«الفلسفة للناشئة» : محمد آيت حنا يدعو أصدقاءه الصغار إلى حفل في الأغورا

 

أصدر الباحث والمترجم المغربي محمد آيت حنا كتابا جديدا، موجها إلى الناشئة. لقد عودنا آيت حنا على المفاجأة في البحث والتأليف والترجمة، لكن المفاجأة، هذه المرّة، تنحو منحى مغايرا، وفريدا؛ لأنها تفتح الدرس الفلسفي لفئة عمرية، هي، اليوم، في أمس الحاجة إلى امتلاك أدوات فكرية، تواجه بها إشكالات العصر.
«الفلسفة للناشئة» كتابان متكاملان، صدرا عن مؤسسة بيت الزبير بسلطنة عمان سنة 2023؛ الكتاب الأول «معالم على طريق الفلسفة»، في 71 صفحة، والكتاب الثاني «ممارسة التفلسف، مفاهيم وأدوات»، في 79 صفحة.

1 – الفلسفة «مغامرة استكشافية»

يتصدر الكتاب الأول تقديمٌ مختصر في صفحة واحدة، عنونه المؤلف بـ»مغامرة استكشافية»، وهي عبارة استعارها من الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، الذي يعرف الفلسفة بأنها مغامرة استكشافية. ويظهر الانتقاء الذي وظفه محمد آيت حنا في تعريفه الفلسفة، وهو يخاطب أصدقاءه وصديقاته، الخبرة البيداغوجية والديداكتيكية للمؤلف. إذ ينزع الكلفة مع مخاطب خاص، ويتوجه إليه: «صديقتي، صديقي…»، ويدعوه إلى خوض مغامرة فكرية للتعرف على الفلسفة، التي قد تكون بالنسبة إليه غريبة كل الغرابة.
يدخل آيت حنا عالم الطفل من منظور الغرابة والرحلة والاستكشاف… وهي العوالم التي اعتادها الصغار، وهم يتابعون بشغف رسومهم المتحركة المفضلة، أو يقضون لحظات ممتعة في تفاعلهم مع ألعابهم الإلكترونية.
يستحضر المؤلف، في تقديم للجزء الأول من الكتاب، تمثلات الطفل عن التفكير الفلسفي، لاسيما وأن هذا الطفل ينتمي إلى مجتمعات ظلت زمنا طويلا، تعدّ الفلسفة مجالا صعبا ومعقدا. وفي المقدمة الدقيقة والجميلة يمنح آيت حنا الصغار مصباحا سحريا، وهو مصباح الأسئلة، يقول: «نطرح الكثير من الأسئلة، دون أن نقدّم إجابات يقينية تغلق كل إمكان للتفكير أو إعادة طرح السؤال» (ص5)، ويقترح بعدها على الصغار مغامرة استكشافية، بالعودة إلى الأرض التي شكلت منطلقا للتفكير الفلسفي، رحلة إلى بلاد اليونان، ستة قرون قبل الميلاد…
تقوم المقدمة في الكتاب الأول مقام التوجيهات التربوية التي عادة ما تفتتح الكتب المدرسية؛ لكنها مقدمة صيغت بأسلوب جميل، يكسر رتابة الجداول والخطاطات التفصيلية، وتبتعد عن المسكوكات التي تجعلنا عادة نقفز عليها، أو نمر عليها مرورا سريعا.
وإذا كانت المقدمة معزوفة فكرية ولغوية جميلة، تقوم مقام جنيريك رسوم متحركة ممتعة بالنسبة إلى الأطفال، فإنها ليست كذلك بالنسبة إلى المدرسين، وهم هنا مخاطب غير مباشر. فهي تفصح عن تصور عميق، يجيب عن سؤال مؤرق: كيف نقدم الفلسفة للأطفال؟ بل كيف نقدم الفلسفة؟
اختار المؤلف أن يعتمد أسلوب المحاكاة في تقديم الفلسفة، وهذه الطريقة تشي بمعرفة الكاتب العميقة بإمكانات الطفل في التلقي؛ إذ عادة ما نجد الأطفال يتقمصون شخصياتهم المحببة، سواء في الحكايات أم الرسوم المتحركة…
في نص:»أنا أثينا»؛ تحكي أثينا قصة نشأة الفلسفة، وتكشف عن أسرار السحر الذي ألهم الأثينين «محبة الحكمة»، وفي نهاية النص المدخل، تدعو أثينا الصغار إلى مشاركتها رحلة التعرف على بدايات التفكير الفلسفي، وتشركهم في صياغة الأسئلة لدخول المغامرة الاستكشافية.
الرحلة الاستكشافية يقود فيها المؤلف الناشئة بحذق وبصيرة لزيارة بلاد اليونان، والتجول في أثينا، ثم يدعوهم على لسان هوميروس «هيا بنا جميعا إلى الأغورا!»؛ وفي هذه المواضع، يكتشف الصغار عظام الشعراء والخطباء والفلاسفة: بروتاغوراس، وغوجياس، وبوديكوس، وسقراط ، وأفلاطون… ولا يخفى المجهود الكبير الذي بذله المؤلف في اختيار الدعامات المتنوعة؛ أقوالا ونصوصا ولوحات وخطاطات وأسئلة…
يتخذ آيت حنا مهمة الدليل الذي يخبر أين يمكن أن يقود أصدقاءه الصغار، ويمتعهم، ويستند إلى خبرته العلمية في الترجمة، ليختار لهم من متون الفلسفة أمتعها، ويجعلهم يندهشون للكنوز التي تخفيها.
يزاوج المؤلف، في «معالم على طريق الفلسفة، بين السرد التاريخي، الذي يقود إلى تعرف المدارس وأعلام الفلسفة وأفكار روادها، وبين المقاربة النسقية التي تتناول الأسئلة والقضايا، وتدفع القارئ إلى التفكير في الكل في إطار وحدة تجمع المعارف والأسئلة كلها.

