1 ـ «الغرابة المقلقة»: مفهومٌ جوهريٌّ في قراءة فرويد للأعمال الأدبية والفنية. وقد وجد المختصون صعوبةً كبيرةً في نقل المفهوم من اللغة الألمانية: Das unheimliche . فالترجمة الفرنسيةُ المستعملةُ على نطاقٍ واسع: L’ inquiétante étrangeté تشكو بعضَ النواقص، وهو ما جعل البعضَ يقترح ترجمةً أخرى: L’ Etrange familier. وفي اللغة العربية، نعتمد ترجمةَ بعضِ المترجمين العرب: الغرابة المقلقة(1).
يمكن القولُ إن الكتابةَ في حدّ ذاتها هي شيءٌ غريبٌ مقلقٌ، فالطريقة التي يتكلّم بها الكتّابُ والكاتبات، والأشياء التي يقولونها ويحكونها، كلُّـها أشياءُ غيرُ مألوفة، غيرُ واقعية، غريبةٌ وانتهاكية وانزياحية، تتعلق بالمتخيل أكثرَ مما تتعلق بالواقع، تبحث عن الإحساس القويِّ الشديد، وتُـثير القلقَ أكثر مما تخلق الطمأنينة.
لكنَّ الواقعَ أنَّ في الكتابة الأدبية نصوصـًا تقولُ الجميلَ والحسنَ والمألوفَ أيضا، وتثير السكينةَ والطمأنينةَ كذلك. وتعود أهميةُ « الغرابة المقلقة « إلى كونها تُـوَسِّـعُ مجالَ الجمال، وتدفعه إلى الانفتاح على القبح والبشاعة والخوف والرعب، وتجعل المتلقي يفقدُ الكثيرَ من أسس حياته العادية، ليواجهَ مخلوقاتٍ مختلفة وأحداثـًا لاواقعية وعوالمَ مغايرة.
وربما لا ينبغي لنا أن نُـؤَوَّل الاتجاهَ إلى هذه العوالم الأخرى على أنه هروبٌ من الحاضر أو الواقع، بل العكسُ تماما، لأنَّ الأمرَ يتعلق بمحاولة اكتشاف الحاضر أو الواقع اكتشافـًا أفضلَ وأقوى، أي ذلك الاكتشاف الذي يتغلغل إلى دواخل العالم وبواطنه ولا يكتفي بسطوحه وجوانبه الخارجية. وبهذا المعنى، فكتابة الغرابة المقلقة قد تعني احتجاجـًا وعدمَ رضـًا ورفضـًا للحاضر أو الواقع القائم.
2 ــ قد نصادف في الحياة أمورًا غريبةً مقلقةً فنَـخضعُ لتأثيراتها، وقد نجد في نصوصٍ أدبيةٍ محاكاةً لهذه الغرابة المقلقة في الحياة الواقعية المعيشة. إلا أن الملاحظ ـ وهو ما سجله فرويد في دراسته: الغرابة المقلقة ومقالات أخرى( 2 ) ـ أن الغرابةَ المقلقةَ في الكتابة والتخييل أوسعُ وأغنى. ويهمّنا في هذا المقال أن نرصد بعض أهم الآليات والإمكانات التي تستثمرها القصة القصيرة بالمغرب المعاصر في كتابة الغرابة المقلقة، من خلال مجموعة: داء الذئب(1996) لصاحبها الكاتب المغربي محمد غرناط( 3 ).
2 ـ 1 ـ إحياء الموتى وتكليم الحيوان:
في قصة: الكلب والشيطان، يعود الطبري، المؤرخ المشهور، إلى الحياة، ويقول خطابه التاريخي، ويدخل في حوار مع الكلب … هنا يتكلم الحيوان كما يتكلم الإنسان، ففي الأدب(الشفوي والمكتوب، القديم والحديث) يمكن أن تصادف حيوانا أو جنّا أو ملاكا أو نباتا أو جمادًا يتكلم ويتحاور ويتصرف كما الكائن البشري، ويستحيل أن تصادف ذلك في الحياة الواقعية الملموسة، فالغرابة المقلقة، كما سجّل ذلك جاك لاكان في إحدى محاضراته، هي وليدة المتخيل.
