بات من المألوف في فرنسا، مع كل دخول أدبي، أن تصدر روايات وكتب في التاريخ بأقلام فرنسية تستمد تيمتها وموضوعها الرئيسي من تاريخ مستعمراتها بالمغرب والجزائر في الفترة الاستعمارية. هكذا حفل الدخول الأدبي الفرنسي هذه السنة (2020) بالعديد من الإصدارات التي تتناول هذه الحقبة التاريخية من طرف أقلام أدبية عايشت عبر امتدادها العائلي، جزءا من هذا التاريخ بكل ما يعتمل داخله من مخاضات الهوية والانتماء، ولا تزال تتجاذبها أسئلة هذا المخاض إلى اليوم والذي تحاول أن تجد له مخرجات من خلال تسريد تجارب شخصياتها التي غالبا ما تكون مستمدة من أحداث وشخصيات واقعية.
هنا نعرض لأهم هذه الإصدارات التي تناولت هذ الفترة وهي ثلاثة: « خياط غيلزان» لأوليفيا القايم، «الجزائر : شارع بنانيي» لبياتريس كومونجي و»زحل» للروائية سارة شيش، فيما يتطرق الإصدار الرابع لفترة مهمة من تاريخ المغرب المعاصر، فترة الملك الراحل الحسن الثاني من خلال رواية «مؤرخ المملكة «للكاتب والفيلسوف الفرنسي مايل رونوارد، وهي رواية يسرد من خلالها بطل العمل المؤرخ عبد الرحمان الجريب، أحداثا عن سيرة الدراسة والصداقة مع الملك، وعن المحاولة الانقلابية الفاشلة لسنة 1972.
«مؤرخ المملكة»: ماييل رونوار يدخل القصر الملكي
يقتفي الكاتب الفرنسي ماييل رونوارد، في روايته «مؤرخ المملكة» الصادرة حديثا عن دار النشر»Grasset، مسار «مؤرخ» الملك الراحل الحسن الثاني، عبد الرحمان الجريب، المبهم والغامض، مسلطا الضوء على سياق تاريخي غني بالأحداث، والمنعطفات، والحكايات المتعلقة بحياة القصور.
اسمه عبد الحمان الجريب، شاب رأى النور في ظروف غامضة، ينحدر من أصول متواضعة ، يمكن للمرء أن يقول في أيامنا هذه، إن تفوقه الأكاديمي وحظه قاداه ليكون ضمن النخبة في بلده. فهل كانت هذه الفرصة غير المتوقعة نعمة عليه أم نقمة ؟ يصعب الحسم في الأمر، لأن العيش في كنف أمير، داخل كواليس السلطة المغرية بكل الأحلام والرغبات، غالبًا ما يجعل المرء عبدا وليس سيدا لذاته. وهذا الأمر صحيح في حوض البحر الأبيض المتوسط وخارجه.
ينقلنا Maël Renouard في روايته «مؤرخ المملكة» وعبر شخصية متخيلة اسمها عبد الرحمان الجريب، إلى مملكة قريبة وبعيدة في آن، تحكمها أسرة ملكية عريقة، المملكة المغربية. الراوي هو شخصية بدوية تم اختيارها للالتحاق بالمدرسة المولوية، حيث يدرس ولي العهد الحسن الثاني، والذي يريد السلطان، والده، أن يمنحه زملاء في الفصل مميزين بذكائهم وليس بنسبهم أو مركزهم الاجتماعي. هكذا تعلم عبد الرحمن الجريب منذ شبابه – الأساليب والحيل التي تستلزمها معاشرة ذوي السلطة والنفوذ، الذين يمقتون من يعاندهم ويجابههم، حتى دون التعبير عن ذلك جهارا، بقدر ما يحتقرون من يبالغون في مجاملتهم والإطراء عليهم..
وسرعان ما سيفهم أيضا من أين تبدأ ينابيع القوة لدى رجل السلطة.
«يبدو أنني أبعث على الرهبة. ومع ذلك، فأنا الذي أرتجف «، يقول الحسن الثاني، الذي يعرف جيدا أي قطعة هي الأكثر هشاشة في رقعة الشطرنج التي كان يلعبها مع الراوي.
«أيها اللاعب! ارحم الخليفة الذي ينحني لإرادة الحاكم ،لأنه بين يدي سيد العالمين، لاحول له ولا قوة .. مثل أضعف قطعة ، تلك التي يسميها الحكماء، الملك.»
