كل من تتبع بإمعان فيلموغرافيا المخرج إدريس المريني لا يلبث أن يلاحظ وجود خيط ناظم بين أفلامه الخمسة يتجلى في قوة حبكته الدرامية وسلاسته الحكائية وعمق مواضيعه. ولا شك أن تجربته التلفزية قد مكنته من تطويع الآليات التقنية في معالجته الفنية. وسوف تتأكد ملامح هذا النهج الأسلوبي في طرح سؤال الهوية والذات كاختيار فلسفي بدءا من فيلمه الأول بامو(1983) الذي يرصد عبر قصة الحب التي تجمع بامو(بديعة ريان) وباسو (محمد حسن الجندي) ملامح من التاريخ المغربي المسكوت عنه في مرحلة المقاومة الوطنية ضد المستعمر الفرنسي. وقد نجح رغم الإمكانيات المحدودة والعراقيل الإدارية، في التعبير بجرأة فكرية غير مسبوقة، وإن لم تكن بعد واضحة المعالم، عن الجانب الواقعي التاريخي في هذه الصيرورة. وهكذا استطاع أن ينتزعنا من نوعية الأفلام الملحمية التي تسعى لتلميع صورة المقاوم البطل ليكشف لنا أن صفاء العاطفة الطوعية التي تجمع المحبين بامو وباسو كانت سلاحا أقوى لتحقيق هدفهما النضالي النبيل، عكس الموقف الذي يبدو عليه الفقيه الحافظ للقران والغارق في سبات الجهل والتقاليد الباترمونيالية التي تفقده الإحساس بتناقضاته، وتدفعه إلى وضع يده في يد المستعمر مقابل حفنة من المال.
وحتى في فيلمه لحنش (2017) ذي القالب الفكاهي والدرامي، الذي اعتبر عدد من المتتبعين والنقاد أنه لا يرقى إلى مستوى أفلامه السابقة، فإنه لم ينسلخ في نظري عن عادة المخرج في مساءلة الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية التي تسيطر داخل الدولة ومؤسساتها، وخصوصا الأجهزة الأمنية، كالرشوة والنصب والاحتيال والتعسف وكل أشكال الفساد.
أما فيلم عايدة (2015)، الذي اختير لتمثيل المغرب في جائزة الاوسكار برسم الدورة الثامنة والثمانين، فقد استطاع من خلاله إدريس المريني أن يعاود نفس الأسئلة حول الذات والهوية، بشكل أكثر عمقا وتجريدا. يحكي الفيلم قصة امرأة يهودية ذات أصول مغربية (أدت الدور بتميز نفيسة بنشهيدة)، تسافر إلى فرنسا قصد العلاج بعد اكتشاف إصابتها بداء السرطان. لكنها تقرر العودة إلى المغرب بلدها الأصلي، فتكون هذه العودة مناسبة لاسترجاع حياتها عبر تقنية الفلاش باك ووسيلة لاكتشاف أن كينونتها لن تتحقق إلا في بيئتها الأولي. وقد عبر المخرج بنباهة عن هذه الرحلة الوجدانية باعتماد اللقطات المكبرة التي تتطلب، في التشخيص أساسا، تعابير الوجه والحركية الدائرية للكاميرا عوض الاكتفاء بعملية «المجال- ضد المجال»، حتى تنأى بالمتفرج عن الإحساس بالرتابة والملل، ناهيك عن الصرامة في إدارة الممثلين وعدم اللجوء للميلودراما الاستسهالية لذكاء المتفرج. وهنا أتساءل: لماذا أغفلت لجنة تحكيم المهرجان بطنجة في الدورة 22 مكافأة عبد النبي البنيوي عن دوره في فيلم «جبل موسى»، علما أن دوره كان مركبا بنفس القدر بل وأكثر من دور يونس بواب؟
نحن إذن أمام مخرج محترف يعرف كيف يرفع تحدي الإبداع، يساعده في ذلك شغفه بالأدب عموما والرواية بالخصوص، التي تعبر فيلميه بامو المأخوذ عن رواية لأحمد زياد وجبل موسي للأديب والسيناريست عبد الرحيم بهير. هذا ما أتبثه إدريس المريني بحرفية وجرأة وعمق في الطرح غير معهودة في فيلمه الأخير. فحرصا منه على ألا يضيع الحكي في متاهات الكليشيهات الميلودرامية، التي تعتبر خطئا أو جهلا، عماد أفلام التلفزيون (كما أثبت ذلك سكورسيزي في فيلمه theIrishman على نيتفليكس سنة 2019) ، فقد حاول المزاوجة بين الحقيقي والخيالي والتاريخي والسيكولوجي عبر التحكم في زوايا التصوير وأداء الممثلين والتوليف وكل مراحل إنجاز اللقطات والمشاهد المركبة بعضها على بعض لتعطينا تشكيلا بصريا مليئا بالحيطة والتأني، طبعا في حدود منتوج وطني خالص.
تتأسس بنية فيلم جبل موسى على لقاء مصادفة بين شخصين لا يجمعهما شيء سوى عشقهما للفكر الفلسفي وقراءة الشعر وتذوق الموسيقى. روابط ستتطور رويدا رويدا بغير قليل من التصادم إن على المستوى الجسدي أو الفكري، لتنتهي إلى علاقة صداقة روحية متينة. الأول حكيم (يونس بواب) شاب «مقعد» في كرسي متحرك، لا يتحدث إلا بالإشارة أو الكتابة، ذو اضطلاع واسع بأمهات الكتب الفلسفية والأدبية ومتعطش لمعرفة الحقيقة، ما يدفعه إلى رفض كل القيم المجتمعية السائدة ما لم تخضع للمساءلة العقلانية، والثاني مروان أستاذ مادة الفلسفة (عبد النبي البنيوي) المعين حديثا كمدرس بإحدى قرى المغرب المعزولة، والذي ظل سجين الموروث الثقافي لبيئته يكبح كل طموحاته نحو التحرر التي اكتسبها بفضل تكوينه الفلسفي وبالتالي راغبا عن كل ما يعرقل مسيرته المهنية.
