المؤرخ والباحث في التاريخ المعاصر مصطفى المرون لـ «الاتحاد الاشتراكي»:

إسبانيا ملزمة اليوم بتقديم اعتذار رسمي للمغرب، وجبر الضرر الفردي والجماعي للضحايا المصادر والمراجع الإسبانية تلتقي في تهميش «المغربي»

الذي كبد الإسبان خسائر وهزيمة غير متوقعة

 

تحل اليوم 21 يوليوز 2021 الذكرى المائوية لانتصار المقاومة الريفية المغربية تحت قيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي على الجيش الكولونيالي الإسباني يوم 21 يوليوز 1921، والتي عرفت في أبجديات التاريخ الإسباني باسم «كارثة أنوال el desastre de Anual»، أو «كابوس الريف la pesadilla del Rif».
وإلى اليوم، لا تزال حروب الريف التحريرية الثلاث (معركة سيدي ورياش، حرب الريف الأولى بقيادة الشريف أمزيان، معركة أنوال) تمارس تأثيرها على الرأي العام الإسباني بفعل تكسيرها لبينة التفوق، ولثنائية ما سيعرف لاحقا بـ: شمال – جنوب المتجذرة في الوعي الجمعي الإسباني. ولعل ما يغذي هده الرؤية هو استمرار هيمنة الإسطوغرافيات الكلاسيكية الإسبانية في الترويج لمثل هذا المنطق الاستعلائي، وهو ما يطرح على الباحثين والمؤرخين المغاربة، مهمة استجلاء الحقيقة في كل ما حدث خلال حرب الريف خصوصا في ما يتعلق بملف الغازات السامة التي استعملت ضد سكان الريف، ولا تزال تداعياتها ترخي بظلالها على صحة الساكنة والمجال في غياب اعتراف رسمي من إسبانيا بمسؤوليتها ما جرى، أو مسؤولية شركائها في هذه الجريمة رغم ظهور وثائق ضمن الأرشيف العسكري الإسباني والألماني والفرنسي كالوثائق المتعلقة بالزعيم عبد الكريم الخطابي، أو مراسلات السلطان مولاي يوسف.
في هذا الحوار مع الدكتور مصطفى المرون، أستاذ التاريخ المعاصر والباحث السابق بمركز الدراسات المعاصرة بمدريد التابع لجامعة لندن، نسلط الضوء على ما صاحب حرب الريف، ومعركة أنوال أساسا، من تجاوزات وممارسات مجرمة دوليا تحاول الإسطوغرافيات الإسبانية التعتيم عليها بطروحات لا تزال تحن للماضي الكولونيالي الذي لم يستوعب بعد الهزيمة التي قوضت أركان دولة كان تصارع من أجل اقتسام خيرات المستعمرات رفقة حلفائها، من أجل بناء اقتصاداتها الوطنية على حساب الجنوب الضعيف والمفكك

 

 تحل اليوم الذكرى المائوية لمعركة أنوال في ظرفية جد دقيقة من تاريخ العلاقات المغربية – الإسبانية، كيف يمكن أن نقرأ الذكرى على ضوء هذه المستجدات؟

من الطبيعي أن يكون لدول الجوار تاريخ مشترك وتتقاسم مع بعضها ذاكرة تاريخية وجماعية، لربما تحتمل التكامل والتعاون، ولكن في بعض الأحيان تنبثق منها جراح الماضي، لهذا، يمكن استحضار هذه الذكرى المائوية لمعركة أنوال في خضم التعمق كثيرا في ما خلفته الصراعات والحروب من مآسٍ لا تزال ترخي بظلالها على العلاقات ما بين الشعبين المغربي والإسباني، والتي جعلت الصورة السلبية لـ»المورو» الشرس والمتخلف، والإسباني «بورقعة» المعوز والهارب من براثن القهر والفقر تتداول بين الجانبين المغربي والإسباني، والتي تتطلب اليوم التصالح مع الذاكرة التاريخية والجماعية المشتركة، لفهم الماضي وتجاوز جراحه الأليمة لبناء الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل المبني على التعاون وحسن الجوار.