وفي هذه القصة، نكون أمام شخصيات من مختلف الأجناس والأنواع( حيوان، إنسان، ملاك)، من الماضي كما من الحاضر، من العالم السفلي كما من العالم العلوي، الجمع بينها في زمان أو مكان واحد يخلق الغرابة المقلقة: الكلب والدجاجة والشيطان والطبري، وهي شخصيات تمارس الكلام والحوار وتتصرف جميعها كما يتصرف الإنسان:
« قال الشيطان:
ـ لماذا لا تبحث عن الدجاجة إلا في الليل؟
أجاب الكلب:
ـ قيل لي إن دجاج الجنة لا يظهر إلا حين ينام الإنس والجن..
(…)
تساءلت الدجاجة:
ـ شكون أولاد الطبري؟
قال (الكلب) موضحا:
ـ إنهم المتورخون الذين يحفظون تاريخ الرسل والملوك وما إليهم..» ( ص ص 13 ـ 19).
والنص القصصي، هنا، لا يخلق الغرابة المقلقة بمضمونه فقط، بل وبشكله أيضا: إذا كان النص يخلق عالما غريبا مقلقا تتحاور فيه كائنات من مختلف الأزمنة والعوالم، فـإنه بذلك يأتي حريصـًا على أن يكون متعددَ الأصوات(صوت المؤرخ، صوت الكلب، صوت الدجاجة، صوت الشيطان)، ومتعددَ اللغات(لغة فصحى/ لغة عامية)، ومتعددَ الأنماط السردية، فالقصةُ أشبهُ بالحقيبة التي نجمعُ فيها أشياء مختلفة: السرد التاريخي العربي الكلاسيكي، قصص الحيوان، الحكايات الفانطاستيكية، السرد الشفوي، السرد المكتوب، السرد الواقعي، السرد اللاواقعي .. إن النص القصصي قد عاد حقيبةً غريبةً مقلقة!
2 ـ 2 ـ خلق العوالم المخيفة:
منذ الأسطر الأولى من قصة: العداء، نجد أنفسنا صحبة البطل داخل عالم مخيفٍ ومقلقٍ لا يبعث على الطمأنينة والارتياح:
كان البطل بعيدًا عن مسكنه وأهله، وبعدَ غروب الشمس وسكون الأصوات، غَـمرَه إحساسٌ غريبٌ بالهلع، فكَـتَـمَ خوفَـهُ واندفعَ يَـعدو وحركةُ الريح تملأه من كلِّ الجهات. تضاعَـفَ هَـلَـعُـهُ، فسار يعدو بسرعةٍ خارقةٍ وأصواتٌ ناهيةٌ تتبعه إلى أن رأى طريقـًا مشعّا وعلى جانبيه تقف بيوتٌ متتالية، فتوقف إلى أن هدأتْ أنفاسُـه وواصلَ الطريق، كان يعتقد أنه سائرٌ إلى مسكنه وأهله، فوجد نفسَـه أمام مخلوقاتٍ إنسانية أخرى، وبلا شكٍّ أمامَ عالمٍ آخرَ:
« ـ هل تعرف أين أنت؟
ـ أنت في حيّ من أخطر أحياء العرب…
تملّكني الرعب وأنا أحرك رأسي بالإيجاب. تأملت شفتيه الغليظتين لحظة، وأحنيت رأسي. فكرت في الفرار، لكن الأضواء كانت تطوقني» (ص 7).
