الفريق الاشتراكي: مشروع قانون المالية 2026 بلا رؤية ويُعمّق الفوارق ويخالف التوجيهات الملكية

انتقد الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية بمجلس المستشارين مشروع قانون المالية لسنة 2026، معتبرًا أنه جاء في سياق وطني حساس، بعد القرار التاريخي لمجلس الأمن رقم 2797 الذي حسم بشكل واضح سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، دون أن تُترجم الحكومة هذا الظرف الوطني إلى سياسات تنموية قوية أو إصلاحات ملموسة.
وأكد الفريق أن المشروع المالي لا يستجيب للتوجيهات الملكية المتعلقة بمحاربة الفوارق المجالية، وتسريع إنجاز المشاريع، ورفع نجاعة الحكامة، معتبرًا أن الحكومة تواصل نفس المقاربة التدبيرية الضيقة المعتمدة على رد الفعل وغياب الرؤية.
وسجّل الفريق تفاقم التفاوتات بين الجهات، حيث تستحوذ ثلاث جهات على 66 % من الاستثمارات العمومية، مقابل هشاشة مستمرة في الجبل والواحات والمناطق الحدودية. كما ارتفع معدل الفقر متعدد الأبعاد إلى 11.7 % سنة 2025، فيما بلغت الهشاشة 38 % في بعض المناطق القروية.
وفي ملف التشغيل، اعتبر الفريق أن هذه الولاية الحكومة الأسوأ من حيث فقدان مناصب الشغل، خاصة في الفلاحة التي خسرت 554 ألف منصب خلال سنتين، مقابل بطالة قياسية لدى الشباب بلغت 38.4 % في المدن، و21.6 % لدى النساء.
كما انتقد تحميل الأجراء 53 % من الضرائب المباشرة، مقابل 22 % فقط للشركات، معتبرًا أن إصلاح المنظومة الضريبية ظل شكليًا، وأن التهرب الضريبي يحرم الدولة من 8 إلى 12 مليار درهم سنويًا.
وفي ما يخص الاستثمار، أشار الفريق إلى فشل الاستراتيجية الوطنية للاستثمار في جذب القطاع الخاص، إذ لم تتجاوز مساهمة هذا الأخير 43 %، بينما لم ينجح صندوق محمد السادس للاستثمار
في تعبئة سوى 19 من أصل 45 مليار درهم الموعودة.
ورغم الأرقام الكبيرة الموجهة للتعليم والصحة، شدد الفريق على غياب أثر حقيقي لتحسين هذه القطاعات، حيث وصلت الأقسام إلى 48 تلميذًا، والهدر المدرسي إلى 334 ألف تلميذ، والخصاص الصحي إلى 32 ألف إطار، مع استمرار 63 % من الأسر في اللجوء إلى القطاع الخاص.
كما توقف عند أزمة الماء، وتراجع ملء السدود إلى 24 %، وغياب رؤية واضحة لتدبير الطلب المائي، وتحديات الأمن الطاقي واستمرار تبعية المغرب بنسبة 89 % لواردات الطاقة.
وختم الفريق بالتأكيد على أن المغرب يعيش نافذة فرص تاريخية تتطلب إصلاحًا اقتصاديًا شجاعًا ومندمجًا، وليس مجرد إجراءات متفرقة لا تُحدِث الأثر المطلوب في حياة المواطنين ولا ترتقي لمستوى التوجيهات الملكية ولا لانتظارات المجتمع.

 

في المناقشة العامة لمشروع قانون المالية رقم 50.25 برسم السنة المالية 2026

الفريق الاشتراكي- المعارضة الاتحادية بمجلس المستشارين: هناك فجوة واسعة بين المنجز الحكومي وخارطة الطريق الملكية

قانون المالية في صيغته الحالية يعكس استمرارا مقلقا لنفس المقاربة
التي ترتكز أساسًا على منطق التسيير اليومي بدل الرؤية الاستراتيجية

 