 

اشتغلتم لفترة كباحث بمركز الدراسات الإسبانية المعاصرة. من خلال احتكاككم بالمؤرخين والأكاديميين الإسبان، كيف تقرأون استمرار هيمنة الإسطوغرافيات الكلاسيكية بإسبانيا؟

أعتقد أن الجواب يكون على الفترة التي قضيتها في جامعة غرناطة بإسبانيا لإنجاز أطروحة الدكتوراه، أما العمل كباحث في مركز الدراسات الإسبانية المعاصرة، فلم يمكني من الاحتكاك بالمؤرخين والأكاديميين الإسبان، بل بالمؤرخين والأكاديميين الإنجليز، لأن مركز الدراسات هذا كان تابعا لجامعة لندن، ويهتم بالدراسات الإسبانية المعاصرة.
مهما يكن من أمر، فإن استمرار هيمنة الإسطوريوغرافيا الكلاسيكية بإسبانيا التي تعود إلى فترات ماضية، والتي لا تزال تطبع مشهد الدراسات الإسبانية المعاصرة، يعود بالأساس إلى غياب مؤرخين وباحثين وأكاديميين مغاربة لمنافحة ومناكفة الطرح الإسباني غير الموضوعي تجاه التاريخ المشترك المغربي الإسباني، ويعود هذا بالأساس إلى عدم إتقان اللغة الإسبانية، والمعرفة العميقة بخصوصية الثقافة والمجتمع الإسبانيين، مما يعيق الإدلاء بوجهة النظر المغربية في الأحداث التي طبعت مسار التاريخ المشترك المغربي الإسباني.
لإعطاء المثال على ذلك، عندما كنت أعد أطروحة الدكتوراه في جامعة غرناطة بإسبانيا حول «مساهمة الجنود المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية»، كانت المصادر والمراجع الإسبانية، سواء المساندة للجنرال فرانكو أو المتعاطفة مع الجمهورية، متفقة على تشويه وتهميش الدور المغربي في هذه الحرب، وهذا راجع إلى أن الجانبين كانت لهما عقدة من «المغربي» الذي كبدهم خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد خلال الحروب الكولونيالية، وخير دليل على ذلك، معركة أنوال التي نحتفل اليوم 21 يوليوز بذكراها المائوية. لهذا، كانت مسؤوليتي كمؤرخ مغربي أن أعمل على إعادة الوثائق التي استند إليها الإسبان والأجانب، وكذا، البحث عن وثائق ومصادر مغربية، خصوصا شهادات قدماء المحاربين المغاربة المشاركين في الحرب الأهلية الإسبانية، مما مكنني من إقرار طرح مغربي يفند كل ما أُريدَ له أن يكون سلبيا في هذه الحرب بالنسبة للمغاربة، فكانت الأطروحة التي نشرت ككتاب سنة 2003 في مدريد، كأول عمل أكاديمي باللغة الإسبانية حول مشاركة المجندين المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية.

 

 كيف يمكن الربط ما بين هزيمة الجيش الإسباني في معركة أنوال يوم 21 يوليوز 1921، ولجوء القيادة العسكرية الإسبانية إلى استخدام الغازات الكيماوية؟

شكلت الحرب الكيماوية، التي لجأت إليها إسبانيا ضد منطقة الريف وجبالة خلال عشرينيات القرن الماضي (1921 – 1927)، أحد المواضيع التي أثارت الكثير من النقاش، بفعل التعتيم الذي مارسته الإسطوريوغرافيا الإسبانية على الموضوع، نظرا لمعاكسة هذه الحرب للمواثيق الدولية، التي حظرت إنتاج واستخدام الغازات الكيماوية بمختلف أنواعها لأهداف قتالية.
من الناحية الاصطلاحية، يمكن إدراج كلمة «الحرب الكيماوية» في القاموس العسكري ضمن «الحروب الحديثة»، بحيث لم يكن هذا النوع من الحروب معروفا إلا مع الحرب العظمى (1914 – 1918)، حين تم استخدام، ولأول مرة في التاريخ غازات خانقة، من مثل الغازات المسيلة للدموع، وغاز الكلور الخانق، ثم غاز الفوسجين سنة 1915، كما سيتم اللجوء، منذ سنة 1917، إلى استخدام الغازات الحارقة les vasicants، خصوصا غاز خردل الكبريت Dicloretilsulfurique، الذي حمل اسم «غاز الإيبيريت Ypérite، نسبة إلى جبهة إيبر Ypres ببلجيكا، التي استخدم فيها لأول مرة سنة 1917 كما سبقت الإشارة.
p في ما يتعلق بالمغرب، فإن هزيمة الجيش الإسباني في معركة أنوال يوم 21 يوليوز 1921، دفعت إسبانيا إلى استخدام السلاح الكيماوي، خصوصا بعد تعالي الأصوات داخل منابر الصحافة والبرلمان الإسباني، وحتى داخل الأوساط العسكرية بالتساؤل لماذا لم يلجأ الجيش الإسباني إلى هذا النوع من الحروب الحديثة، للحيلولة دون اهتزاز صورته وشرفه أمام الرأي العام الإسباني والدولي.

