الشعر سفر لا يسلم دائما من العثرات

«قراءة في التجربة الشعرية للشاعر جمال أماش»

 

 

احتفت دار الشعر بمراكش يوم 25 نونبر 2022 بتجربة الشاعر جمال أمّاش، الذي اتخذَ من « الكتابة نمطا للعيش، وسفرا لا يسلم دائما من العثرات، ومعجم حياة خاص بكل الأفكار والأشياء والكلمات التي كتبها، بل عاشها في كل لحظة وفي كل مكان، هي إذن مسار وجودي لذات الكاتب»، هذا تصريح لشاعرنا المحتفى به لجريدة الاتحاد الاشتراكي قبل عشر سنوات بالضبط من هذا التاريخ، اخترت أن أجعله نقطة البدء لاستنطاق تجربة فريدة من نوعها.
تجربة ولدت وترعرعت في كنف قصيدة النثر الحداثية، المتسمة بالإيقاعات المفتوحة وغير المحصورة، وبالابتعاد عن نسق الأفكار المنتظمة وعن التفصيلات المملة، والمتميزة بالتكثيف والتركيز وكثرة المجازات. ويكمن غرضها الأساس في قول الدكتور أحمد تمام سليمان: «إن قصيدة النثر غرضها التفكير وليس التطريب».