السيد الرئيس المحترم،
السيدة الوزيرة المحترمة، السيد الوزير المحترم،
السيدات والسادة المستشارين المحترمين،
يشرفني أن أتناول الكلمة باسم الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية بمجلس المستشارين في إطار المناقشة العامة لمشروع قانون المالية برسم السنة المالية 2026، في سياق وطني استثنائي تتداخل فيه التحولات السياسية العميقة بالرهانات الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة، وهو ما يفرض علينا جميعًا أن نرتقي بمستوى النقاش، وأن نخرج من التبريرات الضيقة نحو فضاء النقد المسؤول والتقييم الرصين ومساءلة الحكومة عن مدى احترامها للتوجيهات الملكية السامية واستجابتها للانتظارات المجتمعية المتزايدة.
إن اللحظة الوطنية التي تجتازها بلادنا اليوم ليست لحظة عادية ولا تكرارًا لسياقات سابقة، بل لحظة مفصلية أعادت تشكيل موازين التعامل الدولي مع قضية وحدتنا الترابية، بعد القرار التاريخي الصادر عن مجلس الأمن رقم 2797 بتاريخ 31 أكتوبر 2025، الذي وضع حدًا لخمس عقود من المناورات الانفصالية، وكرّس، بشكل واضح وبأغلبية واسعة، سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، معتبراً مبادرة الحكم الذاتي الإطار الواقعي الوحيد لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. ولا يمكن النظر إلى هذا القرار بمعزل عن المسار الطويل الذي قاده جلالة الملك محمد السادس نصره الله بثبات وإصرار وحكمة، إذ انتقل بالملف من منطق الدفاع إلى منطق المبادرة، ومن دائرة التفاوض إلى دائرة التموقع الاستراتيجي، ومن التعامل التقليدي إلى العمل الدبلوماسي المبني على قوة العلاقات الثنائية، واستثمار التحولات الجيوسياسية، وبناء تحالفات راسخة مع القوى الدولية.
وهذا التحول ليس حدثًا معزولًا أو منفصلًا عن تاريخ المغرب الحديث، بل هو امتداد لمسار طويل بدأ مع فجر الاستقلال سنة 1956، وتكرّس في مسيرة 6 نونبر 1975، ويتوّج اليوم باعتراف دولي واسع بمغربية الصحراء. إن ثلاثة تواريخ كبرى تمتد على سبعين سنة، صنعتها حكمة ثلاثة ملوك عظام، وتضحيات مقاومين وجنود ومواطنين، تشهد جميعها بأن وحدة المغرب ليست مجرد قرار سياسي، بل عقيدة وطنية راسخة.
ونحن نستحضر هذا المسار، لا يسعنا إلا أن نقف بخشوع أمام أرواح شهداء جيش التحرير والمقاومة وجنود القوات المسلحة الملكية الذين ضحوا بأنفسهم من أجل أن يبقى هذا الوطن موحدًا آمنًا، وأن نحيي بإجلال وتقدير كل مكونات المنظومة الأمنية والعسكرية والإدارية: القوات المسلحة الملكية، الدرك الملكي، الأمن الوطني، القوات المساعدة، الوقاية المدنية، ورجال ونساء الإدارة الترابية، الذين يشكّلون، مجتمعين، الدرع الذي يحمي المغرب في عالم متقلب تهيمن عليه النزاعات والصراعات الجيوسياسية.
وفي خضم هذا الانتصار الوطني، لا يمكن لضميرنا الإنساني أن يغفل عن المحنة العميقة التي يعيشها أشقاؤنا الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، حيث يتعرض المدنيون لأبشع أنواع الحصار والتجويع والعدوان في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية. إن صور الأطفال الذين يموتون جوعًا، والبيوت التي تُقصف فوق رؤوس ساكنيها، والمستشفيات التي تنهار بدون أدوية ولا تجهيزات، ليست مجرد أخبار بل صرخة في وجه العالم.
وإننا في الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية نعلن تضامننا المطلق مع الشعب الفلسطيني، وندعو المجتمع الدولي إلى الوقوف أمام مسؤوليته لوقف الاعتداءات، وفرض احترام القانون الدولي، وفتح ممرات إنسانية عاجلة، وإعادة إطلاق مسار سياسي حقيقي يقوم على حل الدولتين.
إن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يأتي في إطار سنة مالية كان يُنتظر أن تكون سنة مفصلية، لأنها السنة الرابعة من الولاية الحكومية، والسنة التي كان يجب أن تتضح فيها آثار السياسات العمومية، وأن تنعكس على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وأن تبرهن الحكومة من خلالها على قدرتها على تنزيل التوجيهات الملكية السامية التي شكّلت خارطة طريق واضحة منذ بداية الولاية. لكن حين نعود إلى هذه التوجيهات ونقارنها بالمنجز الحكومي، نجد فجوة واسعة لا يمكن تجاهلها.
السيد الرئيس
إن جلالة الملك، في خطابه الافتتاحي للسنة التشريعية في أكتوبر 2025، شدد على ضرورة معالجة التفاوتات المجالية، وإطلاق دينامية جديدة في الجبل والواحات، وتطوير منظومة الحكامة وتسريع إنجاز المشاريع، والتغلب على هدر الزمن العمومي. لكن مشروع قانون المالية، بكل صراحة، لا يستجيب لهذه الأولويات ولا يقدّم رؤية شمولية ولا يعرض خطة واضحة لتنزيل النموذج التنموي الجديد، ولا يقدم إجراءات ملموسة في الاستثمار، ولا يقترح تحولات جوهرية في الاقتصاد الوطني.
وإذا كان مشروع قانون المالية يشكل التجسيد الرقمي والمالي لخيارات الحكومة، فإنه في صيغته الحالية يعكس استمرارًا مقلقًا لنفس المقاربة التي اعتمدتها منذ بداية ولايتها، مقاربة ترتكز أساسًا على منطق التسيير اليومي بدل الرؤية الاستراتيجية، وعلى ردود الفعل بدل التخطيط المسبق، وعلى تبرير الأعطاب بدل معالجتها. فقد انتظر المغاربة أربع سنوات ليروا تحولًا ملموسًا في حياتهم اليومية، لكن المؤشرات تكشف مسارًا مختلفًا، فالتفاوتات الاجتماعية والمجالية تفاقمت، والفوارق بين الجهات ازدادت اتساعًا، حيث تستحوذ جهة الدار البيضاء–سطات وحدها على ما يفوق 32 % من الناتج الداخلي الخام، تليها الرباط–سلا–القنيطرة بنسبة 17 %، ومراكش–آسفي بنسبة 11 %، بينما لا تتجاوز مساهمة جهات مثل درعة–تافيلالت أو كلميم–واد نون أو الشمال الشرقي مجتمعة 6 %. وهذا التركز غير الطبيعي ينعكس مباشرة على توزيع الاستثمارات العمومية، إذ يتم ضخ ما يفوق 66 % من هذه الاستثمارات في ثلاث جهات فقط، تاركًا المجالات الجبلية والواحاتية والحدودية في حالة هشاشة مزمنة.
إن الأرقام لا تخطئ، وهي كفيلة بأن تُظهر أن الوعود الحكومية بشأن محاربة الفوارق لم تتجاوز حدود الخطاب. فوفقًا للمندوبية السامية للتخطيط، بلغ معدل الفقر متعدد الأبعاد 11.7 % سنة 2025، بعد أن كان أقل من 7 % قبل عشر سنوات، بينما وصلت الهشاشة إلى 38% في بعض الجماعات القروية. وفي الوقت الذي خصصت فيه الخطة الحكومية للحد من الفوارق المجالية والاجتماعية غلافًا يفوق 50 مليار درهم للفترة 2022–2026، فإن نسبة الإنجاز لم تتجاوز 42 %، من بينها مشاريع متعثرة وأخرى لم تنطلق بعد، وثالثة أُدرجت في التقارير دون أثر في الميدان.
أما فيما يتعلق بالتشغيل، فقد شهد المغرب خلال هذه الولاية الحكومية واحدة من أسوأ الفترات من حيث فقدان مناصب الشغل. إذ سجلت المندوبية السامية للتخطيط فقدان 554 ألف منصب شغل خلال سنتين فقط في القطاع الفلاحي، بينما لم تستطع باقي القطاعات خلق سوى 126 ألف منصب شغل صافي، مما جعل الحصيلة سلبية بشكل واضح. فمعدل البطالة الوطني بلغ 13.3 % سنة 2024، مقابل 12.5 % في بداية الولاية، وبطالة الشباب في المجال الحضري بلغت 38.4 %، وهي أعلى نسبة تُسجّـل منذ سنة 2001. أما بطالة النساء فبلغت 21.6 %، في حين قفزت بطالة حاملي الشهادات العليا إلى 19%، وهو ما يشكل تحديًا هيكليًا خطيرًا، لأن نسبة كبيرة ممن يدخلون سوق الشغل كل سنة، وعددهم يفوق 270 ألف شاب، لا يجدون أي أفق مهني.
وفي مقابل هذا الانكماش في التشغيل، تعاني الأسر المغربية من ضغط مالي خانق. فقد ارتفعت المديونية الأسرية إلى 427 مليار درهم، وسُجّل أن 10 % من الأسر عاجزة عن سداد أقساط قروضها، بينما ارتفعت نفقات السكن والكهرباء والماء بـ 15 % خلال أربع سنوات، ونفقات النقل بـ 22 %، ونفقات التغذية الأساسية بين 19 و32 % حسب المواد. وهذه الأرقام تؤكد أن التضخم الحقيقي الذي يعيشه المواطن ليس هو التضخم الذي تقدمه الحكومة بنسبة 0.9%، بل هو تضخم معيشي يلامس القدرة الشرائية مباشرة ويؤثر على الاستهلاك الداخلي الذي تراجع بما يفوق 6.3 % منذ 2022.
