما هو مقنن ومسطور مرصود ، ليسافرـ سبحا ـ عبر موج بتيارات الجدة والحداثة وارتياد آفاق جديدة مندغمة ومنسجمة مع المستجدات المواكبة لما هو حداثي من أسئلة فكرية وأوعية فنية وجمالية، نافضا اليد عما هو متوقع، محلقا بنفسه والمتلقي المحتمل في سماء قصيدة ترنو باحثة عن جغرافيتها الخاصة ، فالشعر ـ الحق ـ يتنطع عن الأقماط ويرفرف حرا طليقا كنسمة أو شذا زهرة ، كل همه أن يفضفض عن واقع لحظته بصدق وينغمر في أسئلته الخاصة حول الكون والحياة ، فقد بات العالم فوضى صراعات وحروب، وأمراض وجراثيم تهدد سماحة الحياة على الأرض، ما أحوجنا للشعر لنعيد أوليات الترتيب …


الكاتب :  المصطفى كليتي   

  

بتاريخ : 01/04/2024