إن المتأمل في دواوين شاعرنا جمال امّاش يكتشف أنها تعكس تجربة حياتية ذاتية عاشها الشاعر أو عايشها، عبّر عنها بلغة كلها مجازات تحتمل آلاف القراءات، وتستوعب العديد من التأويلات، تجربة مليئة بالإيحاءات غنية بالبياضات، تستدعي القارئ الحذق لملئها وسبر أغوارها بُغية استجلاء طاقات النص الدلالية والشعورية.
ابتدأ الشاعر الجميل جمال رحلة إصدار أول ديوان سنه ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين (1998) بديوان وسمه ب «اشتعال الثلج»، عنوان يحمل صورة شعرية بديعة، فكلمة اشتعال استُعيرت لشيء لم يُعرف بها من قبلُ وهو «الثلج» من شيء قد عُرف بها وهو «النّار»، فالاشتعال إذن حقيقة في النار، مجاز في الثلج. والمتخيِّل لهذه الصورة يتراءى له وهج النار يلمع فوق البياض الشديد، وكأنه احتراق يسري في كنف روح باردة جامدة، تسلل إليها الفتور وأنهكها هدوء مميت مصطنع يخفي ضجيجا في عمق الأعماق، يشتدُّ في اللّيالي الحالكة، فاشتعال النار في الليل أقوى ظهورا ووضوحا من اشتعالها في وضح النهار.
والقصيدة التي تحمل هذا العنوان في ثنايا الديوان قطعها الشاعر إلى أجزاء وكأنها مراحل متتالية في حياته، وسم كل جزء منها بحرف من حروف الأبجدية (أبجد هوز حط) تلك التي تحمل دلالات قوية في لغة وثقافة العرب، وجاءت متوسطة لقصائد تنخر في دهاليز الذات وتستنطق مكنوناتها.
وبعد مضي سبع سنوات ظهر مولود جديد للشاعر جمال وسمه ب «خطوات تتقدم المركب»، اخترت من هذا الديوان هذه القصيدة التي تحمل اسمه. فهي من منظوري تحكي عن تجربة الشاعر مع قصيدة النثر الحداثية؛ إذ يحكي في قالب كله رموز وإيحاءات عن بدايته الأولى، وأغلب الظن أنه يقصد ديوانه الأول «اشتعال الثلج’’ وتلك الهجمات التي تعرض لها من معارضي قصيدة النثر، ويصرح في ثنايا القصيدة بأنه كان يعلم سلفا أين وضع نفسه بقوله: «جسدي فوق النّار وليمةً للألسن والأسنان، شهيا لذيذا، ولا تكاد تنتهي منه بهائم الحظيرة، حتى تصعد حروف اسمي بأصابع أخرى». ومع ذلك فكل هذا لا يثنيه عن هدف اختطه وآمن به، فهو يرى من شرفته ما يريد، وفي الشرفة ما يدل على العلو والوضوح. كما يتخلل هذه القصيدة مونولوج داخلي غاية في الإبداع يرفع فيه الشاعر همم نفسه لمواصلة السير قدما في طريقها، فنبضه يلمع رغم ليل القرية القادم في كفن (أي فشعره يسطع رغم هجوم المعارضين). ويختتم الشاعر قصيدته هذه بعبارة رمزيه يقول فيها: ‘’والفجر بعيد هذا الصيف»؛ هذه العبارة تكشف عن إصراره في المضي قدما وبخطوات ثابته لتقدم موكب هذا النوع من الإبداع الشعري.
وبعد خمس سنوات تتزين سماء الإبداع بديوان ثالث للشاعر جمال، وقد وسمه ب «حارس النبض»؛ إذ استعار أيضا الحراسة لشيء لم تعرف به أبدا وهو النبض، فالحراسة إذن حماية، والنبض حياة ووجود. استوقفني كثيرا هذا العنوان متسائلة: ماذا يريد الشاعر أن يقول؟ أهو أمل في حماية من كل ألم، أم أن الشاعر يكشف عن بزوغ ذلك الفجر الذي كان بعيدا ذاك الصيف؟ أم أنه يشي بتبدد مخاوفه وزوالها؟ أهو نوع من الطمأنة أم أنه على النقيض من كل هذا، ربما يحمل بُعْدَ التضييق في الكتابة الإبداعية التي أشار إليها بلفظه «النبض»؟
إنها كلها تساؤلات يجيب عنها فقط الإبحار من أعماق النص ببدلة الغوص، وعتاد مهم من آليات التحليل وأدوات التأويل لملء كل تلك البياضات والظفر بغنيمة دلالية ماتعة تشفي الغليل.
وبعد قرابة عقد من الزمن يصدر الديوان الرابع للشاعر جمال والموسوم بـ «ملح الفجوات» عبارة تحمل بعدا إنسانيا يحوي بين طياته دلالة الجبر، فالفجوة في اللغة هي ذاك المتسع بين الشيئين، هي ذلك المكان الفاصل، هي تلك الهوة بين أمرين، والملح في اللغة هو الحسن، يستخدم في تطييب الطّعام وحفظه، والمقصود هنا هو تلك المادة التي تلأم الفجوة وتسد الهوة، وتمنحها طعماً وحسنا، وتزيل عنها الجفاء والانفصال والانشطار.
وما شدني أكثر في هذا الديوان هو الإهداء، فالشاعر أهداه إلى السيدة عائشة أمه، إشارة إلى أنها شكلت في حياته – وربما لاتزال تشكل – ملح المجالس وبهاءها، وزينة الحياة وصفاءها، وبلسم الفجوات ودواءها.
ومن ملح الفجوات إلى «سأم المسافات» في رحلة جديدة اختمر فيها عمق التجربة، باحت به مسافة السنين مخلّفه وراءها روحا متعبة وجسدا منهكا، تسلل إليه اليأس فأوقف نبضه رغم استمرار وجوده بين الأحياء، وجود صامت يراقب ويتحسر.
ديوان «سَأَمِ المسافات» ديوان اكتسحت سماءه غيوم اليأس. وبالرغم من أن الشاعر في هذه التجربة الحديثة ملأ العديد من الفراغات على غير عادته، فإن فراغا كبيرا في ثنايا نفسه طغى على المشهد. ويبدو لي أن هناك علاقة تفاعلية بين الملح والسأم وبين الفجوة والمسافة.
وخلاصة القول؛ فتجربة الشاعر جمال أماش تجربة زاخرة غنية لا تتأتى بسهولة، ولا ترخي بخيوطها منذ القراءات الأولى، لا يمل القارئ منها ولا يكل، تحرك عقله قبل وجدانه.
وختاما أؤمن بأن لكل امرئ من اسمه نصيب، ونصيب جمال من الجمال وُزِّع في ثنايا دواوينه، دون إغفال جمال روحه الذي تشي به كلماته ودماثة أخلاقه التي يُقِرُّ بها أقرباؤه وخِلاّنُهُ وتلامذته وكل من عرفه أو عاشره.

* أستاذة التعليم العالي مساعدة بالمركز
الجهوي لمهن التربية والتكوين مراكش ـ آسفي


الكاتب : د. سالمة الراجي *

  

بتاريخ : 13/01/2023