وفي ظل هذا الوضع الاجتماعي المقلق، لم تقدم الحكومة أي إجراءات ضريبية شجاعة تعيد توزيع الثروة، بل استمرت في نموذج ضريبي يحتاج إلى إصلاح جذري. فـ 53% من موارد الضرائب المباشرة تأتي من الأجراء الذين يُقتطع من رواتبهم دون أي إمكانية للتهرب، بينما لا تمثل مساهمة الشركات إلا 22% من مجموع الموارد الضريبية، رغم أن أرباح بعض القطاعات عرفت ارتفاعًا مهولًا في السنوات الأخيرة، مثل الأبناك وشركات التأمين والاتصالات وبعض المجموعات الاحتكارية التي تحقق هوامش ربح تفوق 30 %. كما أن الضريبة على القيمة المضافة التي يدفعها المواطن مباشرة في كل استهلاك تمثل 36 % من مداخيل الدولة، ما يعني أن العبء الأكبر يقع على الطبقة الوسطى والفئات الهشة.
إن الحكومة لم تتعامل بعدالة مع الملف الضريبي ولم تعتمد سياسة ضريبية تصاعدية تُميّز بين الدخول الكبرى والمتوسطة والصغرى، بل استمرت في تحميل الأجراء والموظفين العبء الأكبر، بينما بقيت إجراءات محاربة التهرب الضريبي شكلية لا تتجاوز حدود التصريحات. وهذا التهرب، وفق تقارير رسمية، يحرم خزينة الدولة سنويًا ما بين 8 و12 مليار درهم، كان بالإمكان توجيهها إلى التعليم والصحة والتشغيل.
أما بخصوص الاستثمار، فقد مضت أربع سنوات على إطلاق الاستراتيجية الوطنية الجديدة للاستثمار التي قُدمت بوصفها قاطرة لإحداث «إقلاع اقتصادي»، لكن الواقع مختلف. فالمستوى العام للاستثمار بقي جامدًا عند 30% من الناتج الداخلي الخام، وهو مستوى عالٍ نظريًا لكنه غير فعال لأن مردوديته ضعيفة جدًا، حيث أن كل نقطة نمو تتطلب حوالي 7 نقاط من الاستثمار، بينما المعدل العالمي أقل من 4 نقاط. كما أن القطاع الخاص، الذي يفترض أن يقود 66 % من الاستثمار، لا يساهم فعليًا إلا بـ 43%، وهو ما يعكس أزمة ثقة حقيقية بين المستثمرين والمؤسسات الحكومية.
وصندوق محمد السادس للاستثمار الذي كان يفترض أن يكون رافعة كبرى، تعبئ وفق الوعود 45 مليار درهم، لم يستطع إلى حدود 2025 سوى تعبئة 19 مليار درهم، أغلبها من التمويل العمومي المباشر، وليس من الشراكة مع القطاع الخاص والمؤسسات الدولية كما كان معلنًا. أما المراكز الجهوية للاستثمار التي كان يُنتظر أن تُحدث طفرة في التحفيز الجهوي، فلا تزال تعاني من هيمنة السلطة المركزية في الرباط، ومن بطء المساطر، ومن تفاوتات كبيرة بين الجهات، حيث تبلغ مدة معالجة الملفات في بعض الجهات 27 يومًا مقابل 7 أيام فقط في جهات أخرى.
وفي مجال المخزون الاستراتيجي، الذي دعا إليه جلالة الملك منذ خطاب 2022، فإن الحكومة لم تتقدم بأية خطة عملية. فلا يوجد اليوم مخزون وطني للطاقة قادر على تغطية حاجيات البلاد لأكثر من 26 يومًا في حالة الطوارئ، بينما المعدل العالمي يتجاوز 60 يومًا. أما القمح اللين، الذي يدخل في صُلب الأمن الغذائي، فلا يكفي مخزونُه لأكثر من ثلاثة أشهر، وهو ما يجعل البلاد معرضة لأي تقلبات دولية. وقد كلف دعم استيراد الحبوب وحده 13.05 مليار درهم خلال ثلاث سنوات، دون أن تتحسن قدرة البلاد على الإنتاج المحلي أو أن تتطور قدرات التخزين بشكل ملموس. وفي هذا السياق تحديدًا، يصبح سؤال الحكامة سؤالًا جوهريًا لا يمكن تجاوزه، لأن السياسات العمومية لا تقاس فقط بحجم الميزانيات التي تُرصد لها، بل بقدرتها على خلق الأثر وتغيير واقع الناس. والحال أن المغرب، رغم كل الإمكانيات التي رُصدت خلال العقد الأخير – والتي تجاوزت في مجموعها 4000 مليار درهم من الاستثمارات العمومية – ما يزال يعاني من اختلالات كبيرة في نجاعة التدبير. فقد تحدث جلالة الملك غير مرة عن «هدر الزمن العمومي»، وعن البطء الإداري الذي يُفشل الخطط والمشاريع، وعن غياب المتابعة والتقييم وربط المسؤولية بالمحاسبة. وهذه التوجيهات الملكية ليست مجرد إشارات، بل تشكّل تشخيصًا دقيقًا للعطب الذي ينخر جزءًا كبيرًا من البنية الإدارية للمغرب.
فعلى مستوى إنجاز المشاريع، تشير تقارير رسمية إلى أن ما بين 32% و38% من المشاريع العمومية تعرف تأخرًا يفوق سنتين، وأن نسبة المشاريع التي تواجه تعطيلات تقنية أو مالية أو إدارية تفوق 50% في بعض القطاعات مثل التجهيز والماء والتعمير والتنمية القروية. وهذا التأخر لا يقتصر على المشاريع الوطنية الكبرى، بل يمتد إلى المشاريع الجهوية والمحلية، حيث تشهد أقاليم مثل تنغير وزاكورة وشيشاوة ووزان والحاجب وبولمان تأخرًا في تنفيذ برامج التأهيل الحضري، وفي فتح مؤسسات صحية، وفي ربط الدواوير بالماء الصالح للشرب.
لا يمكن تجاهل العطب البنيوي المتعلق بالصفقات العمومية، التي تشكّل مجالًا حساسًا ترتبط به الشفافية وتكافؤ الفرص والنجاعة. فرغم الإصلاح الذي أُعلن عنه سنة 2023، ما تزال الصفقات تُسند في جزء منها وفق معايير غير واضحة، وتعرف تنافسية ضعيفة، كما أن التقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات تكشف عن اختلالات في تتبع الصفقات، وغياب دفاتر تحملات دقيقة، وتعدد الاستثناءات، وضعف التتبع المالي والتقني، وهو ما يؤدي إلى نزيف في الميزانية لم يعد مقبولًا في ظرفية مالية دقيقة.
السيد الرئيس،
إن مشروع قانون المالية الحالي يقدم أرقامًا كبيرة في التعليم والصحة، لكنه لا يقدم معالجة حقيقية للاختلالات. فالتعليم، الذي يمثل أكبر ميزانية في الدولة بما يفوق 91 مليار درهم، يعاني من أعطاب هيكلية: اكتظاظ يصل إلى 48 تلميذًا في بعض المستويات، خصاص بلغ 30 ألف أستاذ، نسبة الهدر المدرسي التي تجاوزت 334 ألف تلميذ سنة 2024، نتائج ضعيفة في التقييمات الدولية مثل PISA، حيث احتل المغرب المراتب الأخيرة في القراءة والرياضيات والعلوم. ومع ذلك، لم تقدم الحكومة إصلاحًا بنيويًا، بل اكتفت بقرارات غير مدروسة أحدثت ارتباكًا كبيرًا داخل المنظومة التربوية، وأثّرت على مهنة التدريس، وخلقت توترًا اجتماعيًا كبيرًا في القطاع.
أما في الصحة، فقد أصبح الحديث عن إصلاح المنظومة الصحية شبيهًا بنقاش دائري يتكرر كل سنة دون تقدم ملموس. فالعرض الصحي العمومي يعاني من خصاص بلغ 32 ألف إطار صحي، وبينما حددت منظمة الصحة العالمية معيار 45 إطارًا صحيًا لكل 10.000 نسمة، لا يتجاوز المغرب 9.6 فقط، وهو أقل من المعدل الإفريقي نفسه. كما أن نسبة الأسر التي تضطر للجوء إلى القطاع الخاص تفوق 63% بسبب ضعف الخدمات في القطاع العمومي، وهو ما يؤدي إلى إنفاق مباشر من جيوب الأسر بلغ 54% من مجموع نفقات الصحة، وهو رقم مرتفع جدًا مقارنة بالمعدل العالمي (23%).
وبخصوص التغطية الاجتماعية، ورغم أهمية ورش تعميم الحماية الاجتماعية الذي أطلقه جلالة الملك، فإن الحكومة لم تقدم التصور المتكامل لهذا الورش، ولا الإطار التمويلـي الدائم له، ولا الإصلاحات المصاحبة الضرورية لجعله مستدامًا. فالتغطية الصحية الأساسية أصبحت واقعًا، لكن جودة الخدمات بعيدة جدًا عن تحقيق الأهداف. وأما تعويضات العائلة، التي كان من المفترض أن تبدأ سنة 2024، فلم تدخل حيز التنفيذ إلا بشكل جزئي جدًا، فضلا عن غياب الجاهزية الرقمية والمؤسساتية لم يؤمّن حسن تنزيلها.
إننا أمام لحظة تتطلب المصارحة:، حيث لا يمكن أن يتقدم المجتمع إذا ظلت الخدمات الاجتماعية في وضع هش، وإذا ظل المواطن يواجه وحده تكاليف التطبيب والتعليم والنقل والسكن. فالطبقة الوسطى التي تشكل ركيزة الاستقرار والإنتاج تعيش ضغطًا غير مسبوق. إذ تشير الأرقام إلى أن 60 % من الأسر ذات الدخل المتوسط تعتبر وضعها المالي سيئًا أو متوسطًا في أحسن الأحوال، وأن قدرتها على الادخار تراجعت إلى أقل من 7 %، وهي أدنى نسبة منذ سنة 2008. أما القدرة على اقتناء السكن، فقد تراجعت بشكل حاد بسبب ارتفاع أسعار العقار بـ 14 % في المدن الكبرى، وارتفاع أسعار الفائدة على القروض العقارية بسبب تغير السياسة النقدية لبنك المغرب، الذي رفع سعر الفائدة الرئيسي من 1.5% إلى 3 % بين 2022 و2023، ما أدى إلى زيادة كلفة القروض.

