الفنان العالمي حاييم سوتين روح وفن مخدوشان

هي تجربة اختبرت خلالها فعل الرؤية (المرتبط بالرؤية على أنها غمرٌ كاملٌ) مصحوباً بصدمة، في متحف L›Orangerie في باريس، قبل بضعة أشهر. فظللت مندهشًا ومترددًا لفترة طويلة، حول النهج الفني المتبع والمدى الذي استحدثه الاستقبال الذاتي الناتج عن ذلك. يشبه الأمر تلقيَ، دعنا نقول ذلك مجازًا، رذاذ من الطلاء الصلب والمتسق بسخاء على الوجه.
لأنه أمام لوحة رسمها شاييم سوتين، وهو يهودي بيلاروسي توفي في باريس عام 1943، نشعر بهذا المُحَرَّفُ الذي يوجد في عمق الكائنات والأشياء والتي تنعكس فينا، لدرجة أن أجسادنا تغرق دون وعي في نوع معين من الذهول مصدره دهشة نابعة من أساس بصري يصعب تصديقه. مشهد يسارع إلى رفده هو بنفسه هذا التحريف، والتي يتأثر به بشكل مختلف. تصبح الرؤية ابتلاءً مزعجاً دون أن ينفصل عن الفعل. هي عمل صباغي غير مصنف، في وقته، يخرج مثل انهيار جليدي من رأس / جسد فنان تتزامن عبقريته مع الطريقة التي عاش بها، والطريقة التي كان يدرك بها الحياة ويعيشها في نفس الزخم الزمني.
حاييم سوتين هو رسام، فنان بارع وكامل، عرف كيف يعبر عن «ماهيته»، بأمانة لواقع كيانه، ولكن تم دمجه بأسلوبه الخاص، وفقًا لمفهوم يتصور كل شيء في التحريف، أي التلَوِّي والتشويه، متدفقا، كثيفا وغير محدود. رؤية لرجل لا يمكن إلا أن يُخدش في جسده، كما لو كان متقطعًا إلى أجزاء صغيرة مع الزمن، فتردد هذا التقطيع صدىً في روحه.
تلوٍّ وتحريفٍ لخلق سيولة تعتمد على التشوه الذي يجعل الرسم ممكنا، أي عبر وضوح لواقعه المرجعي. لماذا هذا ؟ حاييم سوتين رأى ذلك فقط، ولا يمكنه تنفيذ فنه إلا بهذه الطريقة. البورتريهات والمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة، هذه الجوانب الثلاثة التي يتألف منها عمله الفني بشكل حصري. لا أكثر. لم يخترع، لقد أعاد الاختراع، وهذا أكثر أهمية، لأنه أعطى وجودًا حقيقيا لا يصدق لكل ما رسمه. رسم كما لو حدث في دُفعةّ واحدة، كما هو الحال حين يتعلق الأمر بحركة شاملة واحدة (تتكون من حركات عمل الفرشاة، متساوية ومتكاملة). وهذا وحده من شأنه أن يفسر النجاح الكامل لعمل مُحرَّف يولد منه عملٌ مثيرٌ يرفع الارتباك العاطفي إلى مستوى الإدراك الذي يُسحر.
لكن هذا الجانب ليس سوى خطوة أولى نحو قطيعة أكبر وأعمق. هناك لهجة مثل اندفاع بركاني تضيف إلى التلوي سواء كان خفيفا، لكنه أكيد وواضح، أو قويا وعاليا للغاية. اللوحة كاستفاقة بركان..

البورتريه

دعونا نرى البورتريهات المرسومة انطلاقا من الموديلات المأخوذة من المحيط المباشر، بالتأكيد. هي تقدم على النحو التالي : آذان متداخلة، أيدي بأصابع خشنة، أجساد غير مستقيمة، لكن الوجوه معبرة للغاية وفريدة من نوعها تشبه النماذج دون أن تكون وفية. إنها صور سوتين التي انعكست في هؤلاء الأشخاص الذين كان «يسجنهم» لمدد طويلة أمامه حد الإرهاق. أشخاص يستدعيهم من أماكن غير معهودة، من الهامش الذي لا يُلتفت إليه عادة. هؤلاء الذين لا نراهم عندما نمر بالقرب منهم. طاهي حلويات، صبي كنيسة، على سبيل المثال. أناس يتعرفون على صورهم الشخصية في اللوحات، ولكن بكيفية مسحوقة الطالع / مكسرة الملامح بعيدة عن التماثل المطلوب. هي هكذا كما يراها سوتين أو لن ترسم قط أو تكون لها كينونة فنية. الفنان هو الذي يتحكم في العملية الإبداعية، في عالمه الداخلي حيث يستقر بعد أن يكون ملأ نظره في وبالخارج، وبعد أن أدمجه إلى ذاته. خلال ذلك لا يدخر جهدا كي لا يستثني ذاته من ذات المعاملة التي يوليها للموديلات المختارة. البورتريهات الذاتية الشهيرة التي رسمها لشخصه تتحدث عن نفسها، عنه. رأيت أحدها حيث أمسك بنفسه أمام إحدى لوحاته، برأس صغير ووجنتين تقريبًا خارج المركز في اتجاه الأسفل، وشفتين حمراوين ضخمتين، وبالطبع بأذنين كما لو كانا مقتلعتين عن باقي الوجه. كل ذلك مأخوذ بألوان صارخة، منتشرة بشكل يجعل العين الناظرة تشعر بها بقوة، وتتواصل مع مناطقها المسطحة المُخترِقة بخشونة. هو اللون وقد يتم التفكير فيه بهذه الطريقة، الذي يصنع السمة، ويمثل الأشياء والكائنات، ويخلق العالم، دون عناء الاهتمام بتوخي براعة ما.

