العدول عدول، والموثقون موثقون، كلمات تكررت في شهر واحد، وفي مجموعة من البيانات الصادرة عن بعض المجالس الجهوية للموثقين، بل وفي بيان المجلس الوطني للموثقين بتاريخ 12 نونبر 2023.
توقيت هذه البيانات، والتشابه في صياغتها، لا يمكن تصنيفه إلا في باب ردة الفعل، نتيجة ضغط ما ومحاولة لتصريف مشاكل داخلية، أو جراء الاعتقاد والإحساس بنهاية عقود من الاسترزاق والانتهاز في ظل الريع، ولذلك غاب التأصيل القانوني، والمسحة الأخلاقية المطلوبة، بل إنها أخطأت الوجهة أيضا، حيث وجه الموثقون لمهنيي التوثيق العدلي، عبارات السب والقذف وأوصاف من التنقيص والنعوت غير الأخلاقية بينما التصريح الذي استفز تلك البيانات، لم يصدر عن الهيئة الوطنية للعدول، بل صدر عن السيد وزير العدل أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، وذلك بشأن قرار وزارته إسناد الاشتغال بآلية حساب الودائع، لدى السادة العدول.
ومن بين المغالطات والجهل والمفضوح بالقانون، معارضة بيانات الموثقين، إسناد مسطرة الاحتفاظ بودائع المتعاقدين للسادة العدول، مدعية أنها اختصاص، حصره المشرع القانوني في مهنتهم، لما يقارب القرن من الزمان، بعلة انعدام المؤهلات لدى العدول، من جميع الجوانب لتلقي هذه الأموال والودائع وتدبيرها، ومعتبرة ذلك تراميا على هذا «الاختصاص»«، ويتنافى مع مهنة التوثيق، ومهددة بالنزول إلى الشارع والدخول في أشكال نضالية إن لم يتم التراجع عن ذلك.
ان خروج الموثقين ببيانات استنكارية، كانت مناسبتها، الاحتجاجات والوقفات التي دعت إليها الهيئة الوطنية للعدول ونظمتها ضد المادة 8 من مشروع قانون المالية لسنة 2023، التي أسندت اختصاص توثيق عقود السكن المدعم من طرف الدولة للسادة الموثقين دون السادة العدول، وبما أن المناسبة شرط كما يقال، فإنه كان على المجالس الجهوية والمجلس الوطني للموثقين أن تبقى في إطار المناسبة، وأن ترد على هذه الاحتجاجات بما يقنع بوجهة نظرها في هذا الإسناد، وأن تجيب على الأسئلة التي يطرحها السادة العدول، من قبيل هل إسناد توثيق السكن الرئيسي المدعم، حق وإنصاف للموثقين، أم هو ريع تشريعي أو امتياز إيجابي لهم دون غيرهم، لكفاءتهم في حفظ أموال الزبناء؟ أم هو ماذا؟ وعلى أي أساس قانوني أو واقعي، تم هذا الإسناد، وهل يستقيم هذا الإسناد التمييزي مع المقتضيات الدستورية بخصوص المساواة والعدالة التشريعية وتقارير مجلس المنافسة؟ وهل يتوافق ذلك مع طبيعة المهنتين المنتميتين معا للتوثيق الرسمي المخاطبتين بنفس المقتضيات القانونية الضريبية حينما يتعلق الأمر بالواجبات والالتزامات- مدونة تحصيل الديون العمومية نموذجا-؟ وهل بمثل هذا الميز نضمن انخراط المهنتين معا في النموذج التنموي الجديد؟
الأكاديميون، ورجال القانون، يدركن جيدا انحراف ادعاءات الموثقين، ومجانبتها للصواب وتنويرا للرأي العام وإحاطته علما بالمعطيات اللازمة، يمكن التساؤل بشكل عام وجامع: أين هو النص القانوني الذي حصر مسطرة الإيداع وأقرها كاختصاص للموثق وحده؟ ومتى أصبح الموثق مؤسسة بنكية يحق له الاحتفاظ بالودائع المالية؟ أليس هذا دور حصري للمؤسسات البنكية، ولصندوق الإيداع والتدبير كمؤسسة عمومية مالية خولها لها قانونها حق الاحتفاظ بهذه الودائع؟ وهل إن مسألة الاشتغال بآلية حساب الودائع من لدن منتسبي التوثيق العدلي، هي التي ستهدد الاستقرار في ساحة العقود؟ وهل الطريقة الحالية المعمول بها الآن لدى الموثقين والكيفية التي يدبرون بها ودائع الناس، تضمن فعلا الحقوق ولا تهدد كيان مؤسسة التوثيق برمته؟
الجواب على هذه التساؤلات، يجب أن يحظى بالاهتمام الموضوعي والمتجرد، لأن مصداقية التوثيق الرسمي بشقيه العدلي والتوثيقي، وتحقيق الأمن التعاقدي والسلم الاجتماعي من مسؤولية الجميع، مراعاة للمصلحة العامة التي يجب أن تكون فوق كل فئوية وفوق كل ريع تشريعي.
