القصة القصيرة.. دفق حـيـاة

القصة رفيقة المرء من صيحة الحياة إلى شهقة الموت على مد رحلة العمر بين المهد واللحد.
نستمتع بالحكايات والقصص لنستمرئ نومنا العذب في أحضان الأمهات نومنا العذب في أحضان الأمهات والجدات، ثم يستمر حضورها، ونحن نفك شفرة الحرف بين سطور الكتب تسافر بنا إلى قلاع وحصون ودنى وأمكنة وأزمنة بأجنحة الخيال، تؤثث حياتنا بالمنى والأحلام الخضراء وواحات الأمل والرجاء، وما حياتنا إن طالت أم قصرت إلا قصة قصيرة، ترافقنا أينما رحلنا وحيثما حللنا، يومنا تقاطيع لنتف قصص قصيرة، نبضات القلب قصص قصيرة جدا وفي كل غرف القلب تثوي متواليات قصص مضمرة.
شهرزاد قصت لشهريار، أجلت موتها برواية حكايات وقصص، ففي كل ليلة لكي تعيش عليها أن تقص وتحكي وتحكي، فالقصة حياة؛ أنت تحيا من أجل أن تقول قصتك أو تقول كقصتك وكم هو رائع أن نحكي ونقص الحياة وتقصنا وتحكينا، وإنما الناس سطور لكن كتبت بماء..
القصة المغربية من طرحها الاجتماعي «فاس في سبع قصص» لأحمد بناني والقصص النضالية الحاثة على المقاومة إبان الحماية الفرنسية على المغرب ومجموعة «وادي الدماء» لعبد المجيد بن جلون مثلا ، وقصص راصدة لسنوات الرصاص كـ “الفراكونيت “ لعبد الجبار السحيمي أو التجريبية المتطلعة لقراءة الواقع بعين التاريخ ك «طارق الذي يفتح الأندلس» لمصطفى المسناوي، أو القصة المشتعلة كغزالة بكل حيلتها ودهشتها الوجودية العميقة المتمثلة في تجربة أحمد بوزفور وإدريس الخوري، والواقعية الجريحة الغائصة في آلامها كتجربة محمد شكري ومحمد زفزاف وابراهيم بوعلو وامبارك الدريبي، أو الراهنة المشتغلة على أراضي بكر متعالية في تجربتها كقصص أنيس الرافعي وسعيد منتسب ..أجيال وأجيال تتعاقب على ممارسة هذا الجنس المشاكس والحرون.
في سنة 2007، وبمدينة مشرع بلقصيري تم الإعلان عن اليوم الوطني للقصة القصيرة وجمعية النجم الأحمر تحتفي بالمبدع الراحل عبد الرحيم المؤذن، وهو أحد كتاب القصة المرموقين والباحثين الأفذاذ الذين كرسوا عرقهم في البحث عن أشكالها وتاريخها وتطورها.
قال عبدالرحيم في طفلة الأدب المشاغبة في إحدى كتاباته وقد وسم ورقته بالأحلام والوصايا العشرين أجتزئ منها «أحلم بقاص يعرف عدد أشجار بلدته. سعال جارة أموات المقبرة الجديدة. ألوان ماء النهر عبر الفصول ذباب الصيف وذباب الشتاء، أحلم بقاص يفتخر بندبته دون أن يستورد زبيبة نجيب محفوظ أو لحية زفزاف أو شارب كوركي، أحلم ببطاقة وطنية تشغل خانة المهنة فيها كلمة قاص. أحلم بشارع يحمل الاسم التالي :
شارع القصة القصيرة، ومن كان منكم بلا قصة فليرمني بحجر، أحلم بقصة قصيرة، قصة قصيرة فقط دون زيادة أو نقصان».
لم يعد كل القصاصين والقصاصات يتسللون من معطف غوغول، قصاصون تبريهم قصص وتعركهم قصص الحياة وتلاطم أمواجها على الصخر الجامد.
قال الشاعر الفرزدق «إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر في بعض من الأوقات». والقاص أحيانا قد يهون عليه هد جيل بدل أن يكتب قصة قصيرة بدم قلبه وماء روحه.
الكتابة مِعْوَل يكسر الجليد والقصة عنقاء يصعب قنصها والقبض عليها إلا على يد صناع القصة من المبدعين الموهوبين.
قال أحمد بوزفور في أحد حواراته « القصة بالنسبة لي عرضها السموات والأرض ويستطيع الكاتب أن يحلق في فضائها سنوات بعمر نوح دون أن يصل إلى تخومها».
القاص كناسك متعبد يكتب ويكتب ويكتب من أجل أن يقتنص النص القصصي المنفلت، مهما كان التنظير والدرس والتحليل، فالقصة تنمو وتتطور بتراكم كتاباتها، نتعلم فن القص من القصاصين الممارسين لا من شطحات النقد ومتاهات التنظير فصناعة الخبز قدرالعجانين !
مبدعون كبار خدموا القصة القصيرة ورسخوا حضورها عالميا وعربـــيا «تشيكوف، ألان بو، غي د ي موباسون، كافكا، زكريا تامر، محمود تيمور، يحيى حقي، يوسف إدريس والعدُّ يصعب على الحصر.
القصة القصيرة فن عسير وليس مجرد حائط قصير كما يخال البعض لا يعبرها إلا من يبذلون عرقا وإنصاتا للنصوص الحاضرة، والنصوص الغائبة والشاعرون بالنبض والوجدان العام والخاص.
فإن كان جنس القصة القصيرة قد شابه بعد الفتور والتواري في السنوات الأخيرة، وما صاحب ذلك من نكوص المواكبة والمتابعة النقدية، فالقصة طائر نار، يخرج المرة تلو المرة من غمر رماده لينفض غباره وتستجد في عروقه فورة شهوة الحياة.
مغالطات تتفشى، هذا زمن الفيديو، هذا زمن الرواية، هذا زمن الشعر، هذا زمن كذا وكذا .كل الأجناس الأدبية والتعبيرية لها حق التواجد والحضور. كل جنس له من يهواه وينشده وكل الزهور تينع، والإبداع عدوى جميلة تسري بلتذاذات المتعة وأفانين الجمال الجذاب، فالقصة القصيرة برغم قصر حيزها تقول العالم باختزال واقتضاب.
الأرض التي نسعى فيها نقطة صغيرة أو بالأحرى قصيرة في نظام الكواكب والمجرات الفسيح. الكتابة أن تنصت بعمق لنبض قلبك وتروي قصتك ، قل قصتك وامض!

* ألقيت هذه الكلمة يوم الجمعة 23- 6-2023 ببلدية مشرع بلقصيري بمناسبة حفل توقيع مجموعة القاص محمد الشايب «كماء القليل» واستحضارا لليوم الوطني للقصة القصيرة.


الكاتب : المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 06/07/2023