2 – لنجرؤ على التفكير!

يكشف الكتاب الثاني من الفلسفة للناشئة «ممارسة التفلسف، مفاهيم وأدوات» عن استراتيجية المؤلف في تقديم مداخل لتقديم الدرس الفلسفي للناشئة؛ ذلك أن الانتقال من البعد التاريخي لنشأة الفلسفة، إلى أهم مبادئها، وإشكالاتها، يمثل انتقالا نوعيا في تدبير الدرس الفلسفي.
اختار محمد آيت حنا أن يقدم للجزء الثاني من اقتباس عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: «اجرؤ على التفكير»، «اجرؤ على استخدام عقلك»، وهو شعار عصر الأنوار. وهذه الدعوة إلى التفلسف، تكمل «المغامرة الاستكشافية»، غير أنها دعوة مقيدة بامتلاك أدوات التفلسف، وهو موضوع الكتاب الثاني ومداره.
اعتمد المؤلف تشبيه التمثيل في ختام المقدمة القصيرة للكتاب الثاني، وهو تشبيه يشي بمخاطبة الأصدقاء الصغار عن طريق الصورة البلاغية التي تدفع إلى التمثل والفهم، يقول محمد آيت حنا: «غايتنا إذن ألا تكون جرأتك على التفكير جرأة عشوائية، لذا وقفنا في هذا الكتاب على ثلاثة حدود، هي كأحجار الأثافي التي يوضع عليها قِدر الفلسفة: السؤال، والمنهج، والحقيقة» ص5.
ينقسم الكتاب الثاني إلى ثلاثة أقسام متكاملة ومترابطة ومتسلسلة تسلسلا منطقيا؛ وقف فيها الكاتب على ثلاثة مفاهيم أساس في الفلسفة:
-السؤال: وهو الأداة التي تقترن اقترانا وثيقا بالتفكير الفلسفي، وقدّم المؤلف أنشطة متنوعة، تبين معنى السؤال وأبعاده وخصوصيته في التفكير الفلسفي؛
-المنهج: ونقل فيه المؤلف بطريقة ديداكتيكية محكمة، كيفية تعرفه، ومراحله، وأنواعه. ووقف فيه على لحظة مهمة من التفكير الفلسفي، هي لحظة الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت؛
-الحقيقة: انطلق المؤلف في مقاربة المفهوم من إشارات ترصد تمثلات الحقيقة، ومن أسئلة متعددة تراودنا في البحث عن الحقائق، وأسند الأنشطة المهيئة لتعرف المفهوم، بلوحة لماغريت، وانتقى من «المقابسات» لأبي حيان التوحيدي أمثولة «الفيل والعميان»، وانطلاقا من هذه الأسناد المحكمة الاختيار، قاد المؤلف الأطفال للجرأة على التفكير في أهم مفاهيم الفلسفة، ودفعهم إلى التمييز بين الحقيقة والرأي والزيف والإيديلوجيا…
يشكل الانتقال السلس بين الدعامات والأنشطة الخاصة الأساس لكتابي آيت حنا «الفلسفة للناشئة»؛ وهي سمة تحققت بفضل قدرة المؤلف على الانتقاء، وحرصه الشديد على تأثيث فضاءات الأنشطة، بلوحات وألغاز وخطاطات… تحفز الطفل على القراءة والتأمل، من جهة، وتحقق متعة التسلية والترفيه، من جهة أخرى.

3 – على سبيل البداية

لا شك في أن كتاب «الفلسفة للناشئة» بجزأيه، سيفتح آفاقا جديدة أمام الأطفال، لاستكشاف عوالم تتيح لهم إمكانات الانخراط الإيجابي في حياتهم المدرسية، بل وفي حياتهم العامة، ويجعلهم جزءا لا يتجزأ من عملية البناء المعرفي. لقد تسلح المؤلف بمعرفته الفلسفية، وبدرايته الجمالية، وأسند عمله، ببحث بيداغوجي، خبره من تجربته الطويلة في التعليم والتكوين. وتظهر لمسة المترجم الفنان ظهور لافتا، في انتقاء النصوص من جهة، واعتماد المناسب منها من جهة أخرى.
يلبس آيت حنا لباس الساحر، ويتخيل أنه في حفل دعي إليه الأطفال، وعليه أن يخرج من جرابه حكايات فاتنة، ولوحات رائعة… ليتقاسمها معهم… ولا يخلو الكتاب من مسابقات محفزة، يربح فيها الجميع، ويتقافز الأطفال فرحا، وهم يمتلكون أسرار الساحر، ويسرقون مصباحه، ويطيرون بعيدا… الساحر ينظر بطرف العين إلى الصغار، وهم يحلقون عاليا… يبتسم بمكر، ويستمتع بالفلاسفة يطيرون…


الكاتب : إبراهيم العدراوي

  

بتاريخ : 12/01/2024