قال ابن العربي في إنشاء الدوائر “…فالوجود والعدم عبارتان عن إثبات عين الشيء أو نفيه، ثم إذا ثبت عين الشيء أو انتفى فقد يجوز عليه الاتصاف بالعدم والوجود معًا، وذلك بالنسبة والإضافة، فيكون زيد ــ الموجود في عينه ــ موجودًا في السوق معدومًا في الدار .. فلو كان العدم والوجود من الأوصاف التي ترجع إلى الموجود كالسواد والبياض لاستحال وصفه بهما معًا…”
(***)
العدمية في التفكير والواقع هي من مداخل إفساد الوعي والإدراك والمجتمع والسياسة، وتؤدي في مساراتها إلى إفشال وهدم كل ما هو جميل ومكتسب من تجارب تطور الاجتهاد والعطاء البشري مجتمعيا وإنسانيا وأخلاقيا، فكريا ومعرفيا، كما أنها تزور وتقلب معرفة وفهم دور العقل والدين، إنها تتعمد صنع الفشل لإحباط وتعطيل الإبداع والعمل المتنور، وتسعى لكسر قوى الإصلاح والتغيير، ولتهميش النخب العالمة والمجتهدة والصادقة ..
إنها «منهج « في بعض السياسات يمارسها أحيانا من هم في المسؤوليات والمؤسسات وفي مقابلهم من يمكن أن يطلق عليهم» الروافض» و»الخوارج» في السياسة والعمل، ومرات يعملان بتكامل وانسجام دون سابق تنسيق أو به لإيصال غالبية الناس إلى متاهات تشبه ثقبا أسود يبتلع كل شيء : العقل والثروة ، و حتى أضواء التفاؤل عند الإنسان تدخلها العدم ..
إن العدمية السياسية من موقع السلطة والمسؤولية تعطل التنمية وتخضعها لبيروقراطية جوفاء مغرقة في التجزيء والترقيع والمعالجات الهزيلة المردودية والفاقدة للصلاحية، تشكك الناس في كل ما يقال ويتم الالتزام به ويقدم كوعود وبرامج عمل، وتيسر حدوث أزمة مهلكة للمجتمع بفقدان الثقة في الصالح بسبب طغيان الطالح المتقمص لدور الناصح والمصحح !!، إن أثرها المدمر يبني ويحدث مزاجاً عاما تغلب عليه الكآبة والتشاؤم كرد فعل تجاه الخلط والغموض والتناقض الذي اصطبغت به السياسة من جهة، وفي توظيف « الديني» لها من جهة أخرى للسيطرة على مؤسسات الحكم وعلى المجتمع وتمييع عمل النخب .. ، وتتسبب في عزوف ومقاطعة الناس للاستحقاقات بما فيها الانتخابات – وذلك من مخططاتهم – لأن ما تفرزه وما تقوم به غير مقنع ، ويشكك فيه الجميع وخاصة الذين لايعملون من أجل التصحيح والنقد البناء ولايفرحون إلا عندما يجعلون الإفساد والفشل مرسما ومحبطا لكل أشكال الإصلاح ..
وهكذا يرتفع منسوب القلق والغضب والخوف عند الشعوب بسبب تبلور موقف عام من عدم استيعاب وتفهم وتقدير الحاكمين لما يحصل في الواقع، و التجاهل والاستخفاف بأمور الناس ومعاناتهم ومشاكلهم وانتظاراتهم، مما يشكل خارطة طريق الإفلاس والفشل، وتقوي لوبيات المضاربة بالتأزيم، كما تنتشر مظاهر الاحتقار والحط بالإنسانية وبقيم الكرامة، وتطغى اللامبالاة كوجه من وجوه العدمية عند البعض من الأجيال الجديدة وحتى عند النخب.
إنه من الواجب على الجميع التعامل بيقين، والعمل بجد لتجاوز خطورة السياسات المصالحية المتسلطة العدمية عند العديد من الدول المتقدمة والمتحضرة في علاقاتها بدول وشعوب العالم الثالث أو السائرة في طريق النمو المتعثر، والتي تزداد سلطتها وقوة تحكمها لتصل إلى درجة الإخضاع والتبعية والاستعباد الجديد المغلف بالحداثة والعصرنة والتمدن ..
