ماهي العلاقة بين الكتابة والصحراء؟ وكيف تلازمتا منذ زمن بعيد؟ ألم تكن الكتابة مرتبطة بالصحراء، هل هناك حدود للكتابة في الصحراء أم لا حدود لها مثل كثبان الرمال؟ وأيهما أقرب إلى ثقافة الصحراء: الكتابة أم الشفاهية؟
إنها تساؤلات عميقة تنبعث ونحن نتأمل المتون والمؤلفات التي اتخذت من الصحراء تيمة لها. فلقد شكلت الصحراء دوما فضاء غنيا بامتياز وباعثا على الإبداع والتدوين. بإرثها التاريخي العميق ،وبتنوع تضاريسها، وغنى مواردها الطبيعية التي تجمع البحر والبر في التحام وتناسق جميلين ،كما شكلت ملتقى للحضارات المتعاقبة على المغرب ، لذلك نبغ منها شعراء عديدون ومفكرون كانوا من رموز زمانهم ، ومثقفون ألفوا وأنتجوا كتبا ما يزال بعضها رهين خزانة المخطوطات ينتظر التنقيح وإخراجه من ركام الأتربة ليستفيد منه الأحفاد بعدما أنتجه الأجداد منذ زمن غابر
يعد هذا الكتاب الذي يمتد على 386 صفحة من أبرز الدراسات السوسيولوجية التي حاولت أن تجيب عن أسئلة حارقة اعتملت في ذهن الباحثين كخصائص الترحال الرعوي بمنطقة الصحراء عامة والساقية الحمراء ووادي الذهب على الخصوص ورد فعل البدو تجاه هذه الظاهرة ، وعوامل الاستقرار الحضاري ،وانعكاساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على البناء الاجتماعي التقليدي ،وعلى العلاقة بالدولة المركزية والمراتب الاجتماعية والقبلية، والبنية والأدوار داخل الأسرة المقيمة، ومآل الرعي في الوقت الراهن.
وقد اتبع الباحث محمد دحمان في محاولة الإجابة عن هذه الإشكالات منهجا علميا ينطلق من طرح إشكالية جوهرية ، ووضع فرضيات وتمحيصها على المقشدة العلمية من أجل التوصل إلى خلاصات علمية لرصد هذه الظاهرة الاجتماعية المتعلقة بالترحال والاستقرار ، وفهم مختلف التحولات الحاصلة وأبعادها ومحدداتها باعتبارها حصيلة تفاعل معقد لحزمة من العوامل التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والنظر إلى الاستقرار بالذات كدينامية داخلية في علاقة مع دينامية خارجية (علاقة مع الدولة بالعناصر الوافدة /العلاقة مع أساليب الرعي الحديثة ..)
وقد توزع الكتاب إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول وتطرق فيه الكاتب إلى الترحال والرعي كنمط من أنماط العيش من خلال دراسات وتصنيفات سابقة تطرقت لهذه الظاهرة، محاولا تحديد أصناف البداوة والرعي الترحالي بمنطقة الصحراء، مستخلصا أن الترحال والبداوة نمط عيش إنساني لا يقتصر فقط على الرعي الترحالي لوحده، بل قد يجمع بين مناشط كثيرة كالتجارة البعيدة المدى والقطف والزراعات والصيد التقليدي .
أما الفصل الثاني فتطرق فيه الكاتب للترحال بمنطقتي الساقية الحمراء ووادي الذهب ماقبل الاستقرار موزعا إياه على 4 مباحث هم الأول منها الرعي وأماكنه، والثاني القبيلة والمراتب الاجتماعية في فترة الترحال والتي وزعها إلى قبائل محاربة(العرب)، وأخرى زاوية، ثم قبائل غارمة تابعة لإحداهما مقابل خدمة أو غرامة مالية تؤديها الفئات المحمية للفئات المحتضنة لها.
كما قدم خطاطات توضح أصول وفروع مختلف القبائل التي تشكل وحدات البناء الاجتماعي التقليدي بالصحراء وهذه القبائل هي: أولاد دليم، اركيبات (الشرق والساحل)، العروسيين/ أولاد تدرارين ،فيلالة،لفيكات، ايت لحسن، الزركيين، مجاط، توبالت، لميار، يكوت،أ ولاد بسباع، ايت موسى علي ،ايمراغن.. كما أورد جينالوجيات قام بها الحاكم الاسباني *ديل باريو*لمجموعات تجمع عائلات متنوعة وهي تتعلق بقبيلة أهل بارك الله، وقبيلة أهل الشيخ ماء العينين ..وفي سياق آخر تطرق للقبائل السائدة محاولا رصد خصوصياتها ومميزاتها التراتبية الاجتماعية داخل المجتمع الصحراوي ماقبل الاستعمار الاسباني موزعا إياها إلى :
حملة السلاح: وهم لعرب أو حسان
الزوايا:الطلبة
التابعين :اللحمة / ازناكة
الحراطين العبيد / لمعلمين / الصناع /لصحاب.