وفي قصة: رباعية ميلانو نكون أمام راوٍ يعود إلى مدينته ميلانو، فيجدها عالمـًا مخيفـًا مرعبـًا: عادَ الراوي إلى ميلانو بعدَ غيبةٍ طويلة، وكان متشوقـًا للعودة إلى مدينته ورؤيةِ حبيبته البتول، ففوجئ بأمرين مخيفين ومقلقين: تلك الغولة ـ هذا الكائن المخيف المرعب في محكينا الشفوي الشعبي ـ التي كانت أولَ من اعترض طريقه وهو يدخل المدينة.
وجدَ الراوي « البطلُ « المدينةَ قد تغيرت كثيرًا، فمدينتُـه التي كان يعرفها لم يعد لها وجود، والغولة ربما ليست إلا صورةً للتحول أو المسخ الذي أصابَ مدينتَـه التي فقدتْ هُـويتَـها الأصليةَ وعادت شيئـًا مرعبـًا ومخيفـًا، هو الراوي لم يعد يتعرفها وهي مدينتُـه لم تعد تعرفه، ولهذا واجهته الغولة بالقول: « ارفع رأسك وانظر إلى ميلانو. وكن على يقين أيها القرد اللعين أنه لم يعد لك مكان هنا…» (ص 76).
الأمر الثاني أن الراوي عاد من غيبته متشوقا إلى لقاء حبيبته البتول، إلا أن المفاجأة الغريبة ما علمه من امرأة كانت جارته في الماضي: عاد الراوي من غيبته ليجد حبيبته قد تحولت إلى شيء آخر، إلى سيدة ميلانو، بل هي ميلانو. فالتحول الذي أصاب ميلانو، وكانت صورته المرعبة هي الغولة، قد أصاب البتول أيضا، بل لا فرق بين البتول وميلانو، فهل البتول هي الغولة، وهل الغولة هي البتول؟
الملاحظ أن كتابة الغرابة المقلقة تتأسس على لعبة المرايا، فالغولةُ مرآةٌ من خلالها نتعرَّفُ حاضرَ المدينة، والمدينةُ مرآةٌ من خلالها نتعرَّفُ على البتول في هُـويتها الجديدة، والبتولُ مرآةٌ من خلالها نكتشف المدينةَ الجديدة، والغولةُ مرآةٌ من خلالها يحصلُ اللقاءُ بالبتول الجديدة التي تَـستدرجُ الرجال إلى قصرها وتُـحوِّلهم إلى خَـدَمٍ وعبيد، وقد لا تميز بين الحبيب وغير الحبيب، ومن هنا نصيحة المرأة للراوي بألا يسعى إلى لقاء حبيبته التي لم تعد كما كانت.
ولا ينبغي لنا أن ننسى أنَّ الطائرَ الحرَّ هو المرآةُ التي من خلالها نتعرف على الراوي في هُـويته الأصلية الأصيلة، وهي الهُـويةُ المهددةُ في مدينته الجديدة التي تعرضت للتحول والمسخ، فالغولة اعتبرته قردًا لا يستحق أن يعيشَ في ميلانو الجديدة، ونصحته جارتُـه سابقا بعدم لقاء حبيبته البتول، وإلا فإنه سيفقد هُـويتَـهُ كطائرٍ حرٍّ، وسيتحوَّلُ إلى عبدٍ خادم.
وعمومـًا، فالغريبُ المقلقُ أنَّ هُـويةَ الشخصية المركزية ــ شخصية الراوي ــ مُـهَـدَّدَةٌ في عالمٍ كلُّ ما فيه أصابَـه المسخُ والتشوُّهُ: المدينة، الحبيبة..