السيد الرئيس،
إن حديث الحكومة عن الانتعاش الاقتصادي لا يجد له أثرًا في المؤشرات الحقيقية للإنتاج. فالقطاع الصناعي، رغم المبادرات التي تم الإعلان عنها، لم يتجاوز معدل نموه 1.8% خلال السنوات الأربع الأخيرة. أما السياحة، التي شهدت ارتفاعًا في عدد الوافدين إلى ما يفوق 14 مليون سائح سنة 2024، فإن أثرها الاقتصادي ظل محدودًا بسبب ضعف الربط بين السياحة والصناعة المحلية، وبسبب سيطرة شركات أجنبية على جزء مهم من سلسلة القيمة.
ولا يمكن في هذا المقام تجاهل ملف الماء، الذي يشكل تحديًا وجوديًا للمغرب. فالحكومة قدمت في مشروع القانون المالي أرقامًا متفرقة حول مشاريع تحلية المياه والسدود، لكن هذه الأرقام لا تشكل رؤية متكاملة. فمعدل ملء السدود شهر شتنبر 2025 لم يتجاوز 24 % على المستوى الوطني، وسدود كبرى مثل الوحدة والحسن الثاني والداخلة وأولوز والقدرة تعاني من مستويات حرجة. أما الطلب على الماء، فسيصل إلى 16 مليار متر مكعب سنة 2030، بينما الموارد المتاحة لا تتجاوز 11 مليارًا في أفضل التقديرات. ومع ذلك، لا توجد سياسة واضحة للطلب المائي، ولا رؤية لتحديث شبكات التوزيع التي تخسر أكثر من 600 مليون متر مكعب سنويًا بسبب التسريبات.