طبيعة ميتة

هذا ما أُعطي لي كي أدركه، عندما تعلقت عيناي باللوحات التي تمثل الذبيحة الشهيرة للثور، وتمثل سلخ الجلد على غرار لوحة رامبرانت الشهيرة التي أعاد تأويلها / أعاد قراءتها بأكثر الأساليب التصويرية روعة. كل هذا اللون الأحمر المتوهج الذي يفيض، والذي يسود في هذا العمل التركيبي للتحلل ! تقول الأسطورة المروية بعد ذلك، بأنه أحضر جثث البقر من»الكرنة» بباريس، إلى منزله، واحتفظ بها لأطول فترة ممكنة حتى اشتكى جيرانه للسلطات من ذيوع الرائحة الكريهة المزعجة للغاية. إليكم ما قرأته بعد ذلك : الصحفي إميل ستيتيا نقل كلمات سوتين هذه : «… بمجرد أن رأيت هذا الجزار يقطع حلق إوزة وينزفها، أردت أن أصرخ، لكن نظراته المبهجة جعلتني أحبس البكاء في الحلق […] عندما رسمت الثور المسلخ، كنت ما أزال أرغب في إطلاق هذه الصرخة. ولم أتمكن من ذلك «*. وهذه هي أسباب كل هذا الاضطراب التصويري الجميل والغريب: حياة طفولة بائسة ومعذبة، حياة رجل راشد غير راضٍ ومريض باستمرار. اللوحة هنا عبارة عن سلسلة من الصيحات الشرسة التي تُسمع من خلال ضربات الفرشاة المرسومة على القماش. ومثل أي صرخة عفوية دُفِعت إلى أقصى حد، لا نتوقع أن نكتشف لحنًا نغميّاً هانئاً. منطقيا، هنا «ننصت» إلى خطوط حمراء واضحة جدا على خلفية داكنة. هو اللحم النازف.

مناظر طبيعية

وعندما لا يحضر الدم، أو تم استنفاذه كعذاب وكمبتغى رئيسي، فإنه وفقًا للحظة وما يشبه الإلهام ، فإن الأمكنة حيث الحياة هي التي بدورها يتم التَّلَوِّي بخصوص استخدامها الفني (دائمًا مع فن السّحق)، في لوحات المناظر الطبيعية. مبنى ومنشآت في قرية كان يعيش فيها، تبدو في حالة حركة، تمَوُّج، مما يجعل المرء يصاب بالدوار. لا، المكان هنا عند سوتين ليس ملاذًا للسلام. إنه انعكاس للداخل غير الراضي، غير المُشبع بالارتياح. نرى خضرة العشب، وبُنِّيُ الممرات والأرض، والأبيض والأحمر في المنازل، والأزرق أو الرمادي الطباشيري للسماء، وكل الصبغات الخارجية مختلطة، ومكدسة، ومجمعة، ومتشنجة. اتحاد بصري، بدون مراعاة لخاصية المنظور بشكل تام، حيث الجدران تميل والرجال كما لم تم تمطيطهم، والبقع التي يجب تخمينها أو قراءتها بشكل حقيقي. في المناظر الطبيعية، تكون الرياح أبدية، فهي لا تهدأ أبدًا، إنها تلوي كل شيء يرسمه سوتين. ريح روحه. ويجب أن نلتحف أكثر حين نتملى تحفه، ونعجب بها كي تمر اللحظات هاته بسلام، إن جاز التعبير. ليتم تحمله مع الضرر المقصود.
هذا رد على التعبير القوي الذي أطلقته أعمال سوتين، فهي تتحدث، ولا تكتفي بالاقتراح. التّلَوِّي كطريقة، والصرخات كعنصر أساسي، موجودة لتفسير الحياة والعالم والطبيعة التي ليست نهرًا طويلًا هادئًا…


الكاتب : بقلم: مبارك حسني

  

بتاريخ : 06/04/2023