من هذا التعارض يبدأ السجال بين الإثنين على طريقة المنهج السقراطي لتطهير الوجدان وتحقيق الذات العالمة. الشيء الذي أدى إلى إضفاء طابع فلسفي على الحوار قد يستعصي أحيانا على الفهم عند غالبية الجمهور. وقد كان في اعتقادي هذا الاختيار نقطة قوة في بناء السيناريو الذي ظل أمينا لعمق الأفكار ومجريات الحكي دون الركون إلى تبليد المتفرج وفق ما يريده، ودون فقدان شروط الفرجة التي تستوجبها الكتابة السينمائية، والتي استطاع المريني أن يبلورها باستغلاله الذكي لأدوات التعبير الفني: المونتاج والتأطير والمؤثرات الصوتية والموسيقى… التي أبانت فيها سلوى شودري عن قدرتها على مسايرة أساس القصة من خلال أغنية الجنيريك، الشيء الذي يفسر أيضا شد انتباه المشاهد حتى وهو ينصت إلى مقولات ابن عربي ونيتشه… لنتذكر بأن الفيلم يفصح عن خاصيته انطلاقا من الجنيريك حيث تختلط الأضواء دون تمييز مصدرها بدقة، إيذانا برحلة في عمق الذات التي وجب إخضاعها لعملية تطهيرأو الكاتارسيس بالمعني الأرسطي.
انطلاقا من هذه اللحظة تتكشف لنا حقائق الشخصيات بعملية استرجاعية بدءا بفتيحة أم حكيم (لعبت الدور السعدية أزكون) التي كانت صلة الوصل بينه وبين مروان، والتي ظلت تحيطه بحب وشغف إلى أن قضت نحبها بين يديه، فيبادلها نفس الشعور حتى وأنه قد علم أنها ليست أمه البيولوجية. بالمقابل ظل التشنج والغيظ يؤججان عواطفه نحو أب انتهازي غير مكترث بما يجري حوله (عمر عزوزي الذي نتساءل إن كان حقا أبوه) وقد جعل من العمل السياسي مطية لتحقيق نزواته الجنسية، خاصة بعدما التقى حبيبته التي لم تتخلص من عقدة الانتقام وقد اقترنت بهذا الأب لا حبا فيه ولكن ضدا في حكيم بعد أن طردها من حياته. فيفتعل حادثة السير التي أدت إلى قتل الأب المنعدم الأخلاق والمبادئ. من هنا نفهم سر الانعزال الطوعي لحكيم عن العالم الخارجي وسبب التمزق النفسي الذي ظل يعانيه قبل مجيء المخلص مروان. هذا الأخير الذي يصطدم، والمتفرج معه، في غمرة هذا البحث عن الحقيقة، بأن السيدة عايشة (سهام أسيف) التي شرع في مراودتها، لم تكن كما يعتقد خليلة حكيم بل أمه.
بهذا الأسلوب التدرجي يصعد بنا المريني درجات في سلم البحث عن الحقيقة ويحلق بنا في عوالم التأمل الذي يزعزع إلى حد كبير الوثوقية المكتسبة من المسلمات الموروثة دون مساءلتها. فالاستعارة المجازية لمحنة موسى مع قومه وهو في طريقه إلى الله، تماما كما يصعد مروان الجبل حاملا أعباء الصعود بالكرسي المتحرك، هي ما أوصله إلى الحقيقة التي ظل حكيم يخفيها عن الجميع: خدعة الإعاقة. هنا تتجلى قدرة الفيلم على أسر كيان المتفرج وزعزعة طمأنينته بوضعه أمام زيف الواقع الذي ما فتئ يتخذه كحقائق مطلقة. من هنا ندرك معنى الإحالات السينيفيلية التي استغلها المريني بذكاء لبعض كبار المخرجين وبالأخص ميلوش فورمان Forman Milos في فيلم «الشعر» Hair في المشهد الذي ينتشي فيه مروان بسيجارة حشيش، سرعان ما تقحمه في كابوس ذبح حكيم من طرف جماعة متطرفة يقودها فقيه (عبد اللطيف الشكرة). لقد ذكرني بمشهد جون سفايج John Savage حينما دخل في غيبوبة أحلام جميلة يرى فيها نفسه ممتطيا صهوة جواد وتحيطه مجموعة من الراقصات وقد تحققت أمنيته في الزواج من ملهمته، قبل أن يستفيق في الصباح ليجد نفسه ملقى على قارعة الطريق.
خلاصة القول إن هذه الرحلة الوجدانية التي تسمو بالروح وتدعو المتفرج لمساءلة العقل فكريا وإنسانيا لفك لغز أو على الأقل لفهم إشكاليات الوجود والإيمان التي يطرحها فيلم جبل موسى، دون إغفال جانب المتعة البصرية، هي التي اكسبته هذا الاهتمام إذ دونها لما نال منا كل هذا التبجيل.
الصعود الى أغوار الذات في فيلم «جبل موسى» للمخرج إدريس المريني
الكاتب : محمد كلاوي
بتاريخ : 04/02/2023