عالمُ القصة عند محمد غرناط عالمٌ غريب، وكلُّ شيءٍ فيه يبدو غيرَ مألوف، وفيه لا تكون « للبطل « أيُّ علاقةٍ بما يَـحدث، بل هو يجد نفسَـه أمام مفاجآتٍ ومصادفاتٍ وتنافرات لا يدرك لماذا تحصل وتقع، كأنه مجرَّدٌ من كلِّ مبادرةٍ أو قدرةٍ على الفعل، وكأنَّ العالمَ يقعُ تحت رحمة قوى خفيةٍ تملك القدرةَ على تحويل الأشياء ومسخ الكائنات ونشر الغرابة والقلق والخوف. فهو يعيش أحداثا تخرج عن إطار حياته العادية، أو هو عائد إلى مدينته، فكان طريقُـه إليها غريبًا خارجًا عن المألوف.
يبدو « البطل « مفردًا منعزلا لا يستوعب التحولات والمسوخات التي يعرفها العالمُ، لكنه، أي البطل، يبدو في الوقت ذاته كأنه الملجأ الذي تتجمّع فيه قيم الإنسانية(الفكرية والشعورية) المهدَّدة في عالم خارجي يتعرض للتحول والمسخ.
2 ـ 3 ـ التحول والمسخ:
فكرة المسخ أو التحول قديمة وكونية وذات أسس ميثولوجية، ولكنَّ انتقالَـها منذ قرون إلى الأدب جعل منها شكلا أدبيا متميّزًا. وفي القرن الماضي اعتبرت النظرياتُ الشعريةُ المسخَ شكلا نوعيا فريدًا: هو نوعٌ من الحكاية العجيبة، ويجري موضوعُـها على أساسِ تحولِ الأشكال. وهو شكلٌ أدبيٌّ متميّز لا بموضوعه فحسب، بل وبتركيبه وتأليفه وشعريته وبلاغته.
ومن مميزات القصة عند محمد غرناط أنه يوظف هذا الشكل الأدبي بشكل لافت، ويستحضره بوجهيه: الايجابي والسلبي. ففي أكثر من قصة نجد الراوي والشخصيات تتعرض للتحول والمسخ، وهكذا قد تتحول الشخصية إلى طائر حرّ( الوجه الايجابي) أو إلى قرد أو حمار( الوجه السلبي).
والملاحظُ أنَّ المسوخاتِ السلبيةَ أكثرُ حضورًا وهيمنة، والغالبُ هو تحولُ الإنسان إلى حيوان بالوجه السلبي، تعبيرًا، ربما، عن انحطاط الإنسان وحيوانيته التي لا تزال تتحكم فيه.
لكنَّ المسخَ السلبيَّ يعني كذلك أن الشخصيةَ تعيشُ المسخَ أو التحولَ كشيءٍ مقدَّرٍ عليها، لا تفهمُ سببَـه، ولا تدرك مصدرَه، وهي تتقبّله بوصفه شيئـــًا مفروضــًا حتميّــــًا، لا تملك القدرة على صدِّه:
«حتى منتصف نهار أمس، كانت حالتي عادية. لم يظهر علي أي شيء يثير الاستغراب، فلم أعرف سببا لكل ما حدث، هكذا، وبشكل فجائي، تداخلت أعضائي في بعضها، وتقوس ظهري إلى حدّ لم أستطع معه الوقوف على اثنين، ودرجت على أربع دون أن يسمع أحد حركاتي، وقفت أمام المرآة أتأمل نفسي، نصف جسدي سكن النصف الآخر. تحولت بغتة إلى كائن صغير. تغير فيّ كل شيء: لون شعري ولون عيني وتفاصيل وجهي. ما عدا حجم رأسي، ولكنه بدا اللحظة ضخما. أردت أن أقول كلمة عجزت…» (ص69).
