ماهي العلاقة بين الكتابة والصحراء؟ وكيف تلازمتا منذ زمن بعيد؟ ألم تكن الكتابة مرتبطة بالصحراء، هل هناك حدود للكتابة في الصحراء أم لا حدود لها مثل كثبان الرمال؟ وأيهما أقرب إلى ثقافة الصحراء: الكتابة أم الشفاهية؟
إنها تساؤلات عميقة تنبعث ونحن نتأمل المتون والمؤلفات التي اتخذت من الصحراء تيمة لها. فلقد شكلت الصحراء دوما فضاء غنيا بامتياز وباعثا على الإبداع والتدوين. بإرثها التاريخي العميق ،وبتنوع تضاريسها، وغنى مواردها الطبيعية التي تجمع البحر والبر في التحام وتناسق جميلين ،كما شكلت ملتقى للحضارات المتعاقبة على المغرب ، لذلك نبغ منها شعراء عديدون ومفكرون كانوا من رموز زمانهم ، ومثقفون ألفوا وأنتجوا كتبا ما يزال بعضها رهين خزانة المخطوطات ينتظر التنقيح وإخراجه من ركام الأتربة ليستفيد منه الأحفاد بعدما أنتجه الأجداد منذ زمن غابر
الكتاب أصلا هو محاضرة ألقاها الكاتب في افتتاح الموسم الجامعي لكلية الآداب بأكادير مساء الجمعة 16 أكتوبر 1987 .
ينطلق الكاتب لمقاربة الموضوع من أن الصحراء بطبيعتها شعر، وأهل الصحراء يقولون الشعر كما يتنفسون الهواء. لذلك يؤكد على ظاهرتين مهمتين:
الأولى أن شعر الصحراء كان –ومازال- أداة وحدة ووسيلة تواصل، فهو لم يكن في يوم ما شعرا منعزلا أو منغلقا يتحرك في بيئته فقط، ولكنه كان دائما يمد يده إلى أطراف الوطن ليندمج فيه وينصهر داخل بوتقته، في عملية أخذ وعطاء مستمرين، ويتجلى ذلك في :
1+ انتقال بعض أدباء الصحراء وعلمائها إلى أقاليم الشمال، وإقامتهم فيها للدراسة أو التدريس أو هما معا، على حد ما فعل محمد سالم الصحراوي ( ت نحو 1364هـ) ومحمد محمود البيضاوي الشنجيطي العالم الكبير الذي هاجر إلى مراكش ليدرس، وكان مع المقاوم الشيخ أحمد الهيبة؛ وقد توفي في كردوس سنة 1349هـ ، وخديجة أخت محمد محمود البيضاوي هذا؛ هاجرت مثله إلى مراكش لتشتغل بالتدريس. كانت عالمة مستحضرة للسيرة والعربية واللغة والنحو،و محمد بابا الصحراوي ( 1290-1342هـ)
2+تبادل الإجازات العلمية بين علماء الصحراء وعلماء المناطق الشمالية، مثلما حدث بين محمد بن محمد بن أبي بكر التواتي ( 940 –1010هـ) وأحمد بن القاضي الذي قال عنه: “تدبجت معه، أجازني وأجزت له، وأخذ عني الحساب والفرائض بمراكش.
وقد أفضت هذه العوامل وغيرها كما يؤكد الجراري إلى تأكيد الصلات بين العلماء والأدباء، مما تبلور في التعبير الشعري من خلال مطارحات ومساجلات تعد روح أدب الإخوانيات المتميز. وقد شاع هذا التطارح بين شعراء الصحراء وشعراء بقية الأقاليم المغربية.حيث ذكر نماذج مختلفة وقصص في هذا الإطار كمطارحات محمد بابا الصحراوي مع بعض الأدباء الإلغيين،.ومنها مساجلات للشيخ سيديا ابن الشيخ أحمد، والديماني الصحراوي (1295-1373هـ) مع بعض علماء سوس وأدبائها ،و إخوانيات محمد بن سيدي محمد حفيد العلامة ابن رازكة.