منذ مدة وجيزة بدأت تنكشف بعض خيوط هذه الحرب بفضل عدد من المؤرخين والباحثين الغربيين والمغاربة، بعد كل هذه المدة هل هناك من حقائق جديدة في الموضوع؟

كنت قد عملت منذ سنة 2000 كباحث مساعد مع مركز الدراسات الإسبانية المعاصرة التابع لجامعة لندن بإنجلترا، إلى جانب المؤرخ الإنجليزي سيباستيان بالفور، والذي توج بإصدار كتاب في الموضوع. وقد كنا السباقين في الكشف عن رموز القنابل الكيماوية، التي كانت يشار إليها في الأرشيفات الإسبانية بأسماء فضفاضة. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أقوم بأبحاث في هذا الموضوع، حيث عثرت على مصادر مغربية غير معروفة، منها مخطوطات، أو وثائق غميسة تعطي الجديد في ما يتعلق بهذه الحرب في علاقتها مع المغرب.

 هل يمكن القول مع توفر كل الدلائل التاريخية اليوم بكون إسبانيا متورطة باستخدام الغازات الكيماوية في حربها ضد حركة المقاومة بالريف وجبالة؟

الأمر مؤكد اليوم، سواء من خلال الأرشيف الألماني أو الفرنسي أو الإسباني، أو بعض المصادر المغربية، كالوثائق المتعلقة بالزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومراسلات السلطان مولاي يوسف.
هل ثمة معطيات دقيقة تفيد تورط دول أخرى في هذه الجريمة من قبيل فرنسا، ألمانيا وبريطانيا؟
بالفعل، فهناك مساعدة ألمانية مرت عبر وساطة الخبير في مجال الغازات الكيماوية هوغو سطولسزينبيرغ، الذي اشترى لإسبانيا المواد الكيماوية من الترسانة الألمانية التي تم تفكيكها وفق معاهدة فرساي سنة 1919، والذي جاء إلى المغرب من أجل دراسة التضاريس المغربية، واقتراح نوعية الغاز الموافق لها، وبالتأكيد كان غاز الخردل هو المناسب للبيئة المغربية. ينضاف إلى ذلك، مشاركة تقنيين ألمان في السهر على معامل إنتاج وتعبئة الغازات. في نفس السياق، كان تورط فرنسا عن طريق مصنع شنايدر، الذي ساهم في تزويد المصانع الكيماوية الإسبانية بالغازات الكيماوية، في حين كان تورط بريطانيا، في الصمت تجاه هذه الجريمة ضد الإنسانية، عندما رصدت أجهزتها الاستخبارية مراسلات تلغرافية بين الضباط الإسبان، وكذا تعرض المغاربة للقصف بالغازات الكيماوية، خصوصا في ضواحي طنجة. فوثائق وزارة الخارجية البريطانية التي أشار إليها القنصل العام البريطاني في طنجة: الأولى تعود إلى شهر دجنبر من سنة 1924، يذكر فيها أن ممثلا لقبيلة أنجرة قصده يوم 20 من نفس الشهر ليشتكي إليه من الغارات بقنابل كيماوية على مداشر هذه القبيلة من طرف طيارين إسبان، حيث أدى هذا إلى عمى أو فقدان المتضررين بصفة مؤقتة للبصر، كما حدثت إصابات بين النساء والأطفال. كذلك، لا يمكن المرور في هذا الصدد على مشاركة السرب الجوي الأمريكي «لافاييت Lafayette» في عمليات القصف ضد المقاومة الريفية والجبلية (بداية شهر غشت ونهاية شهر أكتوبر من سنة 1925)، لكن المسؤولية الكاملة تتحملها فرنسا التي جندت هؤلاء المرتزقة الأمريكيين، خارقة بذلك القانون الأمريكي وحتى الفرنسي.

