في خضم المنافسة العالمية وتسابق كبريات الشركات الطبية وعدد من الدول لتوفير لقاح ضد فيروس جائحة كوفيد-19 في المستقبل القريب، يبدو أن الجدل الذي يصاحب اللقاح المنتظر لا يزال قائما ومتواصلا منذ الإعلان عن أولى التجارب السريرية.
فبين من يعارض اللقاح ويشكك في نجاعته وسلامته ومدى احترامه للمعايير الصحية التي يتطلبها عادة إنتاج لقاح ناجع وفعال من جهة، وبين من يؤمن بقدرة الدول وشركات الأدوية على توفيره بالنظر للامكانيات المادية والمتوفرة والتطور الذي يشهده المجال الطبي والتكنولوجي في العالم من جهة أخرى، يطفو على السطح ، أيضا ، نقاش يؤطره التشكيك في الدوافع الربحية والاقتصادية لشركات الأدوية والمراكز الصحية الدولية وكذا الاستثمار السياسي للقاح من قبل الدول المتنافسة.
في هذا السياق، اعتبر الباحث في السياسات والنظم الصحية الطيب حمضي أن الجدل المهم والأساسي حول اللقاح المستقبلي يتعلق اليوم بالأسئلة التي تشغل بال العالم من مسؤولين سياسيين ومهنيين صحيين وسلطات صحية ومواطنين، من قبيل: هل هناك إمكانية إيجاد لقاح فعال وآمن ضد فيروس كورونا؟، ومتى سيتم اعتماده والموافقة عليه؟، وكم عدد اللقاحات التي ستنجح في المرحلة الثالثة؟، ومتى سيمكن توزيعه بشكل واسع؟، وهل سيتم توزيعه بشكل عادل على الفئات التي هي في حاجة له اكثر من غيرها أم ستنفرد به الدول الغنية أولا، ويستفيد منه جميع مواطنيها بسبب قدرتها المالية، وبعد ذلك تأتي شعوب الدول النامية؟.
وقال في حوار خص به وكالة المغرب العربي للأنباء إن «هذا هو الجدل الذي يشغل بالنا كمهنيين وكأطباء وباحثين من أجل حماية الفئات الهشة من مسنين ومصابين بأمراض مزمنة ضد كوفيد-19 كأولوية، بجانب حماية المهنيين الصحيين للحفاظ على المنظومة الصحية، وغيرهم من المهنيين في الصفوف الأمامية في مواجهة الجائحة».
وأضاف أن العالم بأسره يعمل من أجل توفير لقاح فعال وآمن وفي متناول الجميع في أقرب وقت بالكميات التي تسمح بحماية الفئات الأكثر هشاشة والأكثر تعرضا للخطر ولاحتمال الوفاة ب(كوفيد-19). وهناك عدة مبادرات عالمية في هذا الاتجاه، وفق الخبير.
وأمام تخوف دول العالم الثالث من عدم التمكن من توفير اللقاح لمواطنيها، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن مبادرة «كوفاكس» التي تقودها مع التحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع والائتلاف المعني بابتكارات التأه ب لمواجهة الأوبئة، لتوفير ما لا يقل عن مليارى جرعة من اللقاحات بحلول نهاية عام 2021، وتنسيق الجهود الدولية لضمان التوزيع العادل والمنصف للقاح على كل الدول بما فيها النامية، مؤكدة حرصها على إتاحة اللقاحات المحتملة لفيروس كورونا وتوزيعها بطريقة منصفة في جميع البلدان والمناطق، بغض النظر عن وضعها الاقتصادي.
وفي المغرب، قامت وزارة الصحة بالتوقيع على اتفاقيتي شراكة وتعاون مع المختبر الصيني «سينوفارم» تهدفان إلى إشراك المملكة في التجارب السريرية للقاح ضد فيروس كورونا المستجد وحصولها على مخزون من اللقاحات، علاوة على مذكرة تفاهم مماثلة مع مجموعة «أسترازينيكا»، من خلال شركة «إر-فارم» الروسية.