وللتذكير، فقط ، فان وجود مؤسسة التوثيق الرسمي بشقيه، العدلي والتوثيقي، ضمن المشهد القانوني في بلادنا، وضمن مقومات دول الحق، لا يعني سوى ضرورة التزامهما معا، بتحقيق الأمن القانوني. وهو المبدأ الذي يجب أن يحكم كل توجه لتطوير هذه المهنة أو تلك، تطبيقا لمعايير الجودة المرجوة لدى المشرع ولدى السلطة الحكومية والهيئات المشرفة، وانتظارات الزبناء.
وبالرجوع إلى التاريخ القريب، وفي ظل ظهير التوثيق الفرنسي بالمغرب بتاريخ 4 ماي 1925، كان الاكتفاء بفتح حساب لكل موثق لدى المؤسسات البنكية الخاصة، بدون إشراف أو مراقبة الأمر الذي ترتب عنه آنذاك مشاكل تمثلت في اختلاس بعض الموثقين لأموال زبنائهم وخيانة الأمانة. ولهذا جاء قانون 09 -32 بمقتضيات حمائية قبلية، تمثلت في صندوق الإيداع والتدبير، وأخرى حمائية بعدية تمثلت في صندوق الضمان للموثقين.
ورغم تصحيح آلية الإيداع، التي جاء بها قانون التوثيق الحالي، هل استطاع الموثقون، فعلا، ضمان وحماية ودائع الزبناء؟
إن مسألة الاحتفاظ بأموال المتعاقدين وودائعهم هي آلية ووسيلة لحفظ حقوق الدولة وحقوق المتعاقدين، وليست من الاختصاصات بالمعنى الحقيقي للاختصاص، حسب القانون المغربي، كما أنها ليست من الحقوق التي تمنح للمهنيين، بل إنها من الواجبات الملقاة على عاتقهم. وإذا كانت البيانات الاستنكارية تتحدث عن أنها «اختصاص حصري» للسادة الموثقين، فإنها، للأسف، لم تستطع ولن تستطيع الإحالة على أي مادة قانونية تنص على هذا «الحصر»، ويمكن الرجوع للمادة 33 من قانون مهنة التوثيق ومواد النص التنظيمي له، حيث لا تتضمن تخصيصا ولا حصرا ولا قصرا، خاصا بالسادة الموثقين وبالتالي فإن فكرة الحصر هاته غير واردة في القانون المذكور، ولا في غيره من القوانين.
كما أن إثارة موضوع حساب الودائع في بيانات الموثقين، لا علاقة له بالتكوين أو الأهلية أو الكفاءة، وغيرها، كل ما في الأمر أن هذه الآلية، هي التي يعلل بها المشرع المالي، حرمان التوثيق العدلي، من القيام بدوره الأصيل. والسادة الموثقون، يدركون جيدا أن مسطرة مسك الودائع، تعد أداة فقط لاحتكار سوق توثيق العقار، تأكد ذلك في المادة 93 من قانون المالية لسنة 2010 بخصوص السكن الاجتماعي، ومرةأاخرى في المادة 63 من قانون المالية لسنة 2020، والآن في هذه المادة 8 من قانون المالية لسنة 2023.