كما تحدث طويلا عن الشاعر محمد البيضاوي الشنجيطي، وهو ولد العالمة خديجة السالفة الذكر. الذي استقر في المغرب بعد جولة في المشرق، وتصدى للتدريس في طنجة وتطوان. وبعد تقلبه في مناصب العدالة والترجمة، عين محررا في جريدة (السعادة) بالرباط، ثم عضوا في مجلس الاستيناف، فقاضيا في بني عمير وواد زم؛ وفي النهاية باشا في تارودانت، إلى أن توفي عام 1945م.
كما يدخل في التعبير الإخواني بين الشعراء ما كانوا يتبادلونه من ألغاز وحلول لها، على غرار ما وجهه محمد عثمان ابن اغشممت المجلسي لأهل مدارس فاس ، وما فعل عبد الله العلوي (ابن رازكة) حين خاطب علماء فاس – وابن زكري خاصة – ملغزا بأبيات في قوله تعالى من سورة يوسف(الآية 17) متحدثا عن سرقة السقاية أو صواع الملك، والبحث عن سارقه:”فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه “لماذا لم يقل: عنه أو منه أو من وعائه؟ من هذه الأبيات قوله بعد مقدمة:
أسائلكم ما سر إظهار ربنا تبارك مجدا من وعاء أخيه
فلم يأت عنه منه أو من وعائه لأمر دقيق جل ثم يخيـــه
فإن تك أسرار المعاني خفية فمرآتها أفكار كل نبيـــه
وأنت ابن زكري نبيه محقق تفردت في الدنيا بغير شبيه
إذا غصت في بحث حصلت بدره وخليت عن سفسائه ورديه
وقد أجابه عنه محمد بن سعيد اليدالي الديماني بقصيدة منها:
فلو قال فرضا ربنا من وعائه فذا لكم بعد التفكر فيه
يعود إلى عود الضمير ليوسف فيفسد معناه لمختبريه
لأن الضمير في الصناعة عائد لأقرب مذكور هناك يليه
وإن قال منه اختل أيضا لأنه يؤدي لعود مضمر لأخيه
فتنزع منه الصاع لا من وعائه وتأنف من ذا نفس كل نزيه
لما في انتزاع من أذى ومهانة ولم يرد الرحمن ذا بنبيه
كما أشار إلى الشعر الوطني في ارتباطه بمدح الملوك والأمراء ،لذلك يؤكد د الجراري أننا لا نستغرب إذا وجدنا شعراء الصحراء يتصلون ببلاطات المغرب في عهود مختلفة، ويقولون قصائد في الملوك والأمراء ويعربون بها عن التعلق بالوطن والولاء لقادته وولاة الأمر فيه. وجرد نماذج معينة كالشاعر أبو إسحاق بن يعقوب الكانمي مدح المنصور في العصر الموحدي، و ابن رازكة الذي كان متصلا بالمولى إسماعيل، و محمد لمجيدري بن حبيب الله، الشاعر الوشاح الذي كانت له حظوة عند السلطان سيدي محمد بن عبد الله. و المختار بن الهيب الأبييري الذي كان كاتبا للمولى عبد الرحمن. ومحمد بن سيدي محمد حفيد العلامة ابن رازكة،الذي اتصل أيضا بالمولى عبد الرحمن .
كما أن هذا النوع من التعبير اتخذ أبعادا جديدة في المرحلة الحديثة ظهرت أولى معالمها مع الشاعر محمد البيضاوي الشنجيطي الذي سبقت الإشارة إليه.حيث يعتبره الجراري أنه من أوائل الذين هنأوا المغفور له محمدا الخامس بتولية العرش، إن لم يكن أولهم؛ فقد دخل عليه في جملة المهنئين وقال قصيدة هي مزيج من التهنئة له والرثاء لوالده المولى يوسف رحمه الله .