هي تحولاتٌ ومسوخاتٌ تأتي فجائيةً مخيفةً مرعبةً تعمل على تغيير أهم عناصر الهُـوية، هُـوية الكائن الإنساني( الجسد، الوجه، العيون، الحركة،المشي، النطق والكلام …). فما يثير الاستغرابَ أنَّ الشخصيةَ تفقد بشكلٍ فجائي هُـويتَـها ككائنٍ إنساني، وتتحول دون أن تعرفَ السببَ إلى كائنٍ جديدٍ بهُـويةٍ مغايرة، غريبةٍ ومقلقة، لا تجد جوابا عن هذا السؤال: كيف يصير الإنسان كائنا آخر، شيئـــًا آخر؟
بإبرازه تحولات الكائن إلى كائنٍ آخر، وبالانتقال من عالم إلى آخرَ، يطرح هذا الشكلُ الأدبي مسألة الهُـوية، فهناك علاقةُ وثيقةُ بين المسخ والهُـوية كما سجّل ذلك ميخائيل باختين في كتابه: الاستتيقا ونظرية الرواية( 4 )، ذلك لأن المسخَ يؤلف شكلَ إدراكٍ وتمثّلٍ للقَـدَر الشخصي للإنسان في أكثر اللحظات تأزمـًا من حياته. فالملاحظ في قصص غرناط أنها لا تركّز إلا على اللحظات الاستثنائية من حياةٍ إنسانيةٍ ما، لكنها اللحظاتُ التي تحدد صورةَ الإنسان ومصيرَه.
وإذا كان غرناط يوظف المسخ شكلا أدبيا في قصصه، فإنَّ ذلك قد مكّنها من شعريةٍ خاصَّةٍ، ذلك لأنَّ هناك روابطَ وثيقةً بين المسخ والشعر، فالمسخُ يتأسس في قلب اللغة الشعرية، وهو يعني جوهرَ اللغة الشعرية، أي قدرتها على استبدال الأشياء والكائنات.
ومن هنا إكثار الكاتب من استعمال التشبيهات والاستعارات في قصصه، فهي التي تسمح له بأن يقول التحولَ والمسخَ من خلال نظام التماثلات والتشابهات: تؤدي التشبيهات والاستعارات والرموز دورًا جوهريا في إنتاج محكيات المسخ وملفوظاته، ولا يتعلق الأمر بتشبيهاتٍ متفرقةٍ هنا وهناك، بل إنَّ فعلَ السرد هو أساسـًا فعلٌ يقوم على استبدال الأشياء والكائنات والعوالم، والمحكي هنا هو في كليته محكيٌّ استعاريٌّ رمزيٌّ لا يسعى إلى محاكاةٍ مباشرةٍ أو نسخ حرفيٍّ للواقع كما في المحكيات الواقعية التقليدية، ولهذا لا ينبغي لنا أن ننظرَ إلى المسخ على أنه واقعٌ، بل إنه رؤية، وهو رؤية « داخلية « ذاتية يؤلفها الراوي عن ذاته كما عن العالم والآخرين، ويتداخل فيها الواقع والخيال، الحقيقة والمجاز، الملموس والمتصوّر، التحقيق والتخييل.
2 ـ 4 ـ أحداث واقعية / أحداث لاواقعية:
قد تقتضي الغرابةُ المقلقةُ أن يكونَ الحدثُ المركزي لاواقعيّـًا يصعبُ تصديقُـه، لكنَّ القصةَ تُـقَـدِّمُـه على أنه واقعيّ، ومن هنا غرابتُـه التي تزرعُ القلقَ في النفس، ومن هنا أيضا قوةُ الخلق والإبداع.
في قصة: حدث الآن حدثٌ مركزيٌّ غريبٌ ومقلقٌ هو: « رجلٌ يعضُّ كلبـًا «. لو كان الحدث هو: « كلبٌ يعضّ رجلا « لكان عاديا مألوفا، لكن الغرابةَ المقلقةَ هي في قلب الأدوار، فالرجل الإنسان هو الذي يعضّ الكلبَ الحيوان. وتزداد الغرابةُ المقلقةُ قوةً إذ يقول الراوي إن هذا ما يحدث الآن، ربما أنه لم يكن ممكنا أن يحدثَ في الماضي، ولم يكن هناك أحدٌ يمكن أن يصدقَ أنَّ مثلَ هذا الحدث ممكنٌ حدوثُـه، لكن في الوقت الحاضر هذا الحدثُ الغريبُ المقلقُ ممكنٌ، بل إنه حدث فعلا في الزمن الحاضر.