وأنا أسائل الموثقين كلهم، مجالسا وأشخاصا، هل من المصلحة العامة، أن يكون موقفكم ضد إعطاء الحرية للمتعاقدين ليختاروا من يرضونهم لتوثيق حقوقهم وتصرفاتهم؟ وهل من المقبول أن تكونوا مع إجبار المواطنين إلى التنقل من مدينة بوجدور في الصحراء المغربية مثلا، إلى مدينة اكادير لتوثيق معاملاتهم العقارية؟ ألا يعتبر هذا ريعا محضا، من شأنه أن يؤثر سلبا على مصالح مستهلكي خدمة توثيق العقود، وبالتالي حصر العروض المقدمة وصعوبة التنويع فيها، كما نبه إلى ذلك مجلس المنافسة؟
ومن بين المغالطات التي وردت في البيانات أن الموثقين «مختصون» في هذا الأمر لما يقارب قرنا من الزمان، لكن ألم تعلم هذه البيانات أن السادة العدول كانوا مختصين في تلقي أموال المتعاملين وودائعهم منذ 14 قرنا، بل كانوا يتلقون أموال القاصرين والغائبين. كما كان منهم من يقوم بدور مصلحة التسجيل والتنبر، ويستخلص الواجبات المالية في ما كان يصطلح عليه ب»العدل القابض». والمصادر الفقهية والقانونية والتاريخية تتحدث عن كل ذلك، وحاليا فإن السيدات والسادة العدول، يحتفظون بمبالغ مالية مهمة من المتعاقدين، والسند القانوني لهذا القبض والاحتفاظ هو صريح المادة 17 من القانون رقم 16.03 المتعلق بمهنة التوثيق العدلي، إلا أنهم غير ملزمين بإيداعها فورا بصندوق الإيداع والتدبير، وإنما يودعونها في حساباتهم البنكية ويدبرونها تدبيرا حكيما، وما سمعنا أبدا أن عدلا من العدول اختلس أموال المتعاقدين وهربها إلى الخارج.
وفي ما يخص الزعم بأن مهنة التوثيق العدلي غير مؤهلة من جميع الجوانب لتلقي هذه الأموال والودائع وتدبيرها، أود التذكير بأن مثل هذا الكلام الصادر عن الجموع العامة للموثقين، من أكادير إلى مراكش إلى الدار البيضاء إلى… …إلى المجلس الوطني، يسائل من حرر هذه البيانات في شخصه أولا، حيث غابت عنه المروءة والسلوك الحسن المشترط ابتداء في الموثق. إذا كان بالإمكان التعبير بلغة أخرى وبأسلوب يحافظ على الكرامة و شرف المهنة.
كما يسائل ثانيا الجهاز الذي أصدر هذا البيان، ومستوى الجهل بالنصوص القانونية، التي تنظم خطة العدالة، ذلك أن قدح السادة الموثقين في التكوين المهني للعدول، ومؤهلاتهم العلمية، هو بالدرجة الأولى قدح وطعن في ظهير ملكي، نظم مهنة التوثيق العدلي، ووضع شروطا لاكتساب هذه الصفة، بدءا من الشهادة الجامعية وفترة التكوين ومواده. ثم إن التكوين الذي يفتخر به الموثقون، لا أعتقد أنه يصمد أمام ذاك الذي يخضع له العدل. فالمرشح لخطة العدالة بعد اجتيازه لمباراة الولوج، يخضع للتكوين بالمعهد العالي للقضاء ولتكوين داخل مكتب عدلي، وبعدهما يجتاز مباراة للترسيم، في حين يخضع المرشح لمهنة الموثق لفترة تكوين داخل مكتب موثق فقط، أما التكوين الأكاديمي، داخل معهد مختص، المنصوص عليه في قانون التوثيق 32-09 فهو حبر على ورق، وغير مفعل أصلا نظرا لعدم وجود أي معهد للتكوين.
