القيمة الجمالية والتاريخية في: البعثات السفارية الفرنسية 1875- 1890

 

حينما نُطالع نصوص البعثات السفارية في مغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تكاد الصورة المشكلة عنه في عمومياتها تتطابق إلى حد التماثل. لا تختلف رحلة الدكتور بليشير Bleicher التي تمَّت في صيف 1875 عن رحلة بيير لوتي Pierre Loti التي ظهرت سنة 1890 رغم تقدم الزمن. لكن، قبلا كيف نفهم تواتر البعثات السفارية في سياق سياسي جد حساس وحاسم أيضا؟
المؤكد أن كثافة البعثات السفارية قد تفسر بموجة التنافس الديبلوماسي الأوروبي على الامبراطورية الشريفة. في هذا المدار، يمكن حصر حوالي خمس إلى ست بعثات سفارية عززت رصيد المكتبات الفرنسية في سياق النزعة الغرائبية المعاصرة.
والحقيقة، يثير هذا النوع من الكتابة ملاحظتين أساسيتين، أولها من حيث المضمون، وثانيها من حيث الشكل.

من حيث المضمون:

نقرأ في أحد النصوص: «…المناظر تفتقر إلى التنوع أو الفخامة. أما الغابات ذات الأشجار المتباعدة جدا عن بعضها البعض، فلا تشبه في شيء الصورة التي لدينا عن الغابة في فرنسا. وأما الأرض فهي في الغالب غير محروثة وتنبت فيها أعشاب البطم وشجيرات الدوم ونباتات البرواق. وأحيانا تصادفنا حقول من القمح والشعير التي تدوس عليها الخيول بقوائمها. وفي كل مكان تنتشر المروج الشاسعة المكسوة بالزهور البرية التي تخللها المستنقعات. أما الطرقات المعبدة فلا أثر لها في أي مكان، فقط هنا وهناك بعض المسالك التي تتشابك بغير انتظام. وكذلك السكان لا وجود لهم تقريبا، لأن الأهالي يتجنبون الاقتراب من الأماكن التي يوجد فيها أصحاب المخزن. الوحيدون الذين يظهرون هم فرسان القبائل الذين يؤمرون بأداء ألعاب الفروسية ترحيبا بالبعثات عند حدود القيادات… «.

من حيث شكل الكتابة:

يبدأ جنس الكتابة السفارية بتصوير مراحل الرحلة أولا، وينتقل بعد ذلك إلى سرد وقائع الطريق من نصب المخيم ومشاق السير وتقديم «المونة» من طرف القبائل، وينتهي بسرد مصاعب عبور الأنهار وحفاوة استقبال رؤساء القبائل ومشاهد من الاستقبالات الرسمية…
إجمالا، هذه هي التلوينات الكبرى التي تطبع الأوصاف والمشاهد في الرحلات، وعليه، نستطيع أن نُقر بتفوق وجهة النظر الجمالية على القيمة التاريخية أو الوثائقية.

1 – رحلة الدكتور بليشير: 1875

شغل الدكتور بليشير Bleicher مُهمة ملحق ببعثة الوزير المفوض شارل تيسو إلى مكناس. وقد ظهرت هذه الرحلة في المكتبة الفرنسية سنة 1875 تحت عنوان «رحلة إلى المغرب «. يلاحظ القارئ منذ البداية اهتمام الدكتور بليشير بالتاريخ الطبيعي والجيولوجي الخاص بتكون مجال المغرب وفق ما يُستنتج من تقسيم نص الرحلة. من حيث هندسة الرحلة، جاء القسم الأول من الرحلة وجيزا في استعراضه لرحلة الذهاب نحو المغرب، وتضمن القسم الثاني من الرحلة إحالة على موضوعات ذات طبيعة تاريخية وجغرافية في البلاد لكن غير دقيقة.