يمزج محمد غرناط بين الأحداث الغريبة اللاواقعية من جهة وبين عناصرَ لغويةٍ ومقاميةٍ مألوفةٍ وواقعيةٍ من جهة أخرى، ساعيـًا إلى جعل اللاواقعي يبدو واقعيا وحقيقيا:
ـ في بداية القصة نكون أمام راو يأخذ مكانه في ركن منزو من مقهى ما، يشرب قهوته ويقرأ جرائد الصباح كما يفعل آخرون بشكل عادي في المقهى نفسه.
ـ يتوقف الراوي عند حدث غريب نشرته الجريدة: رجل يعضّ كلبا. فالأمر يتعلق بحدث من الأحداث الغريبة التي صرنا نقرأها في الصحف والجرائد. وهي أحداث تتقدم على أنها وقعت فعلا، لكن يصعب تصديقها لغرابتها وما تثيره من قلق ومخاوف.
ـ يتعلق الحدث بكائنين يتصفان بصفاتٍ واقعيةٍ عادية مألوفة: الأولُ رجلٌ يشهد أهل الحي أنه سويّ، ترك البيتَ صباحا، وعندما كان عائدًا في المساء اشتدّ جوعه. والثاني كلب يبدو ذا شأن، ناعمَ الشعر، صافيَ العينين، نظيفَ الوجه، يأخذ طعامَـه المعتاد.
ـ ما حدث في البداية بين هاتين الشخصيتين القصصيتين قد يبدو غيرَ واقعي، لكنه في الحقيقة واقعٌ معيشٌ ومألوفٌ في حياتنا المعاصرة: هناك رجلٌ جائعٌ من جهة، وهناك كلبٌ يأخذ طعامَه المعتاد. فما قد يُـعتبر لاواقعا، قد صار الآن واقعا: الحيوانُ أكبرُ شأنـًا من الإنسان.
ـ ما حدث بعد ذلك قد يبدو لاواقعيا، لكنه يأخذ طابعا واقعيا في هذا السياق: يطلب الرجل من الكلب ضيف الله، ينظر إليه الكلبُ باستخفافٍ ويطلب منه ناهرًا الابتعادَ عن ساحته، وفجأة بدأ الرجل يتغير حتى صار كائنا غريبا، ثم انتفض بقوة واندفع نحو الكلب، يعدو خلفه حتى أمسك به، فعضّه بضراوةٍ في كل مكان من جسده.
ـ ما وقع في النهاية يتموقع بين الواقع واللاواقع: الرجل الذي عضّ كلبا لم يكن إلا الصديق الذي ينتظره الراوي في المقهى، وقد جاءه وصوتُـه صوتُ كلبٍ مرهق، فانتفض مدعورًا مستغربا، ولم يستطع أن ينطِـقَ أو يصرخَ أو يُـطلق صوتَـه، ودعاه صديقُـه بصوته الغريب للوقوف والخروج من المقهى، فحاول الراوي أن يَـنطق، فلم يردد غيرَ صوتِ صديقه/الكلب.فهل انتقلت إليه عدوى صديقِـه، أم أن الأمرَ منذ البداية لا يتعلق إلا بالراوي نفسه، فهذا الصديق ليس إلا وجهَه الآخرَ، والرجلُ الذي عضّ كلبـًا لم يكن في النهاية إلا الراوي نفسُـه؟
ـــ ومن أجل إضفاء الطابع الواقعي على الأحداث اللاواقعية، نجد لغةَ السرد تحوي علاماتٍ لغويةً تنتمي إلى اللغة اليومية المألوفة، وتحاكي اللغة الوسطى التي تعتمدها الجرائد في سرد الأحداث:
« فدارت للرجل في الخواء وطلب منه ضيف الله.»(ص 64).