السيد الرئيس،
إن الحديث عن المشروع المالي في ظل هذه الاختلالات يجعلنا نطرح سؤالًا كبيرًا حول مدى قدرة الحكومة على قيادة التحول الاقتصادي الذي يحتاجه المغرب في المرحلة المقبلة. فالمغرب اليوم أمام نافذة فرص تاريخية بفعل الاستقرار السياسي، والانتصار الدبلوماسي، وموقعه الجغرافي الاستراتيجي، والتحولات الدولية الكبرى، لكنه في الوقت نفسه أمام تهديدات اقتصادية داخلية إذا لم تُعالَج بجرأة وبسرعة. ومن بين هذه التهديدات استمرار البطء في إنعاش الاستثمار الخاص، وضعف الإنتاجية الوطنية، وتراجع تنافسية الاقتصاد.
فوفقًا للتقارير الدولية، احتل المغرب الرتبة 86 عالميًا في مؤشر تنافسية الاقتصاد سنة 2025، وتراجع في مؤشرات أخرى تتعلق بالابتكار والبحث العلمي، حيث لم تتجاوز نسبة الاستثمار في البحث العلمي 0.8% من الناتج الداخلي الخام، مقارنة بمعدل عالمي يفوق 2.5%. وهذا الضعف يجعل اقتصادنا يعتمد على قطاعات تقليدية غير منتجة للقيمة المضافة العالية، في حين أن القطاعات الصناعية الحديثة مثل التكنولوجيا الدقيقة، والصناعات الدوائية، والطاقة المتجددة، والسيارات الكهربائية، تحتاج إلى جيل جديد من الاستثمارات المهيكلة.
من جهة أخرى لا يمكن إغفال التحديات التي تواجه الفلاحة، التي تُشغل أكثر من 32% من الساكنة النشيطة. فبعد سنوات من الجفاف المتتالي، أصبح القطاع يعاني من هشاشة هيكلية غير مسبوقة، خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار المدخلات الفلاحية (الأسمدة، البذور، الأعلاف). ورغم إطلاق استراتيجية «الجيل الأخضر»، فإن النتائج المحققة ما تزال أقل بكثير من الأهداف، إذ لم يتجاوز إنتاج الحبوب 55 مليون قنطار في أحسن المواسم خلال الفترة 2022–2025، مقارنة بمتوسط 75 مليون قنطار في العقد الماضي. كما أن الفلاحين الصغار، الذين يمثلون 70% من المستغلين، ما يزالون يعانون صعوبات الولوج إلى التمويل والمواكبة التقنية، حيث لا يستفيدون سوى من 7% من الاعتمادات البنكية الفلاحية.
بالنسبة لموضوع الأمن الطاقي، لا يزال المغرب يعتمد بنسبة 89% على واردات الطاقة، رغم الإمكانيات الهائلة في الطاقة الشمسية والريحية والهيدروجين الأخضر. وقد كان منتظرًا من الحكومة تقديم رؤية واضحة لتقليص هذا التبعية عبر تطوير الطاقات البديلة وتسريع انتقال الطاقة، إلا أن المشروع المالي يقدم أرقامًا فضفاضة لا ترتبط بخطة تنفيذية محكمة. ففي الوقت الذي تشهد فيه أوروبا سباقًا محمومًا حول الهيدروجين الأخضر، ما يزال المغرب في مرحلة الدراسات الأولية، مع مشاريع مؤطرة اتفاقيًا لكنها غير منجزة ميدانيًا، بينما دول مثل تشيلي وأستراليا والإمارات تجاوزت مرحلة الدراسات إلى الإنتاج وتصدير أولى الشحنات.
السيد الرئيس، إننا أمام واقع اقتصادي يحتاج إلى إصلاح هيكلي عميق، لا إلى مجرد إجراءات ظرفية. لكن الحكومة، للأسف، اعتمدت خلال هذه الولاية سياسة ترتكز على المعالجة الجزئية والقرارات المتفرقة، بدل هندسة سياسة شاملة تعطي الأولوية للإنتاج الوطني، وللقيمة المضافة، وللاقتصاد القادر على خلق الثروة. فالاقتصاد المغربي اليوم يعاني من ضعف الإنتاجية، وهذه الحقيقة تؤكدها الأرقام: فإنتاجية العامل المغربي لم ترتفع سوى بـ 0.9% سنويًا في المتوسط منذ 2015، مقارنة بـ 3.2% في تركيا، و2.8% في فيتنام، و1.7% في مصر. وهذا الضعف يعكس غياب الاستثمار في الرأسمال البشري، وفي التكوين المهني العصري، وفي البحث العلمي التطبيقي، وهي أعمدة النمو الحقيقي في القرن الواحد والعشرين.
أما في ما يتعلق بالتجارة الخارجية، فقد شهد الميزان التجاري عجزًا ناهز 304 مليار درهم سنة 2024، بسبب ارتفاع الواردات إلى 850 مليار درهم مقابل صادرات بقيمة 548 مليار درهم. ويشكل ارتفاع فاتورة الطاقة والمنتجات الغذائية والصناعية نصف هذا العجز تقريبًا، ما يعكس هشاشة الإنتاج المحلي وعدم قدرته على تلبية الطلب الداخلي. كما أن نسبة تغطية الواردات بالصادرات انخفضت إلى 64%، وهي أدنى نسبة منذ 2014. وهذه المؤشرات تطرح سؤالًا كبيرًا حول مدى قدرة الصناعة الوطنية على لعب دورها الحقيقي في تقليص العجز التجاري وفي تعزيز الصادرات ذات القيمة المضافة العالية.