بعد ذلك، سينتقل الجريب للدراسة في السوربون. في بداية الخمسينات ، هناك سيخالط دوائر حركات التحرير، وسيلتقي اليساريين، حيث تتم إعادة تشكيل عالم جديد بالاستماع إلى خطابات سارتر، غير أنه تعاطف أيضا مع الأرستقراطيين الشباب الملكيين الفرنسيين. ليدرك بالفعل أن كل نضال سياسي يحمل في أحشائه نواة صراع أخوي، وأن البدائل التي تبدو فضيلة، تخفي في طياتها أطماعا عنيفة في السلطة والحكم.. إنه شخصية غريبة، شخصية منعزلة، ومحببة، هو نوع من الرجال بدون مزايا محددة مثل بطل موسيل، كل ما كان يستهويه هو الأدب الذي يجعله يحلم، فقد كان يرغب في أن يصبح كاتبا. وبالفعل كانت مجموعته الشعرية الأولى مميزة. غير أنه عندما عرض عليه ملك المغرب منصبا في ديوان وزاري، أحس كما لو أنه كان ينتظر هذا العرض بشكل غامض، لتنزوي الروح في العتمة.
هكذا أصبح في ما بعد مؤرخا للمملكة، ومسؤولا عن كتابة الخطب الملكية، ليضحي بالتالي بحلمه في أن يصبح كاتبا.
وعند خاتمة الرواية، سنجده في خريف العمر، منزويا داخل مقهى بجزيرة سان- لوي برفقة طالبة.
وعلى عكس سانت سيمون الذي يؤكد أن كل ما يقدمه الجريب في تقارير مذكراته صحيح تمامًا، فإن الرجل العجوز نفسه، «سيجد صعوبة ليميز بين ما هو صحيح وما ليس صحيحا «في كل شيء مما انخرط فيه خلال حياته التي قضاها في بلاط الملك الحسن الثاني:
«في هذا البلد، كانت الشائعات تسود بشكل كبير، حتى إن الملك نفسه، كان كذلك موضوعا لها.»
وإذا ما راودنا الشك، فإن الكاتب رونوار يقدم لنا دليلا على أن المملكة المغربية، بالشكل الذي وصفها لنا به الراوي الذي يشبهه مثل التوأم، هي مرآة للجمهورية الخامسة، وهو عالم تعرف عليه عن قرب، لاسيما عندما كان واحدا من بين أقلام الوزير فرانسوا فيون داخل قصر ماتينيون. وعندما يتناول العجوز الجريب نسخة من مجلة «لوكانار أونشيني» يقول لمخاطبته مبتسما، «الله وحده يعلم الصحيح من الخطأ في ثنايا هذه الصفحات».
ولايعدم الكاتب ماييل رونوارد روح الفكاهة والمرح، في روايته، في العديد من المشاهد، وخصوصاً عند وصفه لأجواء محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 1971، تلك التي قرأ عنها كثيرا خاصة في كتابي»صيفان إفريقيان» لجاك بونوا ميشان و»echec de roi » لفرانسوا بيدرون.
يذكر أن رواية «مؤرخ المملكة تتنافس ضمن أربعة أعمال أخرى على جائزة غونكور الأدبية هذه السنة والتي أرجأت أكاديمية الجائزة الإعلان عنها إلى حين رفع الحجر الصحي، والذي تغلق بموجبه المكتبات الفرنسية، وذلك «تضامنا» مع المكتبات التي اضطرت لإغلاق أبوابها خلال الحجر الصحي .
«خياط غيلزان»
لأوليفيا القايم
حلم بالأزرق السماوي
“خياط غيليزان” رواية لأوليفيا ألقايم،رواية مستمدة من أحداث حقيقية، مست سنوات الثورة، عاشتها أسرة المؤلفة أوليفيا ألقايم ذات الأصول اليهودية في مدينة غيليزان الجزائرية.