المبحث الثالث :تطرق فيه للأسرة وتقسيم العمل مستفيضا في الحديث عن الخصوصيات الاجتماعية المتعلقة بالزواج، وتوزيع العلم بين الذكور والإناث الذي يعمل على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي الأبوي التراتبي وهو موجه في الغالب إلى خدمة الفئات التي كانت سائدة بفضل تحكمها في تسيير المجال الحربي (حسان) واللامرئي(الزوايا).
أما المبحث الرابع فقد خصصه الباحث لتفكيك وتحليل سياسة التغلغل الاستعماري وردود فعل المجتمع البدوي التي اختزلها في رد الفعل المباشر، والذي يتجلى في الجهاد مذكرا بأبرز الشخصيات التي تزعمته، ورد الفعل غير المباشر الذي تجلى في اتباع نمط جديد للعيش حيث ابتعد السكان عن أماكن التمركز الاستعماري وقاطعوا كل الأشياء المرتبطة به مفضلين السكن في البادية بعيدا عن الحرب قصد الإعداد لحركة تحرير هادئة من جهة، ومن جهة أخرى هجرة العديد من الشخصيات والمجموعات الاجتماعية من المنطقة داخل المغرب كغالبية أبناء الشيخ ماء العينين وأفراد من مختلف القبائل هاربين من قبضة الاستعمار ومتابعاته لهم ،والتي ستشارك في حركة جيش التحرير في نهاية الخمسينات وتدعم المسيرة الخضراء فيما بعد.
المبحث الأول من الفصل الثالث من الكتاب خصه الكاتب للحديث عن ظهور مراكز الاستقرار وانعكاساتها السوسيواقتصادية على نمط العيش بعد حدث المسيرة الخضراء واسترجاع وادي الذهب ، حيث سيقدم الكاتب جداول وافية ومضبوطة عن تنظيم المجال الإداري وانعكاساته على حركة السكان، وإحصائيات حول قطاعات اجتماعية أكثر ارتباطا بالحياة اليومية للفاعلين الاجتماعيين، والتي تنعكس على البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية العامة وهي (التعليم والصحة والفلاحة والإنعاش الوطني ..)
أما المبحث الثاني فتحدث فيه الكاتب عن المراتب الاجتماعية التي خلقتها وضعية استقرار الرحل في المدن المحدثة، والهجرة النهائية نحو التجمعات الحضرية، وما واكب ذلك من عوامل ذات طبيعة بيئية وسياسية وعسكرية كان لها أثر كبير على المراتب الاجتماعية ماقبل الاستقرار مفصلا في النخب الجديدة التي ظهرت من فئات الموظفين والمقاولين والمياومين .
وفي المبحث الثالث من نفس الفصل أعاد محمد دحمان التذكير من جديد بدور الأسرة والتغييرات الاجتماعية التي طرأت عليها خاصة التحول في استراتيجية الزواج، وتقسيم العمل والأدوار، والعلاقات الجديدة داخل الأسرة خاصة أن *المرأة والشباب هما الأكثر إحساسا بالثقافة والأدوار الجديدة*مفصلا أكثر في التنشئة الاجتماعية وفي وضعية المرأة والديموقراطية التي أصبحت تميز العلاقة بين الرجل البدوي والمرأة البدوية .
كما فصل الكاتب في التحول المجالي واستعمال المجال السكني والبدو المستقرون والعمل المأجور والرعي في الوقت الحاضر الذي أصبح رعيا انتجاعيا، حيث لم تعد الوحدة الأسرية أو المجموعات القبلية التي تنتقل مع القطيع، وإنما الراعي (السارح)لفائدة كبار المستثمرين والمستفيدين من الجهاز الإداري والسياسي المكونين للنخبة الجديدة بالمنطقة .
وختم الكاتب مؤلفه بملاحق قدم فيها تعريفات بسيطة بأهم المصطلحات والكلمات المحلية الواردة في الكتاب مما يمكن الباحثين من استيعاب المعنى الدلالي للكلمات والمفردات الموظفة ووثيقتين تاريخيتين هما:
مذهب المقاصد في نسبة قبائل تراب البيضان
فتوى في شان أراضي ايميركلي بالساقية الحمراء
وقد اعتمد الكاتب في هذا المؤلف الهام على المخطوطات المحلية والرسمية والمنوغرافيات الأجنبية وذاكرة كبار السن. و على 52 مصدرا ومرجعا باللغة العربية و150 مصدرا أجنبيا موزعا إلى اللغتين الفرنسية والاسبانية.
وتكمن أهمية الكتاب الصادر سنة 2006 و الذي هو في الأصل رسالة جامعية قدمها الباحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع القروي بجامعة محمد الخامس بالرباط في كونه بحثا ميدانيا معمقا اعتمد فيه صاحبه على المقابلات الشخصية والروايات الشفوية إضافة إلى المخطوطات التي تشكلت من المراسلات المخزنية والظهائر السلطانية وفتاوي ونوازل فقهية وتقاييد في أنساب المجموعات القبلية والزعامات المحلية .