إن عمليات توثيق السكن الرئيسي المدعم من طرف الدولة، لا تتطلب كفاءة عالية أو علم زائد، بل يكفي فقط، توفر الثقة والمصداقية، وصياغة وثيقة البيع مع رهن لفائدة الدولة ثم تقييد ذلك كله بالرسم العقاري لدى المحافظة العقارية، مع الحصر على تتبع الإجراءات اللازمة لدى مختلف المصالح والإدارات المعنية، وهذه العقود والتصرفات ومثلها هي ما يمارسه السادة العدول يوميا، وبشكل روتيني، بالإضافة إلى تحرير عقود عدلية أخرى أكثر تركيبا وتعقيدا من تلك، فلماذا الزعم الرخيص بان مهنة التوثيق العدلي غير مؤهلة لذلك. وقد كان يكفي أن تشترط المادة 8 من قانون المالية لسنة 2023، بضرورة التوثيق في محرر رسمي، أما صرف قيمة الدعم المالي للدولة، فيمكن إسناده للخزينة العامة للمملكة، فهي الجهة الأكثر أمانا ووثوقا.
ومن مظاهر جهل بيانات الموثقين، بحقائق ما يروج في الساحة القانونية، الزعم بأن العدول يحاولون الاستحواذ – بخصوص مسطرة الودائع – على مشروع قانون التوثيق المودع لدى وزارة العدل، واعتبروا ذلك تراميا على مهنتهم، ومحاولة لخلق مهنة موازية لمهنتهم.
إن السيد وزير العدل الحالي، لم يقم سوى بتنفيذ ما نصت عليه التوصية رقم 52 الصادرة عن الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح امنظومة العدالة بخصوص «مراجعة المقتضيات القانونية المتعلقة بودائع المتعاملين مع المهن القضائية والقانونية، في اتجاه حمايتها وتحصينها»، وهي التوصية، من بين غيرها، التي اطلع ووافق عليها ملك البلاد، ورئيس الدولة، جلالة الملك محمد السادس، حيث ألزمت للاحتفاظ بأموال المتعاملين وودائعهم أيضا إلى مهن قانونية وقضائية أخرى، مثل مهنة المفوضين القضائيين. ولذلك يجب الوعي أن الاحتفاظ بأموال المتعاملين وودائعهم وحمايتها وتحصينها أصبحت من واجبات كل المهن القانونية والقضائية.
وبدون ذلك ستظل مبالغ مالية مهمة تروج بعيدة عن أنظار صندوق الإيداع والتدبير ولا سيما تلك المتعلقة بالعقار غير المحفظ، وقد يدخل في ذلك الأموال المشبوهة التي سيتم تبييضها ضدا علي القانون المتعلق بمكافحة غسيل الأموال.
والغريب في الأمر أن المقتضيات القانونية الضريبية وغيرها، تخاطب السادة العدول والسادة الموثقين بنفس الأحكام والمقتضيات حينما يتعلق الأمر بالواجبات والالتزامات ولا سيما المقتضيات العقابية، لكنها حينما يتعلق الأمر بالآليات، يتم تفضيل جهة على أخرى، وهذه مفارقة عجيبة.
مع العلم أن جميع القوانين تنص دائما على المحرر الرسمي دون تمييز بين العدل والموثق، ومنها مدونة الحقوق العينية، والقانون المتعلق بنظام الملكية المشتركة، والقانون المتعلق بالإيجار المفضي إلى التمليك، والقانون المتعلق ببيع العقار في طور الإنجاز، لكن يأتي قانون المالية، في كل مرة، بمقتضيات غير مبنية على سند قانوني، أساسها ترجيح كفة جهة توثيقية على جهة منافسة. المقتضيات القانونية الضريبية تعطي الحق للسادة العدول بالاحتفاظ بمبالغ مالية لحماية أنفسهم من الوقع تحت طائلة مسؤولية التضامن مع الملزم بأداء الضرائب، ومن الأمثلة على ذلك المادة 95 من مدونة تحصيل الديون العمومية التي نصت على أنه: «في حالة انتقال ملكية عقار أو تفويته، يتعين على العدول أو الموثقين أو كل شخص آخر يمارس مهام توثيقية، أن يطالبوا بالإدلاء لهم بشهادة مسلمة من مصالح التحصيل تثبت أداء حصص الضرائب والرسوم المثقل بها العقار، برسم السنة التي تم فيها انتقال ملكيته أو تفويته وكذا السنوات السابقة، تحت طائلة إلزامهم بأدائها على وجه التضامن مع الملزم.»