ومن العدمية التنظيرية والسياسية الاعتقاد المغرق في توهم أن تعطيل وتدمير النظام السياسي والاجتماعي المهيمن ومسح كل آثاره هو شرط أساسي لأي تحسن في المستقبل، وبعلة تجديده وتغييره وتقويته بصيغ تلائم الوضع الراهن في علاقته بالمستقبل يتم السعي لجعل آثار العدمية تطال الأحزاب السياسية والمعارضات ونخب المجتمع المدني بمن فيهم المثقفة والخبيرة حتى تكون مسارات إعادة البناء متحكم فيها ولا تتعارض مع مصالح « النخب» التي تطمع في الحكم والتحكم ولا مصلحة لها في التغيير والإصلاح، ففي زماننا هذا ثورات وحركات قامت على هذا الأساس وتحولت إلى ديكتاتوريات جديدة أسوأ وأقبح من سابقاتها ..
ومن أخطرها التي تستغل توظيف الدين في السياسة ليكون الحكم لهم دون غيرهم وليس لله كما يوهمون الناس، وأن من يخالفهم أويعارضهم وحتى من ينصحهم يعتبر خارجا عن الدين وعن الملة وكافرا، وأوجدوا لترافعهم التضليلي ترسانة من الفتاوى تهدر الدماء بمسميات مختلفة، وتفرق الأسر، وتسمي «السرقة» بالغنائم، وتسبي وتستعبد الحرائر والأطفال، كما أن البعض الآخر يروج لرفض الآخر ولو كان من نفس المذهب والعقيدة، إنهم يبيحون لأنفسهم مختلف الأساليب لجعل كل مخالف لهم في السلطة والمؤسسات والمجتمع عدما ، وروادهم متشددون ومتطرفون من مختلف الشرائع السماوية والمذاهب، وهم بذلك يفسدون حياة الناس ويناقضون العقل والفطرة الإنسانسة، ويعصون الله ويعملون بأعمال المغضوب عليهم والضالين في كل الملل والنحل ..
إن ما هو معروف وملموس وموثق في واقع وحياة شعوب بعض الدول التي تدعي أنها تطبق الشريعة وتعمل بمقتضاها وترضي الله في كل ما تقوم به ؟؟ أن دولا غربية «مغرقة « في العلمانية كما يصفونها أرحم وأعدل وأفضل منهم في كل المجالات ويطبقون ببلدانهم كل ما فيه احترام وتقدير للإنسانية وتطوير لكل قيم وتجليات العدل في مختلف مجالات الحياة وعمل المؤسسات.
إن العدميين يؤطرون أشخاصا مستقطبون من النتائج الصارخة لسياسات اللاعدالة واللاعقلانية واللاتنمية، لتحويلهم إلى طابور يجند لتكريس تأزيم الأوضاع، وتعليمهم مكائـد وطرق التبخيس والنقد الهدام ورفض كل تغيير بناء وإصلاح نافع ولتعطيل المبادرات الطيبة الصادقة والموضوعية، إنهم إما يسفهون أو يبدعون أو يحرمون أو يكرهون كل جديد لايروقهم، ويتخوفون من كل ما قد يدمر ريعهم وتحكمهم وتسلطهم، إن قصدهم هو إبعاد وتيئيس وإحباط كل من ينتقد ويسعى إلى التجديد وإعادة البناء .