2 – رحلة الدكتور ديكيجي: 1877

تمَّت هذه الرحلة في إطار بعثة رسمية قادها السيد فيرنونيي نحو فاس سنة 1877. وقد كُلف وقتها الدكتور ديكيجي الذي كان يشغل في الأصل منصب طبيب رئيسي في البحرية الفرنسية بمهمة تدوين تفاصيل الرحلة. والواقع، نحن إزاء رحلة بما تحمل الكلمة من حمولة، تتوسل بالاقتضاب والاختزال، وتعمل على تصوير الوقائع، من دون استغراق في التفاصيل. تتعزز هذه الفرضية بتضمينها يوميات مُوثقة بتاريخ اليوم على رأس كل صفحة ، سواء في مقامه بفاس أو في طريقه إلى مكناس. وكان القارئ الفرنسي قد طالع تفاصيل هذه الرحلة ابتداء من سنة 1878 تحت عنوان: « وقائع رحلة إلى المغرب «.

3 – رحلة الدكتور مارسي: 1885

قاد الوزير الفرنسي أورديغا المعين حديثا في طنجة، بعثة سفارية رسمية نحو مراكش سنة 1885، وقد جادت هذه الرحلة بمؤلف ضخم يضم أزيد من 300 صفحة ألَّفه الدكتور مارسي بعنوان «رحلة بعثة فرنسية إلى بلاط السلطان «. تتأتى قيمة هذه الرحلة في كونها تُحقق سبقا تاريخيا في نقل تفاصيل الجنوب المغربي إلى القارئ الفرنسي. وهي بذلك، تشكل حلقة مفصلية ضمن حلقات السرد الرحلي الفرنسي المنجز حول مغرب القرن التاسع عشر لسببين أساسين: أولهما يرتبط بدقة تفاصيلها، وكثافة معطياتها، وخاصة حول مراكش التي أفرد لها مارسي ما يناهز 150 صفحة. وثانيهما في اطلاع القارئ الفرنسي على تفاصيل مدينة مجهولة في التأليف الفرنسي، كانت المعطيات بشأنها تفتقد إلى الدقة والاكتمال.
يبدو هذا النص متخلصا نوعا ما من الكليشيهات التي رافقت أوصاف الفرنسيين عن جنوب المغرب. من خلالها يرسم مارسي مسافة بينه وبين الصور الجاهزة التي انطبع بها التأليف الفرنسي، ويعمد إلى إشراك القارئ في تتبع وصف الأحياء الضيقة، والأسواق المسقفة بالقصب، ومنازل الملاح، والقصبة، وحدائق الأكدال…وينقل القارئ حينما تسنح له الفرصة بذلك إلى وصف عروض الشارع، فرجات الساحة، والمواقع الأثرية…دون أن ينسى تضمين رحلته إشارات عن مناخ مراكش التي لا يكون فيها الطقس حارا إلا عندما تشرق عليها الشمس.

4 – غابريال شارم 1887: رحلة في ثوب التاريخ.