تبدأ الرواية في منتصف الليل، زمن استعار الثورة الجزائرية حين اخترقت صرخة صمت هذا الليل. لحظتها كان الزوجان مارسيل وزوجته فيفيان وطفلاهما الصغيران نياما قبل أن يفاجأوا بطرقات قوية على الباب الزجاجي الذي تحلق حولة خمسة أو ستة أشخاص يحملون بنادق صيد وهم يصرخون «اخرج مارسيل». لم ينتبه لحظتها مارسال لتوسلات فيفيان بعدم فتح الباب لأنه كان ينتظر تلك الزيارة. فقط طلب من الزوجة البقاء بالطابق العلوي صحبة الأبناء قبل أن يقتاده الرجال الى وجهة مجهولة. بعد ثلاثة أيام سيعود الجد مارسال إلى غليزان وسط تساؤلات زوجته وأهله عن سبب إطلاق سراحه، وماذا قدم مقابل ذلك، لكن مارسال قال إنه مجرد سوء تفاهم ليلتزم بعد ذلك الصمت».
تلك الليلة، تقول الساردة، من أكتوبر 1958، تسلل الفزع الى قلب جديهما والى قلب «بيير» والدها الذي كان يبلغ لحظة الاختطاف ست سنوات. هذا الحادث الذي يتذكره بيير كأقدم ذكرى وأقساها، لكن لا أحد تمكن من الاجابة عن تساؤلات والدها حينها: ماذا فعل أبي ليقتادوه في منتصف الليل؟ حتى والدته فيفيان لم تقنعه . الجواب الوحيد الذي كان مقتنعا به لحظتها أن “من يذهب، لا يعود أبدا”. لكن السؤال ظل يلح عليه حتى بعد عودة الأب: لماذا هو الخياط اليهودي لغيلزان؟ من أي تيار هو: جبهة التحرير الوطنية الجزائرية أم منظمة الجيش السري التي كانت ترفض استقلال الجزائر وتعتبرها أرضا فرنسية؟
أوليفيا القايم المزدادة في 1976 بإحدى مصحات ضواحي باريس، وعلى مدى عشر سنوات، أخرست صوت جدها الهادئ داخلها، والصرخات الحزينة في عيني جدتها، ونبرة والدها بيير الإفريقية، محاولة إقناع نفسها بأن الجزائر ليست بلدها، لكن التاريخ لا يكتب بممحاة. وككل كتاباتها السابقة، عندما تستدعي أوليفيا الذاكرة، فإنها تستدعى بكل الألم والجراح، وحتى عندما اضطرت لتحمل طلاقها، طلبت من والدها أن يحدثها عن الجزائر وهي الحكاية التي نقرأ في هذه الرواية: حكاية عائلتها.
حكاية عائلة تتخلل تاريخها بياضات، لا تستطيع أوليفيا ملأها مثل: لماذا قرر الجد الرحيل الى فرنسا، بعد الاستفتاء الذي عرفته الجزائر في 1962 واتهامه من طرف أشقائه وبعض المناضلين بخيانة الجبهة، لكن قراره هذا سينفذ بسرعة بعد إصابة طفله الصغير، بير، بطلق ناري بالمدرسة.
لم يكن مقام عائلة القايم بفرنسا بالمريح، فلم تجد مأوى كما العديد من العائلات في مثل وضعها. وبعد الشعور بالخوف والفزع، عاشوا شعورا مضاعفا بالخجل والمهانة ليس أقله العيش داخل قبو بعد أن كان الطفل بيير ينعم بشمس وسماء غيلزان الزرقاء.
المصير الاستثنائي لشخصيات هذه العائلة، سمح لأوليفيا بتتبع قصة هذا العالم المتمرد والمثير للاشمئزاز أيضا.
بقلم أدبي حساس ورفيع، تلملم أوليفيا القايم قطع الماضي وتاريخ الأسلاف. تنتقي من الأرشيف، الوامض والمسكوت عنه. أحيانا تعود الذاكرة مجزأة ومشتتة لهذا يكون على الكاتب تكثيف حدتها الدرامية. فمن خلال صفحات الرواية، تتخذ الكلمات شكلها النهائي، نرتجف، نذرف الدموع، نغضب وهذه من ميزات الروايات الجيدة.
من خلال هذه الرواية، التي تتكشف من لوحة جدارية على مدى خمسين سنة، تسائل أوليفيا القايم مفهوم الهوية والانتماء من خلال سؤال توجهه لوالدها: ما ذا يعني أن تكون جزائريا وفرنسيا؟ هل الانتماء يتحقق بالتاريخ، باللغة، بالاسم، بالجينات، ببطاقة وطنية؟
إنها رواية يمتزج فيها التاريخي بالحميمي، نوستالجيا تعبر بنا الى الأوطان والجذور حيث تبدو الأرض كونية تترك فيها الامطار دوما مكانا للأوقات الجميلة رغم كل شيء.