وكان وزير الصحة خالد آين طالب قد عقد، مؤخرا، جلسة عمل حضرها المديرون الجهويون للوزارة، خصصت لتدارس بعض الإجراءات والتدابير التقنية الاستباقية لتعميم التلقيح ضد فيروس كورونا المستجد على كافة جهات وأقاليم المملكة بعد أن تنتهي كل المراحل التجريبية لهذا اللقاح ويدخل مرحلة رواجه على المستوى العالمي.
وأدى تضارب الأخبار حول اللقاح المستقبلي إلى إثارة حالة من «التوجس» لدى المواطنين، انعكست جليا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عبر العديد منهم عن تخوفهم إزاء هذا اللقاح متسائلين عن سلامته ومدى نجاعته، فيما أعرب آخرون عن أملهم في قدرة شركات الأدوية على إنتاج لقاح آمن في القريب. هكذا اعتبرت الحسنية أن «جميع اللقاحات تحتاج علميا لسنوات من التجارب وليس مجرد شهور»، واصفة الفيروس بأنه «نتاج تجارب بشرية وليس قاتلا كما يصوره الإعلام العالمي»، فيما يرى عبد المجيد أنه «بفضل تطور العلم فإن اللقاح الذي يحتاج سنوات لإنتاجه بات يتطلب اليوم شهورا فقط».
أما حكيم، فأشار بدوره إلى أن شركات الأدوية التي أعلنت توصلها إلى اللقاح، «معروفة بكفاءتها، وقد اكتشفت العديد من اللقاحات للعديد من الأمراض»، بينما ذهب الحبيب إلى أن «المستفيدين المفترضين من اللقاح ستكون الدول العظمى والمنتجة للقاح، أما مواطنو الدول النامية فسيكونون آخر من يتوصل به بالنظر لكلفته وإمكانيات بلدانهم».
وتعليقا على هذا الجدل القائم حول هذا اللقاح الذي يديره بعض مريدي «نظريات المؤامرة»، رأى الباحث حمضي، وهو أيضا رئيس نقابة الطب العام، أن «هذا الجدل مفهوم ومتوقع باعتبار أن كل الأزمات السياسية والاجتماعية والصحية تعرف انتعاشا ملحوظا لكل نظريات المؤامرات من كل الأصناف بسبب الخوف والتوتر والقلق ومحاولة إيجاد تفسيرات تطمئن الذات وتسكن النفس، وتجد تفسيرات مبسطة لأوضاع في الحقيقة معقدة ومفتوحة على احتمالات ربما مقلقة».
وتابع أن هناك «تلفيقات كثيرة تنتشر وخصوصا في الوقت الحالي، مع اتساع رقعة المنصات الاجتماعية وسهولة النشر الذي يستغله البعض لبث الأخبار الملفقة أو المعلومات الخاطئة لدعم نظريات المؤامرة، والتي لم تقتصر على الجائحة الحالية واللقاح والعلاج، بل تطال كل شيء».
وفي ظل انتشار كم هائل من الأخبار والمعلومات حول اللقاح المستقبلي، تارة للإشادة بفاعليته المحتملة لتحفيز الناس على الإقبال عليه حالما الانتهاء من المراحل التجريبية، وتارة أخرى للتشكيك في سلامته وقدرته الطبية على العلاج لثني الناس عن تجريبه، أعلن موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، أنه سيبدأ في حظر الإعلانات التي تثني الناس بطريقة مباشرة عن الحصول على اللقاحات، وذلك في إطار حملة واسعة للنهوض بالصحة العامة.
كما قرر موقع «يوتيوب» حظر مقاطع الفيديوهات والمحتويات التي تتضمن معلومات مغلوطة حول لقاحات فيروس كورونا (كوفيد-19) التي تتعارض مع الحقائق الواردة من منظمة الصحة العالمية والسلطات الصحية المحلية، وذلك في إطار منع المستخدمين من نشر معلومات كاذبة حول اللقاحات.