ومنها أيضا المادة 171 من القانون رقم 47.06 المتعلق بجبايات الجماعات الترابية التي تنص على أنه: «في حالة تفويت عقار للغير أو انتقال ملكيته، وجب على العدول والموثقين وعلى كل شخص آخر يمارس مهنة تحرير العقود طلب تقديم شهادة من المصالح المكلفة بالتحصيل تثبت أداء مبالغ الرسوم المتعلقة بسنة تفويت أو انتقال الملكية والسنوات السالفة، وإلا أصبحوا مسؤولين على وجه التضامن مع الملزم بأداء الرسوم المستحقة على العقار موضوع التفويت…».
وبالتالي فإنه ليس من العدل ولا من الإنصاف ولا من المنطق في شيء أن تلزم السادة العدول بأداء حصص الضرائب والرسوم المثقل بها العقار على وجه التضامن مع الملزم بها، دون أن تمكينهم من وسائل وآليات الاحتفاظ بمبلغ مالي يكون كافيا لأداء ما بذمتهم من التزامات وضرائب لفائدة الدولة وغيرها.
وتأسيسا على هذه المقتضيات القانونية، فإن السيدات والسادة العدول يحق لهم حاليا الاحتفاظ بأموال المتعاقدين، في انتظار النص الصريح وفقا للتوصية المذكورة أعلاه، ومن محاسنها أنها لا تلزمهم بايداع هذه الأموال في صندوق الإيداع والتدبير، بل بإمكانهم وضعها في أي مؤسسة مالية أخرى، كالخزينة العامة والأبناك والبريد وغيرها، وهي أفضل لهم، على اعتبار أنها الأقرب لهم وللمتعاقدين، وفروعها منتشرة في المدن وبعض القرى المغربية، بخلاف صندوق الإيداع والتدبير.
والأكثر من ذلك فإن إسناد اختصاص التسجيل الإلكتروني وما يرتبط به إلى السادة العدول كذلك، قد تمت الإشادة بهم وبتفاعلهم الإيجابي من طرف وزارة المالية، وذلك على الرغم من أن المجلس الوطني للموثقين كان يعارض، مرة أخرى، في إسناد هذا الإجراء للسادة العدول، وهو مشهد يتعارض مع المصلحة العامة للمرتفق.
كما أن الاستعدادات جارية الآن، لإسناد التحفيظ الإلكتروني وما يتعلق به من إجراءات رقمية للسادة العدول، بالرغم من التماطل والتلكؤ الذي تتعاطى به مصالح المحافظة العقارية مع هذه الآلية، حيث يظهر هذا التباطؤ غير بريء، وكأن فيه محاباة لجهة توثيقية على جهة أخرى، وأيضا فإن الاستعدادات جارية على إنشاء منصة إلكترونية بوزارة العدل خاصة بالمهن القانونية والقضائية التي ستتيح التعامل الإلكتروني للسادة العدول وباقي المهن القانونية والقضائية الأخرى مع المحاكم وباقي الإدارات ذات الصلة بعملهم، ولا أعتقد أنه بإمكان معارضة هذه التوجهات من طرف أي جهة، لأن الحق يدافع عن نفسه والواقع العملي أقوى من كل عناد واحتجاج، ولأن طبيعة مهنة التوثيق العدلي وطبيعة الأمور تقتضي هذا دون تفكير ودون عناء، ولأن مصالح الدولة والمواطنين فوق كل اعتبار وفوق كل فئوية ضيقة، ويتعين على الجميع- مشرعا وإدارات ومؤسسات – مراعاتها أولا وأخيرا.
وآنذاك يمكننا فتح باب المنافسة الحرة بين هذه المهن، من أجل المنفعة العامة والمحافظة على السلم الاجتماعي وتحقيق الأمن التعاقدي والتوثيقي.
