لا يصبح الكاتب حرا طليقا، وفُكّت عنه القيود، إلا حين يقتنع بضرورة أن يختفي وأن يكون لامرئيا، ويتخلص من شيطان التأريخ لنفسه بوصفه ثائرا أو استثنائيا أو عبقريا، وأن يخفي كل الأنوار التي تغري بكشف اسمه ملتصقا بوجهه. فالغريزة تدفع الإنسان، كما يقول شوبنهاور، إلى الإنجاب، أي إلى السيطرة على الموت بتوقيع بيولوجي على امتداده في الوجود؛ ولا يسيطر الكاتب على موته، إلا بترميز هذا الإنجاب الذي قد لا يتحقق بيولوجيا في حالته. والترميز هنا يقع على تخليد الاسم مقرونا بالوجه، حتى لا تختلط عليه الوجوه. هذا هو الإغراء الغريزي الذي يواجهه الكاتب. غير أن السؤال المطروح هنا هو: هل الوجه هو المكان المناسب للخلود؟ ألا يتأسس وجود الكاتب، في العمق، على حضوره وغيابه في الوقت نفسه؟ هل يسمح ضجيج الحضور للكاتب بأن يطارد الأفكار والأشباح في خياله؟
لا يبدو للكاتب أنه يواصل حديث من سبقوه، وأنه مجرد حلقة في سلسلة دائرية لا تنتهي، بل يتوهم أنه موجود بسبب ما يمنحه للآخرين، وللأشياء أيضا، من روحه. وبتعبير آخر، فإن ما يثير اهتمامه في الآخرين هو أن يتعرفوا عليه، وأن يرددوا اسمه وينشروه، وأن يهتبلوا كل مناسبة للإطراء عليه، وعلى الحركة الاستثنائية التي يُشكِّل بها التاريخ.
كاتب بهذا المعنى لا يمكنه أن يؤمن بسرعة اختفائه من الوجود، ليس لأنه فقط كاتب، بل لأنه «خالق»، ويريد للآخرين أن يشهدوا على قدراته الخارقة، وأن يعترفوا بها، ولا يرضيه، تبعا لذلك، أن تنفصل صورته عن الأكوان كلها. لم يخلق الكاتب ليُنسى، ولا ليختفي بشكل نهائي، أو ليرضى بأن يستقر اسمه في «مقبرة الكتب المنسية». يريد الكاتب دائما أن يكون هو هوميروس أو سوفوكليس أو الجاحظ أو المتنبي أو المعري أو شكسبير أو طاغور أو دانتي أو بورخيس أو كورثتار أو كالفينو أو كواباتا أو مويان أو فوينتس أو ماركيز أو غراس أو بروست أو كافكا أو كامو أو سارتر. وأكثر من ذلك يريد أن يكون مرئيا في حياته، وفي كل العصور. يمضي كل عمره في «الرقص العاري» من أجل أن يُرى، وأن تكون صورته معلقة على حيطان المكتبات والمراكز الثقافية، وأن تُتابَع أخباره كنجوم الفن والغناء.
الكاتب في هذا المستوى يريد أن يفرض احترامه على نظام الدعاية بإتقان ما اعتاد الناس عليه، والاهتمام بما يجعله محط اهتمامهم، حتى لو كان ذلك على حساب احترامه لنفسه. يريد أن يهتبل الفرص، وأن يعير اهتماما لوجهه وهندامه ليبدو مختلفا، وأن يرتبط ارتباطا وثيقا بمؤسسات الإعلام ودور النشر، ولا بأس أن يبتكر لنفسه «جماعة صلبة» تدافع بتشدد متسلط عن كتبه وسيرته وأقواله وأخطائه وحماقاته. جماعة تعمل كأنها فرقة تنفيذ فاشية لتوسيع احتمالات التلاعب بالناس.
لا يكتفي هذا النوع من الكتاب بالانضباط أمام ما تتطلبه الكتابة من بحث وآلام ومكابدة. أفكر هنا في آرثر رامبو وفريديريك نيتشه وجيرار دو نيرفال وهرمان هيسه وأغوثا كريستوف ونيكوس كازانتاكيس ويوكو ميشيما وفرجينيا وولف.. إلخ، الذين لم يتساهلوا مع أنفسهم، ولم يمض أحد لتكوين صورته بالحضور الدائم بين الحشود مثل كل الطغاة المتألهين، بل ظلوا أحرارا في هواجسهم الخاصة، لا يبحثون عن الرشد قدر بحثهم عن حقيقة ما تخرجهم من ارتيابهم الوجودي الفاتك والدائم، سلاحهم في ذلك هو حسهم التخيلي الأصيل الخالي من التمركزات المنعشة على الصورة الذاتية ووهم النبوغ، وأثرهما على الآخرين، أي خارج الانتهازية التي يكافح آخرون من أجل تبييضها.
يقول إيطالو كالفينو: «يفقد الكتّاب الكثير حين يظهرون بشخصهم. ففي الأيام الخوالي، كان الكتاب المشهورون جدا، مجهولين تماما بالنسبية لقرائهم، مجرد اسم على كتاب، مما منحهم هالة من الغموض الاستثنائي»، ومعنى ذلك أن الكاتب يخطئ الهدف إذا كان يمارس نشاطا دعائيا خارج تجربة الكتابة. ذلك أن الانسحاب من الضجيج العام (وليس من التاريخ) مهمة فورية ينبغي أن يقوم بها الكاتب بوعي تام، دون الاستسلام لإغراء الحصول على نجاح فوري واعتراف دائم. أليس هذا ما قام به فيرناندو بيسوا حين تعددت أسماؤه وهوياته؟ أليس ضربا من الانقطاع حين كان فرانز كافكا يرفض المشاركة في اللقاءات العامة، ويختفي في مرضه كلما هددت الأضواء عزلته؟ أليس هذا ما يسميه بيتر هندكه «التمزق بين الموقف العام والوجود الخاص»؟
كثيرون هم الكتاب والمبدعون الذين اختاروا اللجوء إلى عزلتهم، وكثيرون هم الذين اختاروا التنقل بين الأمكنة بدل الاستقرار في صورة ما، ونشرها وحمايتها من الزوال، لأن همهم الأساس هو إعادة الكتابة إلى حياتها بوصفها ملاحقة للمنسي والمهمل وغير المرئي، مما جعلهم ينحرفون عن الإقامة في الفضاء العام، ليكسبوا جولة الإقامة في النقطة المحورية التي تتطلبها الكتابة: الإمعان في التخفي.
يشتغل الكاتب المرئي على نحو ملح كوكيل مبيعات لإحدى الشركات. فهو مهتم بموقف السلعة التي يبني عليها مفاصل صورته، كما يهتم بتصميمها وتلفيفها لتثير الفضول والانتباه، غير أن السؤال الذي عليه أن يواجهه هو: أليست الكتابة خيانة مستمرة لصورة ذاتية ما وتَحَصُّنا ضد كل إغراءاتها؟ أليست هي محاولة الوصول إلى أغوارها الدفينة، تلك التي يمكن قراءتها على صور كثيرة، تتلاحق وتتغير باستمرار، إلى الحد الذي لا يمكن إدراكها؟ أليس إلغاؤها هو الحل النهائي لأي كتابة جديرة بالخلود، لا بوصفها دليلا على صورة، بل إحالة على حياة فريدة يقترن وجودها بلامرئيتها؟
الكاتب اللامرئي
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 05/01/2024