كما استمر اتصال الشعراء –شعراء الصحراء – بالمغفور له محمد الخامس في كل الظروف والمناسبات، وطنية كانت أو دينية. مدللا بقصيدة الشاعر ماء العينين ابن العتيق المتوفى عام 1957م، فرفعها إلى الملك بمناسبة ذكرى المولد النبوي عام 1937،
وفي عهد الملك الحسن الثاني صدر ديوان يحمل عنوان ” باقة شعر من أقاليم الجنوب؛” احتفاء بالذكرى الرابعة والعشرين لعيد العرش المجيد ( مارس 1985). ويتضمن جزأين: الأول خاص بقصائد اللهجة الحسانية، والثاني خاص بالشعر المعرب، ويضم قصائد الشعراء: الشيخ ماء العينين لاراباس، شبيهنا حمداتي ماء العينين، محمد الكبير العلوي، عبد السلام بن الشيخ مفتاح، الشيخ ماء العينين محمد سداتي هيبة، ماء العينين بن العتيق، الدرجاوي محمد عبد الرحمن العلوي، الرصافي محمد معروف البدا، محمد بن قار، ماء العينين أبو بكر ابن الشيخ مربيه ربه، يحجب بن خطري، محمد الأمين بن خطاري، ماء العينين شيبة، الداه سيدي محمد وابشيرن ابن الشيخ محمد الأغظف.
أما الظاهرة الثانية التي تبرز أهمية شعراء الصحراء فهي متعلقة بالبعث والإحياء، أي بعث الشعر القديم وإحياؤه فقد كان شعراء الصحراء مؤهلين بحكم الثقافة التي كانت منتشرة بينهم، والتي كانت تركز على القديم وتعنى بدواوينه يحفظها طلاب الأدب ويستظهرونها في المجالس ويرددون أراجيزها وقصائدها بعفوية وسهولة،مما أتاح للشعراء أن يحيوا النماذج الجيدة من هذا التراث ويحاكوه.
لذلك يحدد أربع خصائص لمدرسة البعث والإحياء الصحراوية في امتدادها للماضي واستمدادها من القديم وإحيائها له واستيحائها منه.
الأولى: تظهر في المفهوم الذي كانت تعطيه للشعر، إذ تربطه بالفحولة والطبع وعدم التكلف، والقدرة على صياغته وحسن سبكه والتعبير به في عذوبة وحلاوة
الثانية: الميل إلى الغريب، وهو طابع بدوي صحراوي ناتج عن ثقافة الشاعر المعتمدة على القديم وما يتولد عن ذلك من قدرة على الاستحضار الناشئ عن كثرة الحفظ والاختزان،.
الثالثة: الوقوف على الأطلال والبكاء عليها،
الرابعة: معارضة الشعر القديم بدافع الاستيحاء الذي مر الحديث عنه، ولكن كذلك بدافع المنافسة بقدرة التعبير والمفاخرة بالتفوق. ومن الشعراء الصحراويين الذين برزوا في هذا المضمار امحمد بن محمد بن المختار بن الفغ موسى اليعقوبي المعروف ب (امحمد بن الطلب)،
وفي الأخير يتوقف الكاتب لخلاصتين انطلاقا مما سبق وهما :
أما الأولى فهي عنصر الوحدة التي تجمع الصحراء إلى أرض الوطن، لأن الفكر واحد والشعر واحد، والتعبير في عمومه واحد مهما كانت الأداة التي يتوسل بها فيه.
وأما الثانية فإنها تبرز أهمية الشعر الذي أبدعه أدباؤنا في الصحراء، ليس على المستوى المغربي فحسب، ولكن كذلك على المستوى العربي عامة.
على أن الأمر غير مقصور على أدب الصحراء،لأن كثيرا من سماته تطبع أدب جنوب المغرب كله، مما يعطي للجامعة في أقاليمه مسؤولية جسيمة تتمثل في إخراج النصوص ودراستها وإعادة النظر في كثير من الأحكام التي صدرت عن أدبنا وفكرنا وجميع مقومات هويتنا الوطنية، مع الإلحاح على ربط ذلك كله بالتراث العربي الإسلامي في ماضيه و واقعه وما يرهص به من آفاق المستقبل.