إن العديد من المنظرين للعدمية السياسية هم وسطاء من صنف «الشناقة» يسعون بين الناس بالنميمة والغيبة والكذب وتزييف الأخبار ونشر المعطيات المغلوطة وصنع صراعات هامشية جوفاء للالهاء، غايتهم أن يخلو لهم المجال ليجهزوا على ما تبقـى من مكتسبات ومنجزات بناها وحققها حُماتها الشرفاء بالمؤسسات والمجتمعات عبر تاريخ الأوطان … وأثناء ذلك وبعده يسبون الملة والشعب والوطن وعظماء الشعوب وكل ما هو جميل فكرا وعملا وتاريخا، فيتوارى بعضهم لتقمص أدوار الناصحين والواعظين المبشرين بما لايؤمنون به في انتظار ما يسعون إليه، أي السكتة القلبية والدماغية التي تضرب كل شيء ليشمتوا في الجميع وليعيثوا في الأرض فسادا وتجبرا، ويصدق على هذا الواقع المتردي قول الشاعر طرفة بن العبد:
(يالك من قنبرة بمعمر ** خلا لك الجو فبيضي واصفري )
إن من مسؤولية كل الخيرين هو القطع الفوري مع كل من يعرف أن أعماله وسياساته ستؤدي إلى هلاك وإفلاس أي الوطن بكل ما فيه، والقطع مع الذين يفسرون مؤشرات وتجليات الأزمات العميقة والهيكلية بأنها نتيجة «منطقية « للتطور وإلإصلاح، وينعتون منتقديهم بعدم الفهم والضبابية في الرؤية، ويحاولون إقناع المتضررين بأن بصبرهم وتحملهم للإفلاس والفاقة يتحقق الخير في الدنيا والآخرة، إنهم ينهجون سياسة إبليس الذي زين ويزين للناس أفكارا وأعمالا فاسدة يحببها لهم حتى يهلكهم، إن الشيطان بمكره وعدائه للديموقراطية والحق والعدالة بمختلف تجلياتها يتبرأ ممن اتباعه بدءا وانتهاء، إنهم وأمثالهم يسوقون الناس إلى فتن كقطع الليل المظلم تخرب بنيان الدول والحضارات وتشتت الإنسانية والجماعات، وتتسبب في رعب وخوف وفقر وظلم كبير لايبقي ولا يذر، إنهم يجهرون بالكثير من الأفكار والتوجهات الحمقاء مثل قولهم إن كل المشاكل والأزمات والظلم والفشل من علامات غضب الرب على الإنسان، وهم يبعدون الناس عن حقيقة أن سياساتهم الفاشلة وغير العادلة هي سبب كل الابتلاءات وسبب تخريب وتشويه كل ما هو جميل ونبيل .
إن الدخول إلى عوالم الإصلاح والبناء للالتحاق بركب الدول المتقدمة يكون بالقطع مع كل أنواع العدمية وأصحابها، ومع كل السياسيات والبرامج التي تتآلف مع الأزمات وأسبابها المباشرة وغير المباشرة .
إن التأخير والإعراض عن الإصلاح والتغيير العمليين، والالتجاء لحلول آنية محدودة الأثر ضعيفة الجدوى، يعدم المبادرات والطموحات والإرادات المترددة ويقبر النوايا الحسنة، ويكرس التخلف، ويرسخ آليات التحقير والاستخفاف والظلم ، ويجعل الميوعة والابتذال والارتجالية والعشوائية أمورا طبيعية بل من البرامج الممدوحة.
إن إعادة بناء الإنسان والعقل وتقوية الإرادات وفق خارطة طريق وعمل مرحلية واستراتيجية بروح إنسانية وطنية راشدة في كل شيء أمر استعجالي وملح، وحد فاصل بين الجد والعبث، وبين محبة الوطن الحقة والاستمرار في التهور …
إن « السياسي « عندما يسعى لكسب ما يهوى لنفسه ليرضي غروره وطموحه وطمعه، وليجعل شؤون الناس والآمهم وفقرهم وهشاشتهم وأميتهم وحسن نيتهم وسذاجتهم مطية لتحقيق كل ما يريد ، يهوي بهم في عدم يرفع منسوب اليأس إلى مداه لينحسر التعقل والصبر، لصالح الاستسلام للعدمية كقدر لامفر منه .
إن المجتمعات تحتاج إلى نخب و سياسيين بقلوب العارفين التي لها عيون بصيرة محبة، تدرك وتتفاعل بكل تعقل وإنسانية راقية وتبذل الجهد من أجل قضاء مصالح الناس وتنميتهم وتقدمهم، فاللهم احفظنا ونجنا وأبعد عنا وعن مراكز الاستشارة والقرار والتخطيط والتسيير من لهم آذان لايسمعون بها وقلوب لايعقلون بها ، وأنفس لاضمائر لها ..
قال أحد الشعراء وقيل إنه الشافعي :
نَعيـبُ زمانَنـا والعيـب فيـنـا
ومـا لزمانِنـا عـيـبٌ سـوانـا
ونهجو ذا الزمـانَ بغيـرِ ذنْـبٍ
ولـو نطـق الزمـانُ لنـا هجانـا
وليس الذئبُ يأكـلُ لحـمَ ذئـب
ويأكـل بعضُنـا بـعـضًا عِيـانـا
« الشناقة «/ الوسطاء : تعريف عامي للذين يحشرون أنفسهم في الأسواق لإفساد البيع أو للتغرير بالمشترين، وهو مرتبط أكثر بسوق البهائم .