السيد الرئيس،
لا يمكن لأي قراءة موضوعية أن تتجاهل أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 لا يستجيب لتحديات هذه المرحلة ولا يُحدث القطيعة الضرورية مع نمط التدبير الذي أثبت محدوديته. فالمشروع يقدم أرقامًا دون روح، وميزانيات دون رؤية، وإجراءات دون أثر. ولا يقدم أي ضمانات بأن الوضع الاجتماعي سيتحسن، ولا بأن الاستثمار سينتعش، ولا بأن الفوارق المجالية ستتقلص، ولا بأن النموذج التنموي الجديد سيُفعّل بجدية.

السيد الرئيس،
إن هذا المشروع المالي، في صيغته الحالية، لا يجيب عن التحديات الكبرى التي تواجه نموذج الدولة الاجتماعية الذي أعلنته الحكومة منذ بداية ولايتها، والذي ربطت به آمالًا كبيرة لامتصاص الصدمات الاجتماعية وتحسين مستوى عيش المواطنين وضمان الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. لكن بعد أربع سنوات من الوعود المتتالية، نجد أن الدولة الاجتماعية ظلت شعارًا أكثر مما كانت سياسة عمومية فعلية، لأن مكونات هذا النموذج—الحماية الاجتماعية، ودعم القدرة الشرائية، وتحسين الخدمات العمومية، وتقليص الفقر—لم تتحول إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن المغربي في حياته اليومية.
فالحماية الاجتماعية، التي كانت إحدى أكبر الأوراش الملكية، لم تستطع الحكومة تأمين شروط تنزيلها الكامل. فقد التحق أكثر من 11.5 مليون مغربي بنظام التأمين الصحي الإجباري، بما في ذلك الفئات الهشة التي انتقلت من نظام “راميد” إلى التغطية الصحية، لكن جودة الخدمات الصحية لم تتحسن بما يكفي لاستيعاب هذا الطلب الإضافي. فالمراكز الصحية لا تزال تعاني من ضعف التجهيزات، والخصاص البشري الكبير، والضغط الهائل على المستعجلات، وغياب طب الأسرة، والتفاوت الصارخ بين المدن الكبرى والمناطق القروية. وهذا الخلل الهيكلي يجعل من التغطية الصحية ورشًا ناقصًا، لأن الحماية الاجتماعية لا تقتصر على بطاقة تأمين، بل تقوم على ضمان خدمة حقيقية للمريض.
وفيما يتعلق بدعم القدرة الشرائية، فإن الحكومة اعتمدت مقاربة جزئية مبنية على التدخل عبر صندوق المقاصة، دون مراجعة شاملة للسياسات الضريبية والقطاعية. فالدعم الموجَّه للغاز والقمح والسكر بلغ 27 مليار درهم سنة 2025، لكنه ظل موجها للجميع دون استهداف، وهو ما يجعل جزءًا كبيرًا منه يستفيد منه الأغنياء والمقاولات الصناعية، بدل أن يوجه نحو الفئات التي تحتاجه بالفعل. وكان من الممكن للحكومة أن توازي هذا الدعم بإجراءات قوية في مواجهة المضاربات، لكن تقارير مجلس المنافسة أظهرت استمرار ممارسات احتكارية في بعض الأسواق، مثل سوق المحروقات الذي عرف هوامش ربح غير مسبوقة تجاوزت 1.2 درهم في اللتر الواحد في بعض الشركات.
السيد الرئيس، إن الدولة الاجتماعية لا يمكن اختزالها في تحويلات مالية، بل تقوم على ضمان الولوج المتكافئ إلى الخدمات العمومية، وهذا يتطلب إصلاحًا جذريًا للإدارة العمومية. فالإدارة المغربية—باعتراف الحكومة نفسها—تعاني من بطء المساطر، وتعدد المتدخلين، ومحدودية الرقمنة، وغياب آليات التتبع والتقييم. ووفق تقرير صادر عن وزارة الانتقال الرقمي، فإن 80% من الخدمات العمومية لا تزال تقدم بشكل تقليدي على الورق، وأن نسبة الرقمنة الفعلية للخدمات لا تتجاوز 20%، في حين أن الاستثمار في الرقمنة لم يتجاوز 1.6 مليار درهم سنويًا، وهو رقم ضعيف جدًا بالنظر لحجم الحاجة.
إن رقمنة الإدارة ليست مجرد ترف تقني، بل شرط أساسي لتحسين مناخ الأعمال، ومحاربة الرشوة، وتقليص آجال معالجة الملفات، وتخفيف الضغط عن المرتفقين، وتحسين العلاقة بين المواطن والدولة. ولقد سجلنا في الفريق الاشتراكي في عدة مناسبات أن ترتيب المغرب في المؤشر العالمي لمدركات الفساد يبقى أحد تجليات الكبرى لضعف تنزيل هذا الورش (المرتبة 99 من أصل 180 دولة، تراجع مقارنة مع سنة 2023 بمعدل ثلاث نقط)، ومع ذلك، ما زالت الحكومة تتعامل مع هذا الورش بمنطق التجزيء والتدرج البطيء، دون رؤية موحدة، ودون منصة رقمية مركزية تجمع كل الإدارات، ودون إطار قانوني شامل يضمن الحكامة الرقمية وحماية المعطيات.
وفي مقابل هذا التعثر الداخلي، يشهد المغرب تحولات إقليمية ودولية دقيقة تتطلب جاهزية كبرى. فالعالم يعيش اليوم موجة جديدة من التقلبات الاقتصادية، وارتفاعًا في أسعار الفائدة العالمية، واضطرابات في سلاسل التوريد، وتنافسًا محمومًا حول الطاقات البديلة والمعادن الاستراتيجية. وقد شكلت هذه المتغيرات ضغطًا على المالية العمومية، حيث ارتفع حجم الدين العمومي إلى 510 مليار درهم بالنسبة للدين الداخلي، وإلى 468 مليار درهم بالنسبة للدين الخارجي، وإن هذه المديونية تبقى خطيرة -رغم السردية التي تقدمها الحكومة على القدرة على التحكم فيها- إذا لم تُرفَق بنمو اقتصادي قوي قادر على امتصاص تكلفتها.
والقطاع غير المهيكل ليس مجرد تجارة هامشية، بل منظومة كاملة تشمل خدمات ونقلًا وبناءً وصناعة خفيفة، ويشغل 2.4 مليون شخص، لكنه خارج أي منظومة حماية أو ضريبة أو تكوين. وهذا الوضع يهدد الاقتصاد المنظم، ويخلق منافسة غير عادلة، ويقلص مداخيل الدولة، ويُضعف آليات حماية الأجراء. وكان من المنتظر من الحكومة تقديم استراتيجية دقيقة لإدماج هذا القطاع عبر تشجيع المقاول الذاتي، وتبسيط المساطر الجبائية، وتوسيع نظام الفوترة الإلكترونية، لكنها اكتفت بمقاربة قانونية دون إجراءات تحفيزية حقيقية.