“زحل” لسارة شيش:
حدادا على بلد وأب
في روايتها الجديدة”زحل”: ” nocture ” تقدم سارة شيش عملا سرديا أقرب إلى السيرة الذاتية، لكونه يتطرق في آن واحد لموضوع يتقاطع فيه الحميمي بالكوني: الحداد.
تقول الساردة: “نستطيع العيش مع الموتى. أن تكون بلا عزاء ولكنك حي على كل حال”.
“كل شيء يبدأ بوصف مثير لحالة احتضار رجل شاب في 34 من عمره، انتهت بموته مبكرا.
هاري، المدد على سرير المستشفى، محاطا بذويه، لا شيء يشغله في هذه اللحظات الأخيرة سوى مصير طفلته التي بالكاد أكملت سنتها الاولى، لمن يتركها وحيدة. ما يؤلمه أكثر أنه لن يراها ولن تتذكره.
30 سنة بعد هذا الرحيل، ستلتقي الراوية سيدة تعرف جيدا والدها وأجدادها معلقة: “لديك نفس ابتسامة والدك».
لكن سارة لاتريد الساردة سماع أي شيء عن الماضي ولا حتى تذكره، لكنها مع ذلك تعود إليه لتسترجع حياتها وبالأصح، صراعها. جوزيف، جدها ، أحد نبلاء الجزائر الفرنسية، الثري، ذوا لنفوذ والسلطة الذي كان طبيبا مشهورا بالجزائر. ولداه أرموند وهاري سيواصلان مسيرته. سيغادر الجد وزوجته الجزائر فارين للاستقرار بفرنسا فقيرين معدمين، قبل أن يستعيد الجد مجده ببناء “امبراطورية جديدة أكبر وأجمل ربما، تقول الساردة، لنسيان روائح الجزائريين». أرموند الابن البكر سيقتفي خطى والده وقد كان مهيأ لذلك، لكن هاري الخجول، الحالم، المحب للنجوم وللسينما، كان يشعر بأنه سجين هذه العائلة، حتى عندما التقى الفاتنة «إيف» التي كان يعلم مسبقا برفض والديه لها.
تحكي سارة شيش قصة حبهما الجارفة والحارقة، المجنونة والفوضوية التي انتهت بوفاة هاري.
تتساءل الروائية كيف يمكن أن يكبر طفل وسط عائلة يعاني بعض أفرادها التمزق، فيما آخرون يعقدون التحالفات؟ كيف لهم أن يختاروا الاصطفاف الى أحد الفريقين، حيث لا أحد يهتم بحزنهم ولا بتساؤلاتهم؟.
تتتبع سارة شيش في هذه الرواية المسار الطويل والصعب لطفلة حطمتها سلوكات أم غير مستقرة نفسيا، وتصرفات عم كل همه الانتقام ومن غياب أب لا يتم الحديث عنه. وبوفاة الجدة التي رفضت فجأة كل حنان تجاهها، تتحول الساردة الى امراة شابة تائهة غارقة في حالة اكتئاب حاد تستغرق منها ثلاث سنوات. تحاول في هذه السنوات النزول الى الجحيم، العيش بعيدا عن صخب العالم، وتجريب الإحساس بأك لم تعد أنت، بأنك لا تحب أحدا حتى تلك الأم التي ستنقذها من الأسوأ. ستستيقظ الساردة فجأة، فكل ما كان يتطلبه الأمر مجرد اعتراف: هاري وابنته يحبان بعضهما، هذا كل شيء.
تعتبر الساردة في النهاية أنه «أن تحيا طفلة تعيسة، وشابة مكتئبة، ليس بالضرورة مأساة فقد يكون هناك منفذ للخلاص، لأن كل شيء ضاع بالفعل ولا يوجد الآن ما نخسره»
ستصبح البطلة محللة نفسانية وهي المهنة التي طالما حلم بها والدها قبل وفاته المبكرة. ستعالج أعطاب العائلة، لكنها لن تتخلص من معاناتها بشكل كلي. فمجرد تفصيل بسيط يمكن ان يفتح جراح الماضي، إلا أنها اليوم مستعدة لتقبله بفضل نعمة الكتابة، تلك المجرة التي تنفتح على الممكن حيث لا مستحيل، وعلى الجمال.