وعن جدوى اللقاح، أكد الخبير أن «إيجاد لقاح آمن وفعال ضد (كوفيد-19) يعد ركنا أساسيا ومهما للحد من الوباء والقضاء عليه، بجانب الإجراءات الأخرى المعمول بها»، مردفا أنه «فبفضل التلقيح يمكننا حماية المهنيين الصحيين والمتدخلين الأولين في مواجهة الوباء لمواصلة عملهم، وحماية الناس وخصوصا المسنين وذوي الأمراض المزمنة ضد الوباء وضد خطر الوفاة بسبب المرض، وفتح اقتصادنا والحفاظ على المدارس والجامعات والمعامل مفتوحة، والحفاظ على حياة اجتماعية لائقة، كما سيمكن التلقيح الوصول للمناعة الجماعية التي تقضي على الوباء وتحمي من لم نتمكن من تلقيحه لأسباب عدة».
وبخصوص الأصوات المشككة في نجاعة اللقاح، قال المتحدث حمضي إن «هناك اليوم أكثر من 170 لقاحا ضد كوفيد-19 قيد الدرس، منها 44 مشروع لقاح وصل إلى مرحلة التجارب السريرية ضمنها 11 لقاحا في المرحلة الثالثة التي تقود للاعتماد أو الرفض»، مشيرا إلى أن جميع السلطات الصحية الدولية والوطنية مصممة على عدم تبني أي لقاح إلا في حال أثبت جميع شروط الفعالية والأمان.
وذكر بأن التشكيك مسألة لا تتعلق بلقاح كوفيد، فحسب، بل تشمل كل مناحي العلم والحياة، كالتشكيك في وصول الإنسان لسطح القمر وكروية الأرض وامان الهاتف السلكي التقليدي و«الويفي»، ناهيك عن التلقيحات الأخرى، لذلك، يقول الباحث في مجال السياسات والنظم الصحية، «نحن نعتمد على العلم وليس غيره. ونفهم أن نظريات التشكيك جزء من السيرورة البشرية لأسباب نفسية واجتماعية وأحيانا سياسية يجب التعامل معها بالعلم وبهدوء ومحاولة فهم دوافعها وظروف سقوط بعض الناس من مختلف المستويات في براثنها».
وأورد السيد حمضي أن العالم والمغاربة أدركوا أهمية التلقيح في الحفاظ على صحتهم وحياتهم ضد الأمراض المعدية مثل الحصبة والسعال الديكي وشلل الأطفال والكزاز والتهاب السحايا (مينانجيت) وغيرها من الأمراض، مشددا على أهمية التلقيح الذي ينقذ ملايين الأرواح كل سنة، حيث أنقذت هذه العملية ضد الحصبة وحدها، منذ سنة 2000 إلى اليوم، حياة أزيد من 18 مليون طفل.
وخلص المتحدث إلى أن الدراسات أظهرت أنه وباستثناء توفير الماء الصالح للشرب لمعظم سكان الكرة الأرضية، لا شيء أبدا تفوق على التلقيح في إنقاذ الأرواح وتحقيق الصحة، بما فيها اكتشاف المضادات الحيوية التي وإن كانت تعد أمرا عظيما في تاريخ البشرية، فإن استعمالها ونجاحها في مواجهة عدة أمراض تعفنية إلى اليوم، لم يتفوقا على النتائج التي حققها التلقيح.
من جنين أجهض في السبعينات إلى لقاحات لكوفيد-19
خلايا «إتش إي كاي 293» باتت خالدة
في آلاف المختبرات الطبية الحيوية ومصانع الأدوية حول العالم، تستخدم خلايا مشتقة من جنين أجهض قبل عقود بهدف تطوير علاجات ولقاحات، لكن شخصيات محافظة ومناهضة للإجهاض في الولايات المتحدة تحتج باستمرار ضد استخدام هذه الخلايا لأسباب أخلاقية، كما حدث عندما أعطي دونالد ترامب علاجا جينيا لكوفيد-19.