السيد الرئيس،
نصل هنا إلى نقطة جوهرية أخرى: الحكامة الترابية. فالمغرب اختار منذ سنوات ورش الجهوية المتقدمة كاختيار استراتيجي لبناء نموذج جديد للتنمية يقوم على العدالة المجالية وعلى نقل السلطة والموارد من المركز إلى الجهة. لكن بعد مرور عشر سنوات على هذا الورش، لا تزال الجهات تعتمد بنسبة 82 % على تحويلات الدولة، ولا تتجاوز مواردها الذاتية 18%، في حين أن الهدف الوطني كان أن تصل هذه الموارد إلى 35 % على الأقل. كما أن اختصاصات الجهة لا تزال غير مفصلة بشكل واضح، ولا تزال التداخلات بين مجالس الجهات والمجالس الإقليمية والمحلية تعطل المشاريع، وتخلق ضبابية في المسؤوليات. وفي هذا السياق، كان على الحكومة أن تقدم في مشروع قانون المالية رؤية واضحة لتمويل التنمية الجهوية، وبرنامجًا محددًا لتأهيل الموارد البشرية والجهاز الإداري داخل الجهات، لكن المشروع جاء فقيرًا من أي إجراء يتعلق بالجهوية، باستثناء بعض التحويلات الروتينية التي تتكرر كل سنة دون أثر واضح في الميدان.

السيد الرئيس،
إن أحد أهم الاختلالات البنيوية التي يعاني منها نموذج التنمية في بلادنا يرتبط مباشرة بالعلاقة بين الاستثمار العمومي ووقعه الحقيقي على التنمية الاقتصادية. فالمغرب من بين الدول القليلة التي تخصص نسبة مرتفعة جدًا من الناتج الداخلي الخام للاستثمار—تتراوح بين 28 % و31%—ومع ذلك، فإن مردودية هذا الاستثمار تبقى من بين الأضعف عالميًا. فكل نقطة نمو اقتصادي في المغرب تتطلب ما بين 6 و7 نقاط استثمار، في حين أن المعدل العالمي لا يتجاوز 4 نقاط. وهذا الفارق الكبير يعكس خللاً عميقًا في طريقة برمجة المشاريع، وفي أولويات الإنفاق، وفي الحكامة، وفي غياب التقييم الحقيقي للمشاريع الكبرى.
إن أحد المحاور الكبرى التي كان يفترض أن يركز عليها مشروع القانون المالي هو إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات، وبين المستثمر والدولة، وبين المواطن والإدارة، لأن الثقة هي رأس مال لا يمكن لأي دولة أن تحقق النمو دون توفره.
لكن الواقع يكشف أن منسوب الثقة تراجع بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة. فوفق مؤشر الثقة الذي تصدره المندوبية السامية للتخطيط، فإن أكثر من 62% من الأسر المغربية تعتقد أن وضعية البلاد تسير في الاتجاه غير الصحيح، وأن قدرتها على الادخار منعدمة، وأن آفاق تحسن وضعها المالي ضعيفة جدًا.
كما أن ثقة المستثمرين تتراجع، وهو ما يظهر في أرقام تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة، التي انخفضت بنسبة 13% سنة 2024 مقارنة بسنة 2021، رغم كل الوعود الحكومية بشأن تحسين مناخ الأعمال. وكانت المراكز الجهوية للاستثمار رافعة مفترضة لتسهيل الاستثمار، لكن الواقع يؤكد أن أكثر من 41% من الملفات التي توضع بها تواجه عراقيل مسطرية وإدارية، وأن نسبة معالجة الملفات داخل الأجل القانوني لم تتجاوز 71%، وهو رقم أقل بكثير مما كان موعودًا به.
على مستوى أخر، يبرز ملف إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية، الذي وصفه جلالة الملك في خطاب سابق بأنه أحد أعمدة الإصلاح الاقتصادي. وقد كان منتظرًا أن تقدم الحكومة رؤية واضحة لإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، خاصة تلك التي تعاني من ضعف الحكامة أو تثقل كاهل المالية العمومية. لكن البيانات المتوفرة تشير إلى أن عدد المؤسسات العمومية التي تحتاج إلى هيكلة يفوق 220 مؤسسة، وأن المحفظة العمومية تضم ما يفوق 700 كيانًا بين مؤسسات عامة وشركات تابعة، دون أن تقدم الحكومة مخططًا واضحًا لإعادة تنظيم هذه المحفظة، أو تحديد المؤسسات التي ينبغي دمجها أو حلها أو إعادة هيكلتها.
وفي مجال الابتكار وريادة الأعمال، لا تقدم السياسات الحكومية الحالية حوافز واضحة للمقاولات الناشئة، ولا تستثمر بالشكل الكافي في حاضنات الابتكار، أو في البنية التحتية البحثية، وهو ما يحول دون خلق قطاعات جديدة عالية القيمة المضافة. إذ تشير الإحصاءات إلى أن عدد براءات الاختراع المسجلة محليًا سنويًا لا يتجاوز 1,200 براءة، وهو رقم منخفض جدًا مقارنة بالدول الصاعدة التي تجاوزت 25,000 براءة سنويًا، ما يوضح مدى تأخر المغرب في تعزيز الاقتصاد المعرفي.