تندفع سارة شيش بكامل قوتها في هذه الرواية لتطوقنا بكلماتها المبهرة، الحزينة والقاسية، والمحررة من كل القيود.
«الجزائر ، شارع بنانيي» بياتريس كومونجي:
بلد الحزن
تعتبر “الجزائر العاصمة، شارع بنانيي” رواية سيرية، مستمدة من حكايات عائلية، رصدتها الكاتبة الفرنسية بياتريس كومونجي، من خلال أربعة أجيال من عائلتها الفرنسية التي عاشت في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية من 1830 إلى 1962.
برقة لامتناهية وبشكل رائع، تقدم لنا بياتريس كومونجي روايتها الجديدة “الجزائر شارع بانيي”، وهي تستعيد لحظات السعادة والطفولة المشرقة ، المتأرجحة فصولها بين شمس وبحر الجزائر العاصمة، وهي بذلك تذكرنا بقصص 800 ألف معمر أوربي ممن اجتثوا من أرض الجزائر( فرنسيون، إسبان، إيطاليون، برتغاليون، ألمان، يونانيون…) في ما يشبه المأساة بعد أن عاشوا لأكثر من 100 سنة في هذه المستعمرة الفرنسية منذ 1830، ومن بينهم 130 ألف يهودي الذين هجروا إلى فلسطين.
تحكي الرواية قصة طفلة ازدادت في السنوات الأخيرة من تاريخ “الجزائر الفرنسية ” وظلت غريبة تماما عن كل المأساة وعنف التاريخ الذي يتكشف على مرمى بصر من مملكتها الطفولية في حي «بنانيي»، المستقر بالمرتفعات الجنوبية للجزائر البيضاء.
أكثر من نصف قرن بعد ذلك، ستكتشف المؤلفة المكتبة الفسيحة لوالدها المخصصة لفترة الجزائر الفرنسية ، وهو ما سيسمح لباتريس كومونجي بالوقوف عند السنوات 12 الأولى من عمرها وهي السنوات والأحداث التي لم يحدثها بشأنها الأولى أحد.
هكذا ستكتشف أن زقاق “بنانيي”، حيث كانت تقيم في طفولتها والذي تحتفظ للصداقات والهواء والبحر به، بذكريات جميلة، عاش أحداث انفجار قنبلة أودت بحياة ثلاثة أشخاص، فيما أصيب 60 آخرون بأحد البارات. وفي30 شتنبر 1956 وعشية الدخول المدرسي سينزلق ظلان أنثويان على كتابها لاستحضار هذه المأساة الغامضة: شابة جميلة اسمها زهرة، ونيكول الطفلة ذات 10 سنوات التي فُصل ذراعاها عن جسدها ساعة الانفجار.
لاتحاكم بياتريس في هذه الرواية أحدا، إنها تحكي وتحاول فهم ما جرى لتكتشف التاريخ العميق “للجزائر الفرنسية” بفضل كنوز مكتبة والدها، ومن خلال مبادرات” العمل المدني والحضاري لفرنسا” التي تبين أن حلم التآخي والانصهار بين أصحاب الأرض الحقيقيين والمعمرين ذهب سدى خلال الاحتفالات السنوية سنة 1930 باستعمار الجزائر .
وسط جبال «القبايل» تشتعل الذاكرة مقاومةً النسيان، وتنتصب ذكريات سحق التمرد سنة 1871 من طرف الأميرال لويس دوكايدون.
معظم أوربيي الجزائر كانوا حينها بعيدين عن منطق القوة. كانت أحلامهم بالسعادة كبيرة. ففي سنة 1957 قدرت جيرمان تيون عدد “المعمرين» الحقيقيين في 12 ألف شخص (منهم 300 من الأثرياء ودزينة من فاحشي الثراء ) كانوا مختفين وسط مليون شخص وكان مجاهدو جبهة التحرير يسعون لطردهم خارج البلاد.
رواية بياتريس تدعونا للتسلل إلى الحياة اليومية للآخرين (المعمرين تحديدا) الذين كانوا مجرد عمال سككيين وسائقي حافلات، ممرضين، معلمين، أشبه بأبطال رواية “الضيف” الألبير كامي أو أساتذة آداب مثل لويس والدها..
الصفحات الأخيرة من الرواية تحيلنا على أجواء شعبية من خلال أغان جميلة وحزينة لنغني مع “إيلي بونيش”: الجزائر، يا الجزائر أبدا، والله ما ننساك”.