هناك بعض الكتابات التي تثير مسؤولية الدولة المغربية في هذه الحرب، إلى أي حد هناك معطيات تاريخية دقيقة تثبت هذا الاستنتاج؟

كنت قد نشرت مقالا في جريدة «الأيام» العدد 573، 30 مايو / 5 يونيو 2013، ص.21، تحت عنوان: «قضية تورط السلطان مولاي يوسف في حرب الغازات الكيماوية بالريف بين الحقيقة والطرح الإيديولوجي»، حاولت من خلال وثائق تاريخية نفي هذه التهمة التي ألصقت بسلطان المغرب مولاي يوسف، محاولا إنهاء هذا النقاش البوليمي الذي ثار خلال العقد الأخير، والقائل بأن السلطان مولاي يوسف تورط في الحرب الكيماوية للقضاء على الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، لكن هذا الطرح يستند إلى توجهات إيديولوجية، كما أن أغلبية المستندين إليه هم ليسوا مؤرخين، وبالأحرى أن يكونوا مختصين في هذا الموضوع الحساس، وأن طروحاتهم هي عبارة عن تصفية حسابات سياسوية ضيقة، دون الاستناد إلى وثائق تاريخية تؤكد طرحهم. فالسلطان مولاي يوسف استشاط غضبا عندما علم بتعرض سكان قرى محاذية لمنطقة طنجة للقصف بواسطة غاز الخردل، وكانت الخسائر البشرية عدت بحوالي 88 شخصا، فأرسل برقية إلى الجنرال ليوطي يهدد فيها بإعلان نداء في المساجد ضد العدوان الذي يتعرض له رعاياه إن لم تتوقف إسبانيا عن هذه الأعمال الوحشية، وهذا ما يؤكد موقف السلطان الصحيح من استخدام إسبانيا للقنابل الكيماوية ضد المغاربة العزل.
هناك من الجانب الإسباني من يزعم أن إسبانيا غير مطالبة بالاعتذار على أساس أن هناك مغاربة شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية واقترفوا هم أيضا جرائم، فإلى أي حد يمكن القول بأن هذا الطرح أو هذه المعادلة سليمة؟.
هذا الطرح كان قد اعتمده كل من المؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا، والمؤرخ الإسباني أنخيل بينياس. وكمختص في الموضوع، كنت قد نشرت كتابا باللغة الإسبانية في مدريد بإسبانيا سنة 2003، وهو أول عمل أكاديمي في الموضوع، يحمل عنوان Las tropas marroquíes en la Guerra Civil Española (1936 – 1939)، ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان: «فرق الجيش المغربي في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)»، يمكني التأكيد على أنه لا علاقة للموضوعين ببعضهما، فتدخل المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية كان قانونيا، بحيث إن فرق الجيش المغربي كانت تشكل الفرق العسكرية الأهلية ضمن الجيش الإسباني، والتي توسعت قاعدتها بعد اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، وما يدحض طرح مادارياغا وبينياس، هو أن الجمهورية الإسبانية نفسها سنة 1934، كانت قد اعتمدت فرق الجيش المغربي في القضاء على انتفاضة أستورياس، كما أن الجنود المغاربة لم يرتكبوا أية جرائم حرب إبان المعارك داخل إسبانيا، حيث خصصت حيزا ضمن الكتاب لدحض هذه القضية. في حين أن استعمال إسبانيا للغازات الكيماوية يدخل ضمن خانة الجرائم ضد الإنسانية، لأن الأوفاق الدولية حظرت إنتاج واستخدام الغازات الكيماوية، خصوصا بروتوكول جنيف لسنة 1925، الذي لم تلتزم به إسبانيا أبدا، وهو ما يجعلها اليوم ملزمة بتقديم اعتذار رسمي للمغرب، وجبر الضرر الفردي والجماعي للضحايا.

 هل هناك إثبات علمي حول العلاقة ما بين انتشار مرض السرطان في منطقة الحماية الإسبانية بشمال المغرب واستعمال إسبانيا للغازات الكيماوية؟

يشير René Pita، أستاذ بالمدرسة العسكرية للدفاع (النووية، البيولوجية والكيميائية)، ومتعاون مع شعبة علم التسمم والصيدلة بكلية البيطرة بجامعة كوملوطينسي بمدريد، اعتمادا على الدراسات التي أجريت من طرف خبراء عالميين من مختلف الدول، إضافة إلى دراسات وزارة الدفاع بالولايات المتحدة، أن أضرار الإيبيريطا يمكن أن تسبب مرض السرطان. كذلك، هناك دلائل افتراضية بواسطة المعاينة السريرية على أن غاز الخردل يمكن أن يكون السبب في تغير الجينات والنقل الوراثي للسرطان من المصابين بالغازات الكيماوية لسنوات العشرينات إلى سلالتهم اللاحقة. لقد أشارت التجارب التي أجريت على الحيوانات بالولايات المتحدة وفي أماكن أخرى، على أن مادة غاز الخردل تسبب أضرارا وراثية ويمكنها إحداث تشوهات وراثية في خلايا الخصوبة والنسل.


الكاتب : أجرت الحوار: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 20/07/2021