غابريال شارم في الأصل محرر صحفي في Journal des débats كان قد ذاع صيته في الوسط الثقافي الفرنسي بدراساته العميقة حول السياسة الخارجية لفرنسا، وكذلك برحلاته إلى أقطار العالم الإسلامي في كل من تونس، فلسطين، وتركيا. ورحلته الموسومة ب «سفارة إلى المغرب «. من حيث المضمون تقطع مع التقليد الفرنسي ذي النفحة الغرائبية الذي كان قد استهل مع الرسام أوجين دولاكروا سنة 1832. غابريال شارم وبيير لوتي يمكن إدراجهما ضمن نفس المسار. لا يجب أن نقرأ غابريل شارم من شُرفة العمل الرحلي، بل يجب أن ننظر إليه من شُرفة العمل التاريخي المقارن، مع التحفظ الذي يبديه البعض بشأن هذه الملاحظة.
صادف غابريال شارم لحظة وصوله إلى طنجة أمطارا طوفانية لم تثر إعجابه. وكان أن قد خيَّم هذا الجو الكئيب عن طريقة الحكي في رحلته من طنجة إلى فاس. سوَّد معظم صفحاته بأفكار لا تخرج عن نعت البلد بالمتأخر والمتخلف»…كانت الطرقات رديئة، والناس غير متحضرين، ومفتقرين إلى النظام وإلى اللباقة. تظهر عليهم العجرفة التي لا تتوافق مع خضوعهم المنحط الذي يظهر عند تقبيلهم أيادي السادة…». وفي مقابل هذا التهجم نصادف نوعا من التغني بسحر الجمال الطبيعي حينما يعبر نهر سبو ويتشوف سيرا نحو مدينة فاس. على مدار الطريق يمتزج السرد بنوع من الإعجاب، وتظهر بساطات الزهور تُرصع المروج خلال الربيع. وتتبدى فاس مثل عروسة عذراء»…ففي فاس كانت الشمس تصفو شيئا فشيئا، وكلما ازداد الضوء لمعانا، كان يبدو أن فاس تغادر مكمنها بين الجبال لتقترب منا، تصير الصوامع أكثر جلاء، والجدران مشعة بالألوان، والأسقف الخضراء لقصر السلطان لامعة متألقة. كانت المدينة قائمة هناك، غامضة، تنسحب عندما تغطي غمامة عين الشمس، وتعود عندما ينقشع السحاب…ظللنا مشدودي الأبصار إلى فاس، إلى هذا المجهول الذي خلب لُبَّنا… «.
يقف غابريال شارم عند شخصية السلطان مولاي الحسن، ويصف البلاط السلطاني والجيش والمخزن والحريم الملكي…ويأتي هذا الوصف في شكل مقارنة مع تركيا. ويختتم الكتاب بحديث عن فاس وعادات أهلها. تبدو فاس في نهاية الحكي مدينة معزولة عن كل تأثير أوروبي، وأهلها يكرهون الأوروبيين ويجهلونهم…إذا ما قورنت بالقاهرة أو دمشق أو القيروان «…لا شيء يشكل مصدرا للتسلية في الحياة العربية التي تتوالى في كامل بدائيتها، فبعد أن يقضي المرء بضعة أسابيع في فاس ، فإنه يشعر بأن ابتعاده الجغرافي عن أوروبا لا يوازيه سوى ابتعاده عنها زمنيا..».
لا يكتفي غابريل شارم بنقل انطباعاته حول فاس، بل يحاول أن يقحم القارئ فيما هو حميمي داخل المدينة بتصوير لا يخلو من ذاتية فجّة «…ما إن توغلنا في الأزقة حتى بدا لنا أننا نتقدم في مدينة غريبة ومسكونة بالأشباح. كانت الأزقة بالغة الضيق، تصعب مرور شخصين أو أكثر في نفس الوقت. يُخيم عليها الظلام بشكل لا يصدق…أما النور الواهن للقناديل فكان يكفي بالكاد لإلقاء بعض الضوء على أقدامنا…عندما نعبر الأحياء الأكثر اكتظاظا بالناس، أو في الأسواق المليئة بالحشود، لم يكن صمتنا بأقل عمقا…وكان الباعة وهم يمدون أشياء يحجم المشترون عن لمسها، والسقاؤون يحملون قرابهم على ظهورهم من دون أن يفتحوها…».
يختتم الكتاب بمشاهد تبعث عن كآبة حزينة خاصة في الولائم التي دُعيت إليها البعثة. نبرات حزينة، وشعور خائر يمتزج بالضعف والهوان، وكأن شارم يكتب وصيته الأخيرة، ويحاول توديع قرائه بآخر نص رحلي. في نفس المسار، وقبل رحلة بيير لوتي كان الكونت دو شافانياك قام برحلة إلى المغرب سنة 1885 حملت عنوان «خمسة عشر يوما في وزان «. وهي في الأصل، رحلة قصيرة الأمد كان فيها دو شافانياك قد رافق المحمي الفرنسي شريف وزان قبل أن ينتقل في رحلة ثانية نحو الحدود مع الجزائر، ويخلف نصا رحليا بعنوان «مذكرات رحلة من فاس إلى الحدود المغربية». سنة بعد ذلك، يُطلعنا الأرشيف الفرنسي على رحلة شخصية قام بها المهندس المدني دو كامبو De Campou في إطار شخصي حملت عنوان «امبراطورية تنهار « يعرض فيها دو كامبو آراءه حول نظام الحكم في المغرب ونظرة عن اقتصاد البلاد.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 19/01/2024