السيد الرئيس،
إن هذا المشروع المالي، إذا لم يُعدّل بشكل جذري، فإنه يكرس نفس المقاربات الجزئية التي أثبتت محدوديتها، ويؤجل فرص الاستفادة من الظروف السياسية والإقليمية المواتية، ويضعف قدرة المغرب على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة والمستقبلية. فالمواطن اليوم، وخاصة الشباب، لا يحتاج إلى وعود أو بيانات إحصائية، بل إلى برامج واضحة، ونتائج ملموسة، واستثمارات تؤدي إلى خلق فرص شغل، وتحسين القدرة الشرائية، وضمان الولوج إلى خدمات صحية وتعليمية ذات جودة، وتحقيق تنمية مجالية عادلة ومتوازنة.
السيد الرئيس،
إن مشروع قانون المالية 2026، في صيغته الحالية، يحتاج إلى مراجعة شاملة، لإعادة ترتيب الأولويات، وربط الميزانيات بالنتائج، وتفعيل النموذج التنموي الجديد، ومعالجة الاختلالات البنيوية في مجالات الاستثمار، والتشغيل، والحماية الاجتماعية، والطاقة، والمياه، والبنية التحتية، والتعليم، والصحة، والإدارة العمومية، والجهوية المتقدمة، والقطاع غير المهيكل، والتوازن المالي، وكل القطاعات الحيوية التي تشكل أساس الدولة الاجتماعية الحديثة.
إننا في الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية، نؤكد أن النقد الذي نمارسه اليوم ليس من باب المعارضة لمجرد المعارضة، بل من منطلق حرصنا على مستقبل بلادنا، وعلى استقرار المجتمع، وعلى قدرة الحكومة على الوفاء بتطلعات المواطنين، وعلى جعل النموذج التنموي الجديد حقيقة ملموسة بدل أن يبقى خطابًا على الورق.
السيد الرئيس، إن استثمار الدولة في الرأسمال البشري والابتكار ليس خيارًا ثانويًا، بل هو شرط أساسي لخلق فرص الشغل، وزيادة الإنتاجية، وتحقيق نمو مستدام قادر على امتصاص تكاليف الدين العمومي المتزايد، وتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني على المستوى الإقليمي والدولي. ومن دون سياسة واضحة وحزم إجراءات عملية في هذا المجال، فإن المخاطر الاجتماعية ستتفاقم، وستبقى التفاوتات قائمة، ولن تتحقق الأهداف المعلنة في النموذج التنموي الجديد
إننا في الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية، نؤكد على أن أي مشروع قانون مالية مستقبلي يجب أن يضع الرأسمال البشري والابتكار في صميم أولوياته، وأن يقترن كل دعم مالي بتقييم دقيق للأثر، وضمان تحقيق النتائج الملموسة على مستوى التشغيل والجودة التعليمية والبحث العلمي، مع وضع مؤشرات أداء واضحة ومتابعة منتظمة لضمان الشفافية والمساءلة.

السيد الرئيس،
إننا في الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية، نؤكد على استعدادنا للعمل بكل مسؤولية مع الحكومة لمواكبة الإصلاحات الضرورية، شريطة الالتزام الجدي بتحقيق الأهداف المعلنة، والاستثمار الحقيقي في الإنسان المغربي، الذي يمثل الثروة الحقيقية لمغرب الغد.
ومع ذلك، وبعد تقييم شامل لمضمون مشروع قانون المالية لسنة 2026، واطلاعنا على أولويات الإنفاق والاختيارات السياسية والاقتصادية التي يقدمه هذا المشروع، فإننا نأسف لأننا لا نرى فيه معالجة كافية للتحديات البنيوية التي تعاني منها بلادنا، ولا التزامًا حقيقيًا بالعدالة المجالية والاجتماعية.
وبناءً على ذلك، يعلن الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية موقفه بوضوح، حيث نصوت ضد هذا المشروع، مع التأكيد على أننا سنستمر في متابعة تنفيذ السياسات المالية والاقتصادية، وممارسة دورنا الرقابي بكل مسؤولية من أجل الدفاع عن مصالح المواطنين، وتعزيز التنمية المستدام والعدالة الاجتماعية ببلادنا

 


الكاتب : n محمد الطالبي

  

بتاريخ : 22/11/2025