كما نجدها تحاكي لغة السرد الواقعي التقليدي التي تكتفي بتسجيل الأحداث الواقعية المألوفة، كما في هذا النموذج:
« أطفأت سيجارتي ورشفت من كأسي جرعة طويلة. طلبت كوب ماء بارد، كرعت نصفه، وسمعت صوت فيروز يعلو هادئا، وديعا، في ايقاع طويل متصل»(ص 65).
3 ـ تنتمي قصصُ محمد غرناط إلى هذه النصوص التي بدأت تشكّلُ ظاهرةً منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي في الأدب السردي بالمغرب(نصوص محمد الهرادي والميلودي شغموم ومحمد عز الدين التازي …). وهي نصوصٌ لم تعد تكتفي بتسجيل الواقع ونسخه كما كان عليه الأمرُ في أغلب نصوص الستينيات والسبعينيات، بل انفتحت على هذا النوع الآخر من الأدب السردي الذي يُـعتبر فرانز كافكا من كتّابه الكبار في العصر الحديث، وهو النوع الذي يعمدُ إلى كتابة ما في ذواتنا ووجودنا وعوالمنا النفسية والاجتماعية من غرابةٍ مقلقة، وذلك باستخدام الفانطاستيك والانفتاح على اللاواقعي والمتخيل والأحلام والاستيهامات وتوظيف الاستعارة والترميز ولعبة المرايا وتعدد الأصوات واللغات …
يحاول محمد غرناط، من خلال نصوصه، التعبير عن القلق والتوتر والصراع الداخلي الذي هيمنَ على الإنسان المغربي/ العربي بعد انكسار خطابات الثورة والتغيير والتقدم وتراجعها. فلم يعد هناك ما يمنحُ الطمأنينةَ والاستقرارَ للفرد في عالم يعرف تحولاتٍ ومسوخاتٍ مفاجئةً ومخيفةً. ومن هنا فكتابةُ الغرابة المقلقة ليست إلا نقدًا لحالة الاغتراب والإحساس المفرط بالعزلة التي يستشعرها الفردُ في عالم قاهرٍ يعرف تبدلاتٍ وتحولاتٍ غريبةً ومرعبة. وبهذا يكون لهذا النوع من الكتابة بُـعـدٌ إنسانيٌّ جوهريٌّ، لأنها صرخةُ احتجاج ضدَّ النظام، ذلك الذي يتحكم في مصير الفرد في هذه المجتمعات الحديثة، ولأنها محاولةٌ / مغامرة تبحث عن طرائق جديدة من أجل فهم العلاقة الملتبسة التي تتأسس بين الإنسان والعالم الخارجي الذي يعرف تحولاتٍ غامضةً وغريبةً.
وإجمالا، يبدو أن الكتابةَ التي تقولُ الغرابةَ المقلقةَ هي كتابةٌ تقولُ الواقع، ولكن بطريقةٍ لاواقعية لامعقولةٍ تأكيدًا على غرابة الواقع المرعبةِ المقلقةِ المتحولةِ عمّا هو مألوفٌ وإنسـانيٌّ.
هـــوامـــش:
1 ـ ترجمة اقترحها: وجيه أسعد في ترجمته لكتاب مارت روبير: رواية الأصول وأصول
الرواية، الرواية والتحليل النفسي، منشورات اتحاد كتاب العرب، 1987، ص 155.
2 – Sigmund Freud : L’inquiétante étrangeté et autres
essais, Gallimard, Paris, 1988.
3 ـمحمد غرناط: داء الذئب، منشورات فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، المغرب،
1996.
4 – Mikhail Bakhtine: Esthetique et théorie du roman, Gallimard,
Paris, 1987.