وقال البروفسور أندريا غامبوتو الذي يستخدم هذه الخلايا المسماة “إتش إي كاي 293” في مختبر أبحاث اللقاحات في جامعة بيتسبرغ منذ 25 عاما، لوكالة فرانس برس “عدم استخدامها جريمة، فهي لا تسبب أذى لأحد. تستخدم خلايا من جنين ميت للبحوث بدلا من التخلص منها”.
وشرح الباحث أن ميزة هذه الخلايا التي أصبحت “خالدة” في أوائل السبعينات هي أنها معيار في صناعة الأدوية. إذا نجح هو نفسه يوما في تطوير لقاح ضد كوفيد-19 في مختبره، فسيكون بمقدور أي مصنع إنتاجه على نطاق واسع بفضل “إتش إي كاي 293”.
وقال “يمكنني أن أذهب إلى الهند وأن أصنع لقاحا للعالم كله”.
وللذين يريدون تطوير بديلا، أكد “ما فائدة العودة 30 عاما إلى الوراء لإعادة اختراع العجلة”.
عادة، يمكن للخلية أن تنقسم لمرات محدودة لكن فرانك غراهام تمكن من تعديل هذه الخلايا بحيث تنقسم إلى ما لا نهاية.
وكانت هذه تجربته رقم 293 ومن هنا جاء اسمها “إتش إي كاي”، أي اختصار “خلايا الكلى الجنينية البشرية”، 293.
وشرح فرانك غراهام الأستاذ الفخري في جامعة ماكماستر الكندية والمتقاعد حاليا في إيطاليا، لوكالة فرانس برس “لم يكن من النادر استخدام أنسجة جنينية في ذلك الوقت” وتابع “كان الإجهاض غير قانوني في هولندا حتى العام 1984 إلا لإنقاذ حياة الأم. لذلك، افترضت أن الخلايا المستخدمة في مختبر لايدن كانت من إجهاض علاجي”.
وغالبا ما يرغب مطورو اللقاحات باستخدام خلايا “إتش إي كاي 293” لأنها مرنة وقابلة للتحويل إلى مصانع فيروسات صغيرة. ودائما ما تحتاج زراعة فيروسات إلى خلية مضيفة: يمكن أن تكون بيضة دجاج لكن الخلايا البشرية هي الفضلى في الطب البشري.
لكن لماذا إنتاج الفيروسات؟ لأن ثمة طريقة لانتاج اللقاح تقوم على حقن شخص بشحنة خفيفة ومعدلة الفيروس هو ما يسمى “ناقل الفيروس”.
وفي حالة كوفيد-19، تحاول العديد من المختبرات استخدام خلايا “إتش إي كاي 293” لصنع فيروسات متحولة وغير ضارة وغالبا ما تكون فيروسات غدانية تحوي على سطحها الطرف المميز لفيروس كورونا. وعندما يتم حقن الفيروس الغداني المعدل في شخص ما، ينتج جهاز المناعة أجساما مضادة ما يضمن الحماية ضد الغزو المحتمل لفيروس كورونا الحقيقي في المستقبل.
وحاليا، ثمة ثلاثة مصانع تستخدم هذه التقنية لإنتاج لقاح لفيروس كورونا هي “أسترازينيكا/أكسفورد” و”كانسينو” و”معهد غاماليا”.
وتستخدمها شركات أخرى مثل “موديرنا” و”فايزر” و”ريجيرون” لتصنيع “فيروس كورونا كاذب” لاختبار لقاح أو علاجات.
في السابق، انتجت لقاحات ضد إيبولا والسل وعلاجات جينية أيضا باستخدام هذه الخلايا التي يحتمل وجود حوالى مئة سلالة مشتقة عنها وفقا لفرانك غراهام.
وختم غراهام الذي يفضل عدم التعليق على الخلافات الدورية حول أصل الخلايا “أشعر بارتياح كبير لأن الخلايا التي أنشأتها قبل حوالى 50 عاما، لعبت دورا رئيسيا في تقدم العديد من الأبحاث الطبية الحيوية”.