إن ما نصت عليه التوصية رقم 52 من الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة، بخصوص وجوب «مراجعة المقتضيات القانونية المتعلقة بودائع المتعاملين مع المهن القضائية والقانونية، في اتجاه حمايتها وتحصينها» تقتضي مراجعة المادة 17 من قانون التوثيق العدلي والمادة 33 من قانون التوثيق والمرسوم التطبيقي له، وذلك حماية وتحصينا لأموال وحقوق الزبناء، لأن الطريقة التي يتم بها تدبير هذه الأموال والودائع لدى الموثقين ولدى العدول، لا تضمن حقوق الدولة ولا حقوق المستفيدين منها.
ومن هذا المنطلق وإسهاما في هذه المراجعة، فقد باشرت الهيئة الوطنية للعدول عملها، بكل تجرد وموضوعية متسلحة بالشجاعة والابتكار، وقدمت صيغة جديدة وغير متداولة في الساحة التوثيقية، مقترحة حلولا أساسها الشفافية والنجاعة، وعدم البحث في الاستيلاء على أموال الزبناء. حيث أسست مقترحها على مبدأ الشفافية المطلقة في تدبير الودائع، وقد حصل لي، شخصيا، شرف تقديم هذا المقترح انسجاما مع مطلب جميع الفاعلين في ميدان التوثيق العدلي، بشكل أساسي، ومعه جميع الفاعلين سواء على مستوى القضاء أو الأكاديميين، والجهات ذات الصلة كالمؤسسات المالية والمنعشين العقاريين والإدارات العمومية، وهو المقترح الذي استفز بيانات الموثقين، ودفع بهم إلى رمي العدول بصفات غير أخلاقية، حيث ترتكز مسطرة حساب الودائع الذي تقدمت به الهيئة الوطنية للعدول، بالأساس، على قاعدة أن «»العدول عدول والموثقون موثقون»«، بمعنى ضمان الشفافية في المعاملات، وتحصينها من الاختلاسات، وليبرهن العدول أنهم في غنى عن التصرف بسوء نية في ودائع المتعاقدين المالية، لأن ضمان الحقوق والمصلحة العامة فوق كل مصلحة مهنية أو ذاتية، فالواقع العملي، وكما يعلم جميع المغاربة، أثبت أن الكيفية التي يتم بها تدبير الودائع من طرف الموثقين، والتي اعتبروها اختصاصا لهم، يرفضها العدول جملة وتفصيلا، لأنها عديمة النجاعة وتفتقر للفعالية، بل إن نتائجها حاليا، تهدد مصداقية مؤسسة التوثيق الرسمي، بحيث أضحى الأمن التوثيقي أو التعاقدي محاطا بمخاطر شتى. وهو ما لا نرضاه، عندما يتم المس بالثقة في مهنيي التوثيق الرسمي عموما، لدرجة أصبح المرتفق الذي يطلب خدمة توثيقية يحسب ألف حساب، خوفا من وقوعه في نصب أو اختلاس، بل وقد صار السلم الاجتماعي برمته في خطر، ومازالت الصحافة المغربية تطالعنا من حين لآخر باحتجاجات المواطنين والمتعاقدين ضد من اختلس أموالهم وودائعهم وهربها إلى الخارج، إلى درجة تحول فيها هذا الجرم إلى ظاهرة أصبحت لصيقة بشق من ممتهني التوثيق الرسمي، والسبب في ذلك هو أن الدولة مكنت المهنيين من حق التصرف في هذه الأموال والودائع بقيود غير كافية في حماية الحقوق وتحصينها كما يجب، والغريب في الأمر أن الجهات المسؤولة بما فيها الحكومة ومؤسسة البرلمان تقف عاجزة أمام هذه الظاهرة المستفحلة التي اكتوى بنارها كثير من المواطنين، ومنهم أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج.
ولا أعتقد أن السادة الموثقين، سيقبلون الانخراط في المقترح الذي تقدمت به الهيئة الوطنية للعدول، لا لشيء إلا لتمسكهم بمعايير وقواعد الاتحاد الدولي للتوثيق، ولكن الواقع يفرض حماية أموال الناس وودائعهم، وهي مسؤولية الجميع وعلى رأسهم الدولة والحكومة والبرلمان والمجتمع بكل هيئاته المختلفة.
ومن باب النصح، علينا جميعا، الكف عن الجري وراء فوائد الودائع التي يضمنها صندوق الإيداع والتدبير، وإلقاء نظرة واعية على التقرير العام للنموذج التنموي الجديد، وأخيرا أدعو الجميع كل من مسؤوليته ولا سيما جهات التشريع في وطننا العزيز إلى منطق العدل والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، دون إقصاء أو تمييز بين هذا المهني أو ذاك، سواء على مستوى المادة 8 من قانون المالية لسنة 2023، أو على مستوى آلية أو واجب الإيداع، وغير ذلك من المستويات والاختصاصات، واعتبار زبناء التوثيق الرسمي، مواطنون متساوون في الحقوق، بحيث لا يجب الحرص على عدم ضياع حقوق البعض منهم، ومعاقبة البعض الآخر الذي اختار توثيق معاملاته لدى العدول.
كما أدعو زملائي الموثقين، وزملائي في التوثيق العدلي إلى الوعي بطبيعة المهنتين، حيث يؤكد القانون المؤطر لهما، على طابعهما الحر، أي أنهما مهنتان خاضعتان لمنطق السوق، في إطار المنافسة الشريفة، شأنهما شأن باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وعليهما الإيمان بمبدأ تكافؤ الفرص، والمساواة أمام الفعل التنافسي، والابتعاد عن الانتهازية والريع وابتزاز المشرع واحترام المنافس بعدم التدخل في مهنته، وأنه حينما نختلف نناقش بتعقل وتبصر وبلغة حضارية دون تحقير أو إهانة أو تعنيف لفظي، نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه، فنحن جميعا نمارس مهنة واحدة – مع شيء من الاختلاف – شئنا أم أبينا، وهذا قدرنا في هذا الوطن العزيز، على أمل أن كل مهنة يجب أن تسعى لجذب الكفاءات والأطر من الشباب، وتحسن الانتشار الجغرافي لتكون قريبة من الزبون قدر الإمكان. وهذا ما يجب أن تسعى له كل جهة تتصف بالمواطنة الحقة، التي تعطي وليس تلك التي لا تعرف سوى الاحتكار والإقصاء، فلم يعد العصر يسمح أن تصبح هذه المهنة أو تلك، عائقا يساهم في تعثر التحول الاقتصادي بسبب عدم تقبل روح المبادرة والابتكار والتجديد. بل يجب الانخراط والمساهمة الفعلية، في الجهود المبذولة في مجال تحرير الاقتصاد والانفتاح، والإقلاع عن عادة الاسترزاق في ظل الاختلالات والعراقيل، وعلى السلطات الحكومية أن تشجع المنافسة الحرة، بدل حماية حالات الريع أو مراكز النفوذ.
جاء في التقرير العام للنموذج التنموي الجديد: «إن القصور المسجل في مجال ضبط بعض القطاعات يساهم في تقوية وضعية الاحتكار الجزئي والممارسات المنافية للمنافسة، حيث يعمل المستفيد من الريع على وضع حواجز غير مباشرة من قبيل مقتضيات تنظيمية معقدة أو وجود اتفاق ضمني بين الفاعلين. فإن نظام التحفيزات العمومي يسهم في جعل الفاعلين الاقتصاديين يفضلون الأنشطة الريعية والمحمية. ومن هنا جاء طلب المجلس الوطني للموثقين، للقاء السيد وزير العدل، في مسعى للاستغلال التعسفي للأوضاع المهينة والتفاهمات، والإضرار بالدينامية التي يعرفها المناخ العام لدى مهنيي التوثيق العدلي.
ولا يسعني سوى أن أقدم نصيحتي للأجهزة المشرفة على مهنة التوثيق، مقتبسا من خطاب العرش لسنة 2019 بمناسبة النموذج التنموي، ويبقى الأهم هو التحلي بالحزم والإقدام، وبروح المسؤولية العالية، في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة، التي سيتم اعتمادها، ولو كانت صعبة